الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
الجزء الثامن {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)} جملة {وَلَوْ أَنَّنَا} معطوفة على جملة {وما يُشعركم} [الأنعام: 109] باعتبار كون جملة {وما يُشعركم عطفاً على جملة قل إنّما الآيات عند الله} [الأنعام: 109]، فتكون ثلاثتها ردّا على مضمون جملة {وأقسموا بالله جَهْد أيمانهم لئن جاءتهم آية} [الأنعام: 109] إلخ، وبيانا لجملة {وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون} [الأنعام: 109]. روى عن ابن عبّاس: أنّ المستهزئين، الوليدَ بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسودَ بن عَبْدِ يغوثَ، والأسودَ بنَ المطّلب، والحارثَ بن حنظلة، من أهل مكّة. أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رَهْط من أهل مكّة فقالوا: " أرِنا الملائكةَ يشهدون لك أوْ ابعث لنا بعض موتانا فنسألهم: أحقّ ما تقول " وقيل: إن المشركين قالوا: «لا نؤمن لك حتَّى يُحشر قُصَيٌ فيُخبِرَنا بصِدْقك أو ائتِنا بالله والملائكة قبيلاً أي كفيلاً» فنزل قوله تعالى: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة} للردّ عليهم. وحكى الله عنهم {وقالوا لن نؤمن لك إلى قوله أو تأتي بالله والملائكة قبيلا في سورة الإسراء: (90 92). وذَكر ثلاثة أشياء من خوارق العادات مسايرة لمقترحاتهم، لأنَّهم اقترحوا ذلك. وقوله: وحَشَرنا عليهم كلّ شيء} يشير إلى مجموع ما سألوه وغيرِه. والحَشر: الجمع، ومنه: {وحُشر لسليمان جنوده} [النمل: 17]. وضمّن معنى البعث والإرسَاللِ فعُدّي بعلَى كما قال تعالى: {بعثنا عليكم عباداً لنا} [الإسراء: 5]. و{كل شيء} يعمّ الموجودات كلّها. لكن المقام يخصّصه بكلّ شيء ممّا سألوه، أو من جنس خوارق العادات والآيات، فهذا من العام المراد به الخصوص مثل قوله تعالى، في ريح عاد {تدمر كل شيء بأمر ربها} [الأحقاف: 25] والقرينة هي ما ذكر قبله من قوله: {ولو أنَّنا نزّلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى}. وقوله: {قِبَلاً} قرأه نافع، وابن عامر، وأبو جعفر بكسر القاف وفتح الباء، وهو بمعنى المقابلة والمواجهة، أي حشرنا كلّ شيء من ذلك عياناً. وقرأه الباقون بضمّ القاف والباء وهو لغة في قِبَل بمعنى المواجهة والمعاينة؛ وتأوّلها بعض المفسّرين بتأويلات أخرى بعيدة عن الاستعمال، وغير مناسبة للمعنى. و {ما كانوا ليؤمنوا} هو أشدّ من (لا يؤمنون) تقوية لنفي إيمانهم، مع ذلك كلّه، لأنَّهم معاندون مكابرون غير طالبين للحقّ، لأنَّهم لو طَلَبوا الحقّ بإنصاف لكفتْهم معجزة القرآن، إنْ لَمْ يكفهم وضوح الحقّ فيما يدْعُو إليه الرّسول عليه الصلاة والسلام. فالمعنى: الإخبار عن انتفاء إيمانهم في أجدر الأحوال بأن يؤمن لها من يؤمن، فكيف إذا لم يكن ذلك. والمقصود انتفاء إيمانهم أبداً. {ولو} هذه هي المسماة {لَوْ} الصهيبية، وسنشرح القول فيها عند قوله تعالى: {ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون في سورة الأنفال (23). وقوله: {إلا أن يشاء الله} استثناء من عموم الأحوال التي تضمّنها عموم نفي إيمانهم، فالتّقدير: إلاّ بمشيئة الله، أي حال أن يشاء الله تغيير قلوبهم فيؤمنوا طوعاً، أو أن يكرههم على الإيمان بأن يسلّط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم كما أراد الله ذلك بفتح مكّة وما بعده. ففي قوله: {إلا أن يشاء الله} تعريض بوعد المسلمين بذلك، وحذفت الباء مع «أنْ». ووقع إظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار: لأنّ اسم الجلالة يوميء إلى مقام الإطلاق وهو مقامُ {لا يُسأل عمّا يفعل} [الأنبياء: 23]، ويومئ إلى أنّ ذلك جرى على حسب الحكمة لأنّ اسم الجلالة يتضمّن جميع صفات الكمال. والاستدراك بقوله: {ولكن أكثرهم يجهلون} راجع إلى قوله: {إلا أن يشاء الله} المقتضي أنّهم يؤمنون إذا شاء الله إيمانهم: ذلك أنَّهم ما سألوا الآيات إلاّ لتوجيه بقائهم على دينهم، فإنَّهم كانوا مصمّمين على نبذ دعوة الإيمان، وإنَّما يتعلَّلون بالعلل بطلب الآيات استهزاء، فكان إيمانهم في نظرهم من قبيل المحال، فبيّن الله لهم أنَّه إذا شاء إيمانَهم آمنوا، فالجهل على هذا المعنى: هو ضدّ العلم. وفي هذا زيادة تنبيه إلى ما أشار إليه قوله: {إلا أن يشاء الله} من أنّ ذلك سيكون، وقد حصل إيمان كثير منهم بعد هذه الآية. وإسناد الجهل إلى أكثرهم يدلّ على أنّ منهم عقلاء يحسبون ذلك. ويجوز أن يكون الاستدراك راجعاً إلى ما تضمّنه الشّرط وجوابُه: من انتفاء إيمانهم مع إظهار الآيات لهم، أي لا يؤمنون، ويزيدهم ذلك جهلاً على جهلهم، فيكون المراد بالجهل ضدّ الحلم، لأنَّهم مستهزئون، وإسناد الجهل إلى أكثرهم لإخراج قليل منهم وهم أهل الرأي والحلم فإنَّهم يرجى إيمانهم، لو ظهرت لهم الآيات، وبهذا التّفسير يظهر موقع الاستدراك. فضمير {يجهلون} عائد إلى المشركين لا محالة كبقية الضّمائر التي قبله.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} اعتراض قصد منه تسلية الرّسول صلى الله عليه وسلم والواو واو الاعتراض، لأنّ الجملة بمنزلة الفذلكة، وتكون للرّسول صلى الله عليه وسلم تسلية بعد ذكر ما يحزنه من أحوال كفار قومه، وتصلبّهم في نبذ دعوته، فأنبأه الله: بأنّ هؤلاء أعداؤه، وأن عداوة أمثالهم سنة من سنن الله تعالى في ابتلاء أنبيائه كلّهم، فما منهم أحد إلاّ كان له أعداء، فلم تكن عداوة هؤلاء للنبيء عليه الصلاة والسلام بِدْعا من شأن الرّسل. فمعنى الكلام: ألَسْتَ نبيئا وقد جعلنا لكلّ نبيء عدوّا إلى آخره. والإشارة بقوله: {وكذلك} إلى الجعل المأخوذ من فعل {جعلنا} كما تقدّم في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً} [البقرة: 143]. فالكاف في محل نصب على أنّه مفعول مطلق لفعل {جعلنا}. وقوله: {عدواً} مفعول {جعلنا} الأوّل، وقوله: {لكل نبي} المجرور مفعول ثان ل {جعلنا} وتقديمه على المفعول الأول للاهتمام به، لأنّه الغرض المقصود من السّياق، إذ المقصود الإعلام بأنّ هذه سنّة الله في أنبيائه كلّهم، فيحصل بذلك التَّأسِّي والقُدوة والتّسلية؛ ولأن في تقديمه تنبيهاً من أول السمع على أنه خبر، وأنه ليس متعلّقا بقوله: {عدواً} كيلا يخال السّامع أنّ قوله: {شياطين الإنس} مفعول لأنّه يُحَوّل الكلام إلى قصد الإخبار عن أحوال الشّياطين، أو عن تعيين العدوّ للأنبياء من هو، وذلك ينافي بلاغة الكلام. و {شياطين} بدل من {عدواً} وإنَّما صيغ التّركيب هكذا: لأنّ المقصود الأوّل الإخبار بأنّ المشركين أعداء للرّسول صلى الله عليه وسلم فمن أعرب {شياطين} مفعولاً ل {جَعل} و{لكل نبي} ظرفاً لغواً متعلِّقاً ب {عدوّا} فقد أفسد المعنى. والعَدُوّ: اسم يقع على الواحد والمعتددّ، قال تعالى: {هم العدوّ فاحذرهم} [المنافقون: 4] وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى: {فإن كان من قوم عدوّ لكم} في سورة النساء (92). والشّيطان أصله نوع من الموجودات المجرّدة الخفية، وهو نوع من جنس الجنّ، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان} [البقرة: 102]. ويطلق الشّيطان على المضلّل الّذي يفعل الخبائث من النّاس على وجه المجاز. ومنه «شياطين العرب» لجماعة من خباثهم، منهم: ناشب الأعور، وابنُه سعد بن ناشب الشّاعر، وهذا على معنى التّشبيه، وشاع ذلك في كلامهم. والإنس: الإنسان وهو مشتقّ من التأنّس والإلْف، لأنّ البشر يألف بالبشر ويأنس به، فسمّاه إنساً وإنساناً. و«شياطين الإنس» استعارة للنّاس الّذين يفعلون فعل الشّياطين: من مكر وخديعة. وإضافة شياطين إلى الإنس إضافة مجازية على تقدير (مِن) التبعيضية مجازا، بناء على الاستعارة التي تقتضي كون هؤلاء الإنس شياطين، فهم شياطين، وهم بعض الإنس، أي أنّ الإنس: لهم أفراد متعارفة، وأفراد غير متعارفة يطلق عليهم اسم الشّياطين، فهي بهذا الاعتبار من إضافة الأخصّ من وجهٍ إلى الأعمّ من وجهٍ، وشياطين الجنّ حقيقة، والإضافة حقيقة، لأنّ الجنّ منهم شياطين، ومنهم غير شياطين، ومنهم صالحون، وعداوة شياطين الجنّ للأنبياء ظاهرة، وما جاءت الأنبياء إلاّ للتحذير من فعل الشّياطين، وقد قال الله تعالى لآدم: {إنّ هذا عدوّ لك ولزوجك} [طه: 117]. وجملة {يوحى} في موضع الحال، يتقيّد بها الجَعل المأخوذ من {جعلنا} فهذا الوحي من تمام المجعول. والوحي: الكلام الخفي، كالوسوسة، وأريد به ما يشمل إلقاء الوسوسة في النّفس من حديث يُزوّر في صورة الكلام. والبعض الموحي: هو شياطين الجنّ، يُلقون خواطر المقدرة على تعليم الشرّ إلى شياطين الإنس، فيكونون زعماء لأهل الشرّ والفساد. والزّخرف: الزّينة، وسمّي الذهب زُخرفاً لأنَّه يتزيَّن به حَلياً، وإضافة الزخرف إلى القول من إضافة الصّفة إلى الموصوف، أي القول الزُخرف: أي المُزَخْرَف، وهو من الوصف بالجامد الّذي في معنى المشتق، إذ كان بمعنى الزيْن. وأفهم وصف القول بالزُخرف أنّه محتاج إلى التّحسين والزخرفَة، وإنَّما يحتاج القول إلى ذلك إذا كان غير مشتمل على ما يكسبه القبول في حدّ ذاته، وذلك أنّه كان يفضي إلى ضُرّ يحتاج قائله إلى تزيينه وتحسينه لإخفاء ما فيه من الضرّ، خشية أن ينفر عنه من يُسوله لهم، فذلك التّزيين ترويج يستهوون به النّفوس، كما تموّه للصّبيان اللُّعب بالألوان والتذهيب. وانتصب {زخرف القول} على النيابة عن المفعول المطلق من فِعل {يوحى} لأنّ إضافة الزّخرف إلى القول، الّذي هو من نوع الوحي، تجعل {زخرف} نائياً عن المصدر المبيِّن لنوع الوحي. والغرور: الخِداع والإطماع بالنّفع لقصد الإضرار، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {لا يغرنَّك تقلّب الذين كفروا في البلاد} في سورة آل عمران (196). وانتصب غروراً} على المفعول لأجله لفعل {يوحى}، أي يرحون زخرف القول ليَغُرّوهم. والقول في معنى المشيئة من قوله: {ولو شاء ربك ما فعلوه} كالقول في {ما كانوا ليؤمنوا إلاّ أن يشاء الله} [الأنعام: 111] وقوله: {ولو شاء الله ما أشركوا} [الأنعام: 107] والجملة معترضة بين المفعول لأجله وبين المعطوف عليه. والضّمير المنصُوبُ في قوله: {فعلوه} عائد إلى الوحي. المأخوذ من {يوحى} أو إلى الإشراك المتقدّم في قوله: {ولو شاء الله ما أشركوا} [الأنعام: 107] أو إلى العداوة المأخوذة من قوله: {لكل نبي عدواً}. والضّمير المرفوع عائد إلى {شياطين الإنس والجن}، أو إلى المشركين، أو إلى العدوّ، وفرع عليه أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتركهم وافتراءَهم، وهو تركُ إعراضضٍ عن الاهتمام بغرورهم، والنكدِ منه، لا إعْراض عن وعظهم ودعوتهم، كما تقدّم في قوله: {وأعرض عن المشركين}. والواو بمعنى مع. {وما يفترون} مَوصول منصوب على المفعول معه. وما يفترونه هو أكاذيبهم الباطلة من زعمهم إلهية الأصنام، وما يتبع ذلك من المعتقدات الباطلة.
{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)} عُطف قوله: {ولتصغى} على {غروراً} [الأنعام: 112] لأنّ {غروراً} في معنى ليغرّوهم. واللام لام كي وما بعدها في تأويل مصدر، أي ولصغى، أي مَيل قلوبهم إلى وحيِهم فتقوم عليهم الحجّة. ومعنى {تصغى} تميل، يقال: صَغَى يَصغى صَغْياً، ويَصْغُو صَغواً بالياء وبالواو ووردت الآية على اعتباره بالياء لأنّه رسم في المصحف بصورة الياء. وحقيقته المَيل الحسي، يقال: صَغى، أي مال، وأصغى أمال. وفي حديث الهِرّة: أنّه أصغى إليها الإناءَ، ومنه أطلق: أصغى بمعنى استمع، لأنّ أصله أمال سمعه أو أذُنه، ثمّ حذفوا المفعول لكثرة الاستعمال. وهو هنا مجاز في الاتّباع وقبول القول. والَّذين لا يؤمنون بالآخرة هم المشركون. وخصّ من صفات المشركين عدمُ إيمانهم بالآخرة، فعُرّفوا بهذه الصّلة للإيماء إلى بعض آثار وحي الشّياطين لهم. وهذا الوصف أكبر ما أضرّ بهم، إذ كانوا بسببه لا يتوخّون فيما يصنعون خشية العاقبة وطلَبَ الخير، بل يتَّبعون أهواءهم وما يُزيَّن لهم من شهواتهم، معرضين عمّا في خلال ذلك من المفاسد والكفرِ، إذ لا يترقَّبون جزاء عن الخير والشرّ، فلذلك تصغى عقولهم إلى غرور الشَّياطين. ولا تصغَى إلى دعوة النَّبيء صلى الله عليه وسلم والصّالحين. وعطف {وليرضوه} على {ولتصغى}، وإن كان الصّغْي يقتضي الرّضى ويسبّبه فكان مقتضى الظاهر أن يعطف بالفاء وأن لا تكرّر لام التّعليل، فخولف مقتضى الظاهر، للدلالة على استقلاله بالتّعليل، فعطف بالواو وأعيدت اللاّم لتأكيد الاستقلال، فيدل على أن صَغى أفئدتهم إليه ما كان يكفي لعملهم به إلاّ لأنَّهم رَضُوه. وعطْفُ {وليقترفوا ما هم مقترفون} على وليرضوه كعطف وليرضوه على {ولتصغى}. والاقتراف افتعال من قرف إذا كسب سيئة، قال تعالى بعد هذه الآية: {إنّ الذين يكسبون الإثم سيُجْزون بما كانوا يقترفون} [الأنعام: 120] فذكَرَ هنالك لِ {يكسبون} مفعولا لأنّ الكسب يعمّ الخير والشرّ، ولم يذكر هنا ل {يقترفون} مفعولاً لأنّه لا يكون إلاّ اكتساب الشرّ، ولم يقل: سيُجزْون بما كانوا يكسبون لقصد تأكيد معنى الإثم. يقال: قرف واقترف وقارف. وصيغة الافتعال وصيغة المفاعلة فيه للمبالغة، وهذه المادة تؤذن بأمر ذميم. وحكوا أنَّه يقال: قَرف فلان لِعِيالِه، أي كسب، ولا أحسبه صحيحاً. وجيء في صلة الموصول بالجملة الاسميّة في قوله: {ما هم مقترفون} للدلالة على تمكّنهم في ذلك الاقتراف وثباتهم فيه.
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)} استئناف بخطاب من الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بتقدير الأمر بالقول بقرينة السّياق كما في قوله تعالى: {لا نفرّق بين أحد من رسله} [البقرة: 285] أي يقولون. وقوله المتقدّم آنفاً {قد جاءكم بصائر من ربكم} [الأنعام: 104] بعد أن أخبره عن تصاريف عناد المشركين، وتكذيبهم. وتعنّتهم في طلب الآيات الخوارق، إذ جعلوها حكَماً بينهم وبين الرّسول عليه الصلاة والسلام في صدق دعوته، وبعد أن فضحهم الله بعداوتهم لرسوله عليه الصلاة والسلام، وافترائهم عليه، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم وتركِهم وما يفترون، وأعلمَه بأنَّه ما كلَّفه أن يكون وكيلاً لإيمانهم، وبأنَّهم سيَرجعون إلى ربّهم فينبّئهم بما كانوا يعملون، بعد ذلك كلّه لَقَّن الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخاطبهم خطاباً كالجواب عن أقوالهم وتورّكاتهم، فيفرّع عليها أنّه لا يطلب حاكماً بينه وبينهم غير الله تعالى، الّذي إليه مرجعهم، وأنهم إن طمعوا في غير ذلك منه فقد طمعوا منكراً، فتقدير القول متعيّن لأنّ الكلام لا يناسب إلاّ أن يكون من قول النبي عليه الصلاة والسلام. والفاء لتفريع الجواب عن مجموع أقوالهم ومقتَرحاتهم، فهو من عطف التّلقين بالفاء: كما جاء بالواو في قوله تعالى: {قال إنّي جاعلك للنّاس إماماً قال ومن ذريّتي} [البقرة: 124]، ومنه بالفاء قوله في سورة الزمر (64): {قل أفغيرَ اللَّه تأمرونيَ أعْبُد أيّها الجاهلون} فكأنّ المشركين دعوا النّبي إلى التّحاكم في شأن نبوءته بحكم ما اقترحوا عليه من الآيات، فأجابهم بأنّه لا يضع دِين الله للتّحاكم، ولذلك وقع الإنكار أن يحكِّم غير الله تعالى، مع أنّ حكم الله ظاهر بإنزال الكتاب مفصّلا بالحقّ، وبشهادة أهل الكتاب في نفوسهم، ومن موجبات التّقديم كون المقدّم يتضمّن جواباً لردّ طلب طلبَه المخاطب، كما أشار إليه صاحب الكشاف} في قوله تعالى: {قل أغير الله أبغي رباً في هذه السورة} [الأنعام: 164]. والهمزة للاستفهام الإنكاري: أي إن ظننتم ذلك فقد ظننتم مُنكراً. وتقديم {أفغير الله} على {أبتغي} لأنّ المفعول هو محلّ الإنكار. فهو الحقيق بموالاة همزة الاستفهام الإنكاري، كما تقدّم في قوله تعالى: {قل أغير الله أتَّخذ وليّا} في هذه السورة (14). والحَكَم: الحاكم المتخصّص بالحكم الَّذي لا ينقض حكمه، فهو أخصّ من الحاكم، ولذلك كان من أسمائه تعالى: الحَكَم، ولم يكن منها: الحاكم. وانتصب حكما} على الحال. والمعنى: لا أطلب حكَماً بيني وبينكم غير الله الّذي حكم حُكمَه عليكم بأنَّكم أعداء مقترفون. وتقدّم الكلام على الابتغاء عند قوله تعالى: {أفغيرَ دين الله يبغون} في سورة آل عمران (83). وقوله: وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً} من تمام القول المأمور به. والواو للحال أي لا أعدل عن التّحاكم إليه. وقد فصّل حكمه بإنزال القرآن إليكم لتتدبّروه فتعلَموا منه صدقي، وأنّ القرآن من عند الله. وقد صيغت جملة الحال على الاسميّة المعرَّفةِ الجزأيْن لتفيد القصر مع إفادة أصل الخبر. فالمعنى: والحال أنّه أنزل إليكم الكتاب ولم ينزله غيره، ونكتة ذلك أنّ في القرآن دلالة على أنّه من عند الله بما فيه من الإعجاز، وبأُمِّيَّةِ المنزّل عليه. وأنّ فيه دلالة على صدق الرّسول عليه الصلاة والسلام تبعاً لثبوت كونه منزّلا من عند الله، فإنَّه قد أخبر أنَّه أرسل محمّدا صلى الله عليه وسلم للنّاس كافَّة، وفي تضاعيف حجج القرآن وأخباره دلالة على صدق من جاء به؛ فحصل بصوغ جملة الحال على صيغة القصر الدّلالة على الأمرين: أنَّه من عند الله، والحكممِ للرسول عليه الصّلاة والسّلام بالصّدق. والمراد بالكتاب القرآن، والتعريف للعهد الحضوري، والضمير في {إليكم} خطاب للمشركين، فإنّ القرآن أُنزل إلى النّاس كلّهم للاهتداء به، فكما قال الله: {بما أنزل إليك أنزله بعلمه} [النساء: 166] قال: {يأيُّها النّاس قد جاءكم بُرْهان من ربّكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً} [النساء: 174] وفي قوله: {إليكم} هنا تسجيل عليهم بأنَّه قد بلّغهم فلا يستطيعون تجاهلاً. والمفصّل المبيَّن. وقد تقدّم ذكر التّفصيل عند قوله تعالى: {وكذلك نفصّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} في هذه السورة (55). وجملة والذين أتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل} معطوفة على القول المحذوف، فتكون استئنافاً مثله، أو معطوفة على جملة {أفغير الله أبتغى} أو على جملة {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب}، فهو عطف تلقين عُطف به الكلام المنسوب إلى الله على الكلام المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تعضيدا لما اشتمل عليه الكلام المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من كون القرآن حقّاً، وأنّه من عند الله. والمراد بالَّذين آتاهم الله الكتابَ: أحبار اليهود، لأنّ الكتاب هو التّوراة المعروف عند عامّة العرب، وخاصّة أهلُ مكَّة، لتردّد اليهود عليها في التّجارة. ولتردّد أهل مكّة على منازل اليهود بيَثرب وقُراها ولكون المقصود بهذا الحكم أحبارَ اليهود خاصّة قال: {آتيناهم الكتاب} ولم يقل: أهلُ الكتاب. ومعنى علم الّذين أوتوا الكتاب بأنّ القرآن منزّل من الله: أنَّهم يجدونه مصدّقاً لما في كتابهم، وهم يعلمون أنّ محمّداً صلى الله عليه وسلم لم يَدرس كتابهم على أحد منهم، إذ لو درسه لشاع أمْرُه بينهم، ولأعلنوا ذلك بين النّاس حين ظهور دعوته. وهم أحرص على ذلك، ولم يَدّعوه. وعلمُهم بذلك لا يقتضي إسلامهم لأنّ العناد والحسد يصدّانهم عن ذلك. وقيل: المراد بالَّذين آتاهم الله الكتاب: مَن أسلموا من أحبار اليهود. مثل عبدا لله بن سلاَم. ومُخَيْرِيق، فيكون الموصول في قوله: {والذين آتيناهم الكتاب} للعهد. وعن عطاء: {والذين آتيناهم الكتاب}. هم رؤساء أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وعُمر، وعثمانُ، وعليّ. فيكون الكتابُ هو القرآن. وضمير {أنَّه} عائد إلى الكتاب الّذي في قوله: {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب} وهو القرآن. والباء في قوله {بالحق} للملابسة، أي ملابساً للحقّ. وهي ملابسة الدّالّ للمدلول، لأنّ معانيه، وأخباره، ووعده، ووعيده، وكلّ ما اشتمل عليه، حقّ. وقرأ الجمهور {مُنْزَل} بتخفيف الزاي وقرأ ابن عامر وحفص بالتّشديد والمعنى متقارب أو متّحد، كما تقدّم في قوله تعالى: {نزّل عليك الكتاب بالحقّ} في أوّل سورة آل عمران (3). والخطاب في قوله: {فلا تكوننّ من الممترين} [البقرة: 147] يحتمل أن يكون خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم فيكون التّفريع على قوله: {يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} أي فلا تكن من الممترين في أنَّهم يعلمون ذلك، والمقصود تأكيد الخبر كقول القائل بعد الخبر: هذا مَا لا شكّ فيه، فالامتراء المنفي هو الامتراء في أنّ أهل الكتاب يعلمون ذلك، لأنّ غريباً اجتماعُ علمهم وكفرهم به، ويجوز أن يكون خطابا لغير معيّن، ليعمّ كلّ من يحتاج إلى مثل هذا الخطاب، أي فلا تكوننّ أيُّها السّامع من الممترين، أي الشّاكين في كون القرآن من عند الله، فيكون التّفريع على قوله: {منزل من ربك بالحق} أي فهذا أمر قد اتّضح. فلا تكن من الممترين فيه. ويحتمل أن يكون المخاطب الرّسول عليه الصلاة والسلام، والمقصود من الكلام المشركون الممترون، على طريقة التّعريض، كما يقال: (إياكَ أعني واسمعي يا جارهْ). ومنه قوله تعالى: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطنّ عملك} [الزمر: 65]. وهذا الوجه هو أحسن الوجوه، والتفريع فيه كما في الوجه الثّاني. وعلى كلّ الوجوه كان حذف متعلّق الامتراء لظهوره من المقام تعويلاً على القرينة، وإذ قد كانت هذه الوجوه الثّلاثة غير متعارضة، صحّ أن يكون جميعها مقصوداً من الآية. لتذهب أفهام السامعين إلى ما تتوصّل إليه منها. وهذا فيما أرى من مقاصد إيجاز القرآن وهو معنى الكلام الجامع، ويجيء مثله في آيات كثيرة، وهو من خصائص القرآن.
{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)} هذه الجملة معطوفة على جملة: {أفغير الله أبْتغي حَكَما} [الأنعام: 114] لأنّ تلك الجملة مَقولُ قول مقدّر، إذ التّقدير: قل أفغير الله أبتغي حكماً باعتبار ما في تلك الجملة من قوله: {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلاً} [الأنعام: 114] فلمّا وصف الكتاب بأنّه منزّل من الله، ووصف بوضوح الدّلالة بقوله: {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلاً} [الأنعام: 114] ثمّ بشهادة علماء أهل الكتاب بأنَّه من عند الله بقوله: {والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنّه منزل من ربّك} [الأنعام: 114]، أعلَم رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بأنّ هذا الكتاب تامّ الدلالة، ناهض الحجّة، على كلّ فريق: من مؤمن وكافر، صادق وعدُه ووعيده، عادل أمره ونهيه. ويجوز أن تكون معطوفة على جملة: {وجعلنا لكلّ نبيء عَدوّاً} وما بينهما اعتراض، كما سنبيّنه. والمراد بالتمام معنى مجازي: إمّا بمعنى بلوغ الشّيء إلى أحسن ما يبلغه ممّا يراد منه، فإنّ التّمام حقيقته كون الشّيء وافراً أجزاءه، والنقصان كونه فاقدا بعض أجزائه، فيستعار لوفرة الصّفات التي تراد من نوعه؛ وإمّا بمعنى التّحقّق فقد يطلق التّمام على حصول المنتظر وتحقّقه، يقال: تَم ما أخبر به فلان، ويقال: أتم وعده، أي حقّقه، ومنه قوله تعالى: {وإذِ آبتلى إبراهيم رَبُّه بكلمات فأتَمَّهُن} [البقرة: 124] أي عمل بهنّ دون تقصير ولا ترخّص، وقوله تعالى: {وتمّت كلمة ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا} [الأعراف: 137] أي ظهر وعده لهم بقوله: {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض} [القصص: 5] الآية، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {والله متمّ نوره} [الصف: 8] أي محقّق دينه ومثبتُه، لأنَّه جعل الإتمام في مقابلة الإطفاء المستعمل في الإزالة مجازاً أيضاً. وقوله: {كلمات ربك} قرأه الجمهور بصيغة الجمع وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف: كَلمة بالإفراد فقيل: المراد بالكلمات أو الكلمة القرآن، وهو قول جمهور المفسّرين، ونقل عن قتادة، وهو الأظهر، المناسب لجعْل الجملة معطوفة على جملة: {والذين آتيناهم الكتاب} [الأنعام: 114]. فأمّا على قراءة الإفراد فإطلاق الكلمة على القرآن باعتبار أنّه كتاب من عند الله، فهو من كلامه وقوله. والكلمة والكلام يترادفان، ويقول العربُ: كلمة زهير، يعنون قصيدته، وقد أطلق في القرآن (الكلمات) على الكتب السّماوية في قوله تعالى: {فآمِنوا بالله ورسوله النّبيء الأمّي الذي يؤمن بالله وكلماته} [الأعراف: 158] أي كتبه. وأمّا على قراءة الكلمات بالجمع فإطلاقها على القرآن باعتبار ما يشتمل عليه من الجمل والآيات. أو باعتبار أنواع أغراضه من أمر، ونهي، وتبشير، وإنذار، ومواعظ، وإخبار، واحتجاج، وإرشاد، وغير ذلك. ومعنى تمامها أنّ كلّ غرض جاء في القرآن فقد جاء وافياً بما يتطلّبه القاصد منه. واستبعد ابن عطيّة أن يكون المراد من {كلمات ربك} بالجمع أو الإفراد القرآن، واستظهر أنّ المراد منها: قول الله، أي نفذ قوله وحكمه. وقريب منه ما أُثر عن ابن عبّاس أنّه قال: كلمات الله وَعده. وقيل: كلمات الله: أمره ونهيه، ووعده، ووعيده، وفسّر به في «الكشاف»، وهو قريب من كلام ابن عطيّة، لكنّ السّياق يشهد بأنّ تفسير الكلمات بالقرآن أظهر. وانتصب {صدقاً وعدلاً} على الحال، عند أبي عليّ الفارسي، بتأويل المصدر باسم الفاعل، أي صادقة وعادلة، فهو حال من {كلمات} وهو المناسب لكون التّمام بمعنى التّحقّق، وجعلهما الطّبري منصوبين على التّمييز، أي تمييز النّسبة، أي تمّت من جهة الصّدق والعدل، فكأنّه قال: تَمّ صدقُها وعدلها، وهو المناسب لكون التمام بمعنى بلوغ الشّيء أحسنَ ما يطلب من نوعه. وقال ابن عطيّة: هذا غير صواب. وقلت: لا وجه لعدم تصويبه. والصّدق: المطابقة للواقع في الإخبار: وتحقيق الخبر في الوعد والوعيد، والنّفوذ في الأمر والنّهي، فيشمل الصّدقُ كلّ ما في كلمات الله من نوع الإخبار عن شؤون الله وشؤون الخلائق. ويطلق الصّدق مجازاً على كون الشّيء كاملاً في خصائص نوعه. والعدل: إعطاء من يستحقّ ما يستحقّ، ودفع الاعتداء والظلممِ على المظلوم، وتدبير أمور النّاس بما فيه صلاحهم. وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {وإذا حكمتم بين النّاس أن تحكموا بالعدل} في سورة النّساء (58). فيشمل العدل كلّ ما في كلمات الله: من تدبير شؤون الخلائق في الدّنيا والآخرة. فعلى التّفسير الأوّل للكلمات أو الكلمة، يكون المعنى: أن القرآن بلغ أقصى ما تبلغه الكتب: في وضوح الدّلالة، وبلاغة العبارة، وأنّه الصّادق في أخباره، العادل في أحكامه، لا يُعثر في أخباره على ما يخالف الواقع، ولا في أحكامه على ما يخالف الحقّ؛ فذلك ضرب من التحدّي والاحتجاج على أحقّيّة القرآن. وعلى التّفسيرين الثّاني والثّالث، يكون المعنى: نفذ ما قاله الله، وما وَعَدَ وأوْعَد، وما أمر ونهى، صادقاً ذلك كلُّه، أي غير متخلّف، وعادلاً، أي غير جائر. وهذا تهديد للمشركين بأنْ سيحقُّ عليهم الوعيد، الّذي توعّدهم به، فيكون كقوله تعالى: {وتمَّت كلمة ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا} [الأعراف: 137] أي تَمّ ما وعدهم به من امتلاك مشارق الأرض ومغاربها الّتي بارك فيها، وقوله: {وكذلك حقّت كلمات ربّك على الذين كفروا أنّهم أصحاب النّار} [غافر: 6] أي حقّت كلمات وعيده. ومعنى: {لا مبدل لكلماته} نفي جنس من يبدل كلمات الله، أي من يبطل ما أراده في كلماته. والتّبديل تقدّم عند قوله تعالى: {قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} من سورة البقرة (61)، وتقدّم هناك بيان أنّه لا يوجد له فعل مجرّد، وأنّ أصل مادّته هو التّبديل. والتّبديل حقيقته جعل شيء مكان شيء آخر، فيكون في الذّوات كما قال تعالى: {يوم تُبدّل الأرض غير الأرض} [إبراهيم: 48] وقال النّابغة: عهدتُ بها حيّاً كراماً فبُدّلت *** خنَاظِيل آجَاللِ النِّعَاج الجَوافل ويكون في الصّفات كقوله تعالى: {وليبدلنَّهم من بعد خوفهم أمنا} [النور: 55]. ويستعمل مجازاً في إبطال الشّيء ونقضه، قال تعالى: {يريدون أن يبدّلوا كلام الله} [الفتح: 15] أي يخالفوه وينقضوا ما اقتضاه، وهو قوله: {قُل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل} [الفتح: 15]. وذلك أنّ النقض يستلزم الإتيان بشيء ضدّ الشّيء المنقوض. فكان ذلك اللّزوم هو علاقة المجاز. وقد تقدّم عند قوله تعالى: {فمن بدّله بعد ما سمعه} في سورة البقرة (181). وقد استعمل في قوله: لا مبدل لكلماته} مجازا في معنى المعارضة أو النقض على الاحتمالين في معنى التّمام من قوله: {وتمت كلمات ربك} ونفي المبَدّل كناية عن نفي التَبْديل. فإن كان المراد بالكلمات القرآن، كما تقدّم، فمعنى انتفاء المبدّل لكلماته: انتفاء الإتيان بما ينقضه ويبطله أو يعارضه، بأن يُظهر أنّ فيه ما ليس بتمام. فإن جاء أحد بما ينقضه كذباً وزوراً فليس ذلك بنقض. وإنَّما هو مكابرة في صورة النقض، بالنّسبة إلى ألفاظ القرآن ونظمه، وانتفاءُ ما يبطل معانيَه وحقائقَ حكمته، وانتفاء تغيير ما شرعه وحكَم به. وهذا الانتفاء الأخير كناية عن النّهي عن أن يخالفهُ المسلمون. وبذلك يكون التّبديل مستعملاً في حقيقته ومجازه وكنايته. ويجوز أن تكون جملة: {وتمت كلمات ربك} عطفاً على جملة: {جعلنا لكلّ نبيء عدوّا} [الأنعام: 112] وما بينهما اعتراضاً، فالكلمات مراد بها ما سنّه الله وقدّره: من جعل أعداءَ لكلّ نبي يزخرفون القول في التّضليل، لتصغى إليهم قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، ويتبّعوهم، ويقترفوا السيئات، وأنّ المراد بالتّمام التّحقّق، ويكون قوله: {لا مبدل لكلماته} نفي أن يقدر أحد أن يغيّر سنّة الله وما قضاه وقدّره، كقوله: {فلن تجد لِسُنَّتتِ الله تبديلاً ولن تجد لِسُنَّتتِ الله تحويلاً} [فاطر: 43] فتكون هذه الآية في معنى قوله: {ولقد كُذّبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذّبوا وأوذوا حتّى أتاهم نصرنا ولا مبدّل لكلمات الله} [الأنعام: 34]. ففيها تأنيس للرسول صلى الله عليه وسلم وتطمين له وللمؤمنين بحلول النّصر الموعود به في إبَّانه. وقوله: {وهو السميع العليم} تذييل لجملة: {وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته} أي: وهو المطّلع على الأقوال، العليم بما في الضّمائر، وهذا تعريض بالوعيد لمن يسعى لتبديل كلماته، فالسّميع العالم بأصوات المخلوقات، الّتي منها ما توحي به شياطين الإنس والجنّ، بعضهم إلى بعض، فلا يفوته منها شيء؛ والعالم أيضاً بمن يريد أن يبدّل كلمات الله، على المعاني المتقدّمة، فلا يخفى عليه ما يخوضون فيه: من تبييت الكيد والإبطال له. والعليم أعمّ، أي: العليم بأحوال الخلق، والعليم بمواقع كلماته، ومَحَالّ تمامها، والمنظم بحكمته لتمامها، والموقت لآجال وقوعها. فذكر هاتين الصّفتين هنا: وعيد لمن شملته آيات الذمّ السابقة، ووعد لمن أُمر بالإعراض عنهم وعن افترائهم، وبالتحاكم معهم إلى الله، والّذين يعلمون أنّ الله أنزل كتابه بالحقّ.
{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)} أُعقِب ذكرُ عناد المشركين، وعداوتِهم للرسول صلى الله عليه وسلم وولايتهم للشّياطين، ورضاهم بما توسوس لهم شياطين الجنّ والإنس، واقترافهم السيّئات طاعة لأوليائهم، وما طَمْأن به قلب الرّسول صلى الله عليه وسلم من أنّه لقي سنّة الأنبياء قبلَه من آثار عداوة شياطين الإنس والجنّ، بذكر ما يهون على الرّسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين ما يرونه من كثرة المشركين وعزّتهم، ومن قلّة المسلمين وضعفهم، مع تحذيرهم من الثّقة بقولهم، والإرشاد إلى مخالفتهم في سائر أحوالهم، وعدم الإصغاء إلى رأيهم، لأنَّهم يُضِلّون عن سبيل الله، وأمرِهم بأن يلزموا ما يرشدهم الله إليه. فجملة: {وإن تطع} متّصلة بجملة: {وكذلك جعلنا لكل نبيء عدوّا شياطين الإنس والجنّ} [الأنعام: 112] وبجملة: {أفغير الله أبتغي حكماً} [الأنعام: 114] وما بعدها إلى: {وهو السميع العليم} [الأنعام: 115]. والخطاب للنّبي صلى الله عليه وسلم والمقصود به المسلمون مثل قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطنّ عملك} [الزمر: 65]. وجيء مع فعل الشّرط بحرف (إنْ) الّذي الأصل فيه أن يكون في الشّرط النّادر الوقوع، أو الممتنع إذا كان ذكره على سبيل الفرض كما يفرض المحال، والظاهر أنّ المشركين لمّا أيسوا من ارتداد المسلمين، كما أنبأ بذلك قوله تعالى: {قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرّنا} [الأنعام: 71] الآية، جَعلوا يلقون على المسلمين الشُبه والشكوك في أحكام دينهم، كما أشار إليه قوله تعالى عقب هذا: {وإنّ الشّياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإنْ أطعتموهم إنّكم لمشركون} [الأنعام: 121]. وقد روى الطّبري عن ابن عبّاس، وعكرمة: أنّ المشركين قالوا: «يا محمّد أخبرنا عن الشّاة إذا ماتَتْ مَنْ قَتلها (يريدون أكل الشّاة إذا ماتت حتف أنفها دون ذبح) قال اللَّهُ قتَلها فتزعم أنّ ما قتلتَ أنت وأصحابُك حلال وما قتل الكلبُ والصَقر حلال وما قتله الله حرام» فوقع في نفس ناس من المسلمين من ذلك شيء وفي «سنن التّرمذي»، عن ابن عبّاس قال: " أتى أناس النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله أنأكل ما نقتل ولا نأكل ما يقتل اللَّهُ " فأنزل الله: {فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 118] الآية. قال التّرمذي: هذا حديث حسن غريب. فمن هذا ونحوه حَذّر الله المسلمين من هؤلاء، وثبّتهم على أنّهم على الحقّ، وإن كانوا قليلاً. كما تقدّم في قوله: {قل لا يستوي الخبيث والطيّب ولو أعجبك كثرة الخبيث} [المائدة: 100]. والطاعة: اسم للطّوع الّذي هو مصدر طاع يطوع، بمعنى انقاد وفَعَل ما يؤمر به عن رضى دون ممانعة، فالطاعة ضدّ الكره. ويقال: طاع وأطاع، وتستعمل مجازاً في قبول القول، ومنه ما جاء في الحديث: " فإن هم طاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم زكاة أموالهم " ومنه قوله تعالى: {ولا شفيععٍ يُطاع} [غافر: 18] أي يُقبل قوله، وإلاّ فإنّ المشفوع إليه أرفع من الشفيع فليس المعنى أنّه يمتثل إليه. والطاعة هنا مستعملة في هذا المعنى المجازي وهو قبول القول. و {أكثر من في الأرض} هم أكثر سكّان الأرض. والأرض: يطلق على جميع الكرة الأرضية الّتي يعيش على وجهها الإنسان والحيوان والنّبات، وهي الدّنيا كلّها. ويطلق الأرض على جزء من الكرة الأرضيّة معهود بين المخاطبين وهو إطلاق شائع كما في قوله تعالى: {وقُلنا مِن بعده لبني إسرائيل اسكُنُوا الأرض} [الإسراء: 104] يعني الأرض المقدّسة، وقولِه: {أو يُنْفَوْا من الأرض} [المائدة: 33] أي الأرض الّتي حاربوا الله فيها. والأظهر أنّ المراد في الآية المعنى المشهور وهو جميع الكرة الأرضية كما هو غالب استعمالها في القرآن. وقيل: أريد بها مكّة لأنّها الأرض المعهودة للرّسول عليه الصلاة والسلام. وأيّاً مّا كان فأكثر من في الأرض ضالّون مضلّون: أمّا الكرة الأرضية فلأنّ جمهرة سكّانها أهل عقائد ضالّة، وقوانين غير عادلة. فأهل العقائد الفاسدة: في أمر الإلهيّة: كالمجوس، والمشركين، وعبدة الأوثان، وعبدة الكواكب، والقائلين بتعدّد الإله؛ وفي أمر النّبوّة: كاليهود والنّصارى؛ وأهلُ القوانين الجائرة من الجميع. وكلّهم إذا أطيع إنَّما يدعو إلى دينه ونحلته، فهو مُضِلّ عن سبيل الله، وهم متفاوتون في هذا الضّلال كثرة وقلّة، واتّباع شرائعهم لا يخلو من ضلال وإن كان في بعضها بعض من الصّواب. والقليل من النّاس مَن هم أهل هدى، وهم يومئذ المسلمون، ومن لم تبلغهم دعوة الإسلام من الموحّدين الصّالحين في مشارق الأرض ومغاربها الطالبين للحقّ. وسبب هذه الأكثرية: أنّ الحقّ والهدى يحتاج إلى عقوللٍ سليمة، ونفوس فاضلة، وتأمّل في الصّالح والضارّ، وتقديممِ الحقّ على الهوى، والرشدِ على الشّهوة، ومحبّة الخير للنّاس؛ وهذه صفات إذا اختلّ واحد منها تطرّق الضّلال إلى النّفس بمقدار ما انثلم من هذه الصّفات. واجتماعها في النّفوس لا يكون إلاّ عن اعتدال تامّ في العقل والنّفس، وذلك بتكوين الله وتعليمه، وهي حالة الرّسل والأنبياء، أو بإلهام إلهي كما كان أهل الحقّ من حكماء اليونان وغيرهم من أصحاب المكاشفات وأصحاب الحكمة الإشراقية وقد يسمّونها الذّوق. أو عن اقتداء بمرشد معصوم كما كان عليه أصحاب الرّسل والأنبياء وخيرة أممهم؛ فلا جرم كان أكثر من في الأرض ضالّين وكان المهتدون قلّة، فمن اتبعهم أضلّوه. والآية لم تقتض أنّ أكثر أهل الأرض مُضِلّون، لأنّ معظم أهل الأرض غير متصدّين لإضلال النّاس، بل هم في ضَلالهم قانعون بأنفسهم، مقبلون على شأنهم؛ وإنَّما اقتضت أنّ أكثرهم، إنْ قَبِل المسلم قَولهم، لم يقولوا له إلاّ ما هو تضليل، لأنّهم لا يُلقون عليه إلاّ ضلالهم. فالآية تقتضي أنّ أكثر أهل الأرض ضالّون بطريق الالتزام لأنّ المهتدي لا يُضِلّ مُتبعه وكلّ إناء يرشح بما فيه. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى في آية (100) سورة العقود: {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث.} واعلم أنّ هذا لا يشمل أهل الخطأ في الاجتهاد من المسلمين، لأنّ المجتهد في مسائل الخلاف يتطلّب مصادفة الصّواب باجتهاده، بتتبع الأدلة الشرعية ولا يزال يبحث عن معارض اجتهاده وإذا استبان له الخطأ رجع عن رأيه، فليس في طاعته ضلال عن سبيل الله لأنّ من سبيل الله طُرق النّظر والجدللِ في التفقّه في الدّين. وقوله: يضلوك عن سبيل الله} تمثيل لحال الدّاعي إلى الكفر والفساد مَن يَقْبَل قولَه، بحال من يُضلّ مستهديه إلى الطريق، فينعت له طريقاً غير الطّريق الموصّلة، وهو تمثيل قابل لتوزيع التّشبيه: بأنّ يشبّه كلّ جزء من أجزاء الهيئة المشبَّهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبَّة بِها، وإضافة السبيل إلى اسم الله قرينة على الاستعارة، وسبيل الله هو أدلّة الحقّ، أو هو الحقّ نفسه. ثمّ بيّن الله سبب ضلالهم وإضلالهم: بأنّهم ما يعتقدون ويدينون إلاّ عقائد ضالّة، وأدياناً سَخيفة، ظنّوها حقّا لأنّهم لم يستفرغوا مقدرة عقولهم في ترسُّم أدلّة الحقّ فقال: {إن يتبعون إلا الظن}. والاتّباع: مجاز في قبول الفكر لما يقال وما يخطر للفكر: من الآرَاء والأدلّة وتقلّد ذلك. فهذا أتمّ معنى الاتّباع، على أنّ الاتّباع يطلق على عمل المرء برأيه كأنّه يتبعه. والظنّ، في اصطلاح القرآن، هو الاعتقاد المخطئ عن غير دليل، الّذي يحسبه صاحبه حقّا وصحيحاً، قال تعالى: {وما يتّبع أكثرهم إلاّ ظنّاً إنّ الظنّ لا يغنى من الحقّ شيئاً} [يونس: 36] ومنه قول النّبي صلى الله عليه وسلم «إيّاكم والظَّنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث» وليس هو الظنّ الّذي اصطلح عليه فقهاؤنا في الأمور التّشريعية، فإنَّهم أرادوا به العلم الرّاجح في النّظر، مع احتمال الخطأ احتمالاً مرجوحاً، لتعسّر اليقين في الأدلّة التّكليفيّة، لأنّ اليقين فيها: إن كان اليقينَ المراد للحكماء، فهو متوقّف على الدّليل المنتهي إلى الضّرورة أو البرهان، وهما لا يجريان إلاّ في أصول مسائل التّوحيد، وإن كان بمعنى الإيقان بأنّ الله أمر أو نهى، فذلك نادر في معظم مسائل التّشريع، عدا ما علم من الدّين بالضرورة أو حصل لصاحبه بالحسّ، وهو خاصّ بما تلقّاه بعض الصّحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، أو حصل بالتّواتر. وهو عزيز الحصول بعد عصر الصّحابة والتّابعين، كما عُلم من أصول الفقه. وجملة: {إن يتبعون إلا الظن} استئناف بياني، نشأ عن قوله: {يضلوك عن سبيل الله} فبيّن سبب ضلالهم: أنّهم اتَّبعوا الشّبهة، من غير تأمّل في مفاسدها، فالمراد بالظنّ ظنّ أسلافهم، كما أشعر به ظاهر قوله: {يتبعون}. وجملة {وإن هم إلا يخرصون} عطف على جملة: {إن يتبعون إلا الظن}. ووجود حرف العطف يمنع أن تكون هذه الجملة تأكيداً للجملة التي قبلها، أو تفسيراً لها، فتعيّن أنّ المراد بهذه الجملة غير المراد بجملة: {إن يتبعون إلا الظن}. وقد تردّدت آراء المفسّرين في محمل قوله: {وإن هم إلا يخرصون}؛ فقيل: يَخرصون يكذبون فيما ادّعوا أنّ ما اتَّبعوه يقين، وقيل: الظن ظنّهم أنّ آباءهم على الحقّ. والخرص: تقديرهم أنفسهم على الحقّ. والوجه: أنّ محمل الجملة الأولى على ما تلقّوه من أسلافهم، كما أشعر به قوله: {يتبعون}، وأنّ محمل الجملة الثّانية على ما يستنبطونه من الزّيادات على ما ترك لهم أسلافهم وعلى شبهاتهم التي يحسبونها أدلّة مفحمة، كقولهم: «كيف نأكل مَا قتلناه وقتله الكلب والصّقر، ولا نأكل ما قتله الله» كما تقدم آنفاً، كما أشعر به فعل: {يخرصون} من معنى التّقدير والتّأمّل. والخَرْص: الظنّ الناشئ عن وِجدان في النّفس مستند إلى تقريب، ولا يستند إلى دليل يشترك العقلاء فيه، وهو يرادف: الحزرَ، والتّخمين، ومنه خرص النّخل والكرْم، أي تقدير ما فيه من الثّمرة بحسب ما يجده النّاظر فيما تعوّدهُ. وإطلاق الخرص على ظنونهم الباطلة في غاية الرشاقة لأنّها ظنون لا دليل عليها غير ما حَسُن لظانِّيها. ومن المفسّرين وأهل اللّغة من فسّر الخرص بالكذب، وهو تفسير قاصر، نظرَ أصحابُه إلى حاصل ما يفيده السّياق في نحو هذه الآية، ونحو قوله: {قُتل الخرّاصون} [الذاريات: 10]؛ وليس السّياق لوصف أكثر من في الأرض بأنّهم كاذبون، بل لوصمهم بأنَّهم يأخذون الاعتقاد من الدّلائل الوهميّة، فالخرص ما كان غير علم، قال تعالى: {ما لهم بذلك من علم إن هم إلاّ يخرصون} [الزخرف: 20]، ولو أريد وصفهم بالكذب لكان لفظ (يكذبون) أصرح من لفظ {يخرصون}. واعلم أنّ السّياق اقتضى ذمّ الاستدلال بالخرص، لأنّه حزر وتخمين لا ينضبط، ويعارضه ما ورد عن عتاب بن أسيد قال: «أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص التّمر». فأخذ به مالك، والشّافعي، ومحمله على الرخصة تيسيراً على أرباب النّخيل والكروم لينتفعوا بأكل ثمارهم رطبة، فتؤخذ الزّكاة منهم على ما يقدره الخرص، وكذلك في قسمة الثّمار بين الشّركاء، وكذلك في العَريَّة يشتريها المُعري ممن أعراه، وخالف أبو حنيفة في ذلك وجعل حديث عتاب منسوخاً.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)} تعليل لقوله: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك} [الأنعام: 116] لأنّ مضمونه التّحذير من نزغاتهم وتوقّع التّضليل منهم وهو يقتضي أنّ المسلمين يريدون الاهتداء، فليجتنبوا الضالّين، وليهتدوا بالله الّذي يهديهم. وكذلك شأن (إنّ) إذا جاءت في خبر لا يحتاج لردّ الشكّ أو الإنكار: أن تفيد تأكيد الخبر ووصله بالّذي قبله، بحيث تغني غَناء فاء التّفريع، وتفيد التّعليل، ولمّا اشتملت الآيات المتقدّمة على بيان ضلال الضالّين، وهدى المهتدين، كان قوله: {إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} تذييلاً لجميع تلك الأغراض. وتعريف المسند إليه بالإضافة في قوله: {إن ربك} لتشريف المضاف إليه، وإظهار أن هدي الرّسول عليه الصلاة والسلام هو الهُدى، وأنّ الّذين أخبر عنهم بأنّهم مُضلّون لا حظّ لهم في الهدى لأنّهم لم يتّخذوا الله ربّاً لهم. وقد قال أبو سفيان يوم أحُد: «لَنَا العُزّى ولا عُزّى لكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أجيبوه قولوا: " اللَّهُ مولانا ولا مولى لكم ". و {أعلمُ} اسم تفضيل للدّلالة على أنّ الله لا يعزب عن علمه أحد من الضالّين، ولا أحد من المهتدين، وأنّ غير الله قد يعلم بعض المهتدين وبعض المضلّين، ويفوته علم كثير من الفريقين، وتخفَى عليه دخيلة بعض الفريقين. والضّمير في قوله: {هو أعلم} ضمير الفصل، لإفادة قصر المسند على المسند إليه، فالأعلمية بالضالّين والمهتدين مقصورة على الله تعالى، لا يشاركه فيها غيره، ووجه هذا القصر أنّ النّاس لا يشكّون في أنّ علمهم بالضالّين والمهتدين علم قاصر، لأنّ كلّ أحد إذا علم بعض أحوال الناس تخفى عليهم أحوال كثير من النّاس، وكلّهم يعلم قصور علمه، ويتحقّق أن ثمّة من هو أعلم من العالِم منهم، لكنّ المشركين يحسبون أنّ الأعلمية وصف لله تعالى ولآلهتهم، فنفي بالقصر أن يكون أحد يشارك الله في وصف الأعلميّة المطلقة. و {مَنْ} موصولة، وإعرابها نصب بنزع الخافض وهو الباء، كما دلّ عليه وجود الباء في قوله: {وهو أعلم بالمهتدين} لأنّ أفعل التّفضيل لا ينصب بنفسه مفعولاً به لضعف شبهه بالفعل، بل إنّما يتعدّى إلى المفعول بالباء أو باللاّم أو بإلى، ونصبه المفعول نادر، وحقّه هنا أن يعدّى بالباء، فحذفت الباء ايجازَ حذف، تعويلا على القرينة. وإنَّما حذف الحرف من الجملة الأولى، وأظهر في الثّانية، دون العكس، مع أنّ شأن القرينة أن تتقدّم، لأنّ أفعل التّفضيل يضاف إلى جمععٍ يكون المفضّل واحداً منهم، نحو: هو أعلم العلماء وأكرم الأسخياء، فلمّا كان المنصُوباننِ فيهما غير ظاهر عليهما الإعراب، يلتبس المفعول بالمضاف إليه، وذلك غير ملتبس في الجملة الأولى، لأنّ الصّلة فيها دالّة على أنّ المراد أنّ الله أعلم بهم، فلا يتوهّم أن يكون المعنى: الله أعلم الضّالّين عن سبيله، أي أعلم عالممٍ منهم، إذ لا يخطر ببال سامع أن يقال: فلان أعلم الجاهلين، لأنّه كلام مُتناقض، فإنّ الضّلال جهالة، ففساد المعنى يكون قرينة على إرادة المعنى المستقيم، وذلك من أنواع القرينة الحاليَّة، بخلاف ما لو قال: وهو أعلم المهتدين، فقد يتوهّم السّامع أنّ المراد أنّ الله أعلم المهتدين، أي أقوى المهتدين علماً، لأنّ الاهتداء من العلم. هذا ما لاح لي في نكتة تجريد قوله: {هو أعلم من يضل عن سبيله} من حرف الجرّ الّذي يتعدّى به {أعلم}.
{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)} هذا تخلّص من محاجّة المشركين وبيان ضلالهم، المذيَّل بقوله: {إنّ ربّك هو أعلم من يضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} [الأنعام: 117]. انتقل الكلام من ذلك إلى تبيين شرائع هدى للمهتدين، وإبطاللِ شرائع شَرَعها المضلّون، تبيينا يزيل التّشابه والاختلاط. ولذلك خللت الأحكام المشروعة للمسلمين، بأضدادها الّتي كان شرعها المشركون وسلَفُهم. وما تُشعر به الفاء من التفريع يقضي باتّصال هذه الجملة بالَّتي قبلها، ووجه ذلك: أنّ قوله تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن سبيل الله} [الأنعام: 116] تضمّن إبطال ما ألقاه المشركون من الشّبهة على المسلمين: في تحريم الميتة، إذ قالوا للنّبيء صلى الله عليه وسلم «تزعم أن ما قتلتَ أنت وأصحابك وما قتل الكلب والصّقر حلال أكلُه، وأنّ ما قتل اللَّهُ حرام» وأنّ ذلك ممّا شمله قوله تعالى: {وإن هم إلاّ يَخْرصون} [الأنعام: 116]، فلمّا نهى الله عن اتِّباعهم، وسمّى شرائعهم خرصاً، فرّع عليه هنا الأمر بأكل ما ذكر اسم الله عليه، أي عند قتله، أي ما نُحر أو ذُبح وذُكر اسم الله عليه، والنّهيَ عن أكل ما لم يُذكر اسم الله عليه، ومنه الميتة، فإنّ الميتة لا يذكر اسم الله عليها، ولذلك عقبت هذه الآية بآية: {وإنّ الشّياطين ليوحون إلى أوليائِهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنَّكم لمشركون} [الأنعام: 121]. فتبيّن أنّ الفاء للتّفريع على معلوم من المراد من الآية السّابقة. والأمر في قوله: {فكلوا} للإباحة. ولمّا لم يكن يخطر ببال أحد أنّ ما ذُكر اسم الله عليه يحرم أكلُه، لأنّ هذا لم يكن معروفاً عند المسلمين، ولا عند المشركين، علم أنّ المقصود من الإباحة ليس رفع الحرج، ولكن بيان ما هو المباح، وتمييزه عن ضدّه من الميتة وما ذبح على النُّصُّب. والخطاب للمسلمين. وقوله: {مما ذكر اسم الله عليه} دلّ على أنّ الموصول صادق على الذّبيحة، لأنّ العرب كانوا يذكرون عند الذّبح أو النّحر اسم المقصود بتلك الذكاة، يجهرون بذكر اسمه، ولذلك قيل فيه: أُهِلّ به لغير الله، أي أُعلن. والمعنى كلوا المذكّى ولا تأكلوا الميتة. فما ذُكر اسم الله عليه كناية عن المذبوح لأنّ التّسمية إنَّما تكون عند الذّبح. وتعليق فعل الإباحة بما ذكر اسم الله عليه؛ أفهم أنّ غير ما ذكر اسم الله عليه لا يأكله المسلمون، وهذا الغير يساوي معناه معنى ما ذكر اسمُ غير الله عليه، لأنّ عادتهم أن لا يذبحوا ذبيحة إلاّ ذكروا عليها اسم الله، إن كانت هديا في الحجّ، أو ذبيحة للكعبة، وإن كانت قرباناً للأصنام أو للجنّ ذكروا عليها اسم المتقرّب إليه. فصار قوله: {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} مفيداً النّهي عن أكل ما ذُكر اسم غير الله عليه، والنّهي عمّا لم يذكر عليه اسم الله ولا اسم غير الله، لأنّ ترك ذكر اسم الله بينهم لا يكون إلاّ لقصد تجنّب ذكره. وعلم من ذلك أيضاً النّهي عن أكل الميتة ونحوها، ممّا لم تقصد ذكاته، لأنّ ذكر اسم الله أو اسم غيره إنَّما يكون عند إرادة ذبح الحيوان. كما هو معروف لديهم، فدلت هذه الجملة على تعيين أكل ما ذكّي دون الميتة، بناء على عرف المسلمين لأنّ النّهي موجّه إليهم. وممّا يؤيّد ذلك: ما في «الكشاف»، أنّ الفقهاء تأوّلوا قوله الآتي: " ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم الله عليه " بأنَّه أراد به الميتة، وبناء على فهم أن يَكون قد ذُكر اسم الله عليه عند ذكاته دون ما ذكر عليه اسم غير الله، أخذا من مقام الإباحة والاقتصارِ فيه على هذا دون غيره، وليس في الآية صيغة قصر، ولا مفهوم مخالفة، ولكن بعضها من دلالة صريح اللّفظ، وبعضها من سياقه، وهذه الدّلالة الأخيرة من مستتبعات التّراكيب المستفادة بالعقل الّتي لا توصف بحقيقة ولا مجاز. وبهذا يُعلم أن لا علاقة للآية بحكم نسيان التّسمية عند الذّبح، فإنّ تلك مسألة أخرى لها أدلَّتها وليس من شأن التّشريع القرآني التعرّض للأحوال النّادرة. و«على» للاستعلاء المجازي، تدلّ على شدّة اتَّصال فعل الذّكر بذات الذّبيحة، بمعنى أن يذكر اسم الله عليها عند مباشرة الذّبح لا قبله أو بعده. وقوله: {إن كنتم بآياته مؤمنين} تقييد للاقتصار المفهوم: من فعل الإباحة، وتعليققِ المجرور به، وهو تحريض على التزام ذلك، وعدم التّساهل فيه، حتّى جعل من علامات كون فاعله مؤمناً، وذلك حيث كان شعارُ أهل الشّرك ذكرَ اسم غير الله على معظم الذّبائح. فأمّا ترك التّسمية: فإن كان لقصد تجنّب ذكر اسم الله فهو مساو لذكر اسم غير الله، وإن كان لسهو فحكمه يُعرف من أدلّة غير هذه الآية، منها قوله تعالى: {ربَّنا لا تؤاخذنا إن نسينا} [البقرة: 286] وأدلّة أخرى من كلام النّبيء صلى الله عليه وسلم {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)} {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ}. عطف على قوله: {فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 118]. والخطاب للمسلمين. و {مَا} للاستفهام، وهو مستعمل في معنى النّفي: أي لا يَثبت لكم عدم الأكل ممّا ذُكر اسم الله عليه، أي كلوا ممّا ذكر اسم الله عليه. واللام للاختصاص، وهي ظرف مستقرّ خبر عن (ما)، أي ما استقرّ لكم. و {أن لا تأكلوا} مجرور ب (في) محذوفة. مع (أنْ). وهي متعلّقة بما في الخبر من معنى الاستقرار، وتقدّم بيان مثل هذا التّركيب عند قوله تعالى: {قالوا وما لَنا أَلاَّ نقاتل في سبيل الله} في سورة البقرة (246). ولم يفصح أحد من المفسّرين عن وجه عطف هذا على ما قبله، ولا عن الدّاعي إلى هذا الخطاب، سوى ما نقله الخفاجي في حاشية التّفسير} عمّن لقَّبه علم الهدى ولعلّه عنى به الشّريف المرتضى: أنّ سبب نزول هذه الآية أنّ المسلمين كانوا يتحرّجون من أكل الطيّبات، تقشّفاً وتزهّداً اه، ولعلّه يريد تزهّداً عن أكل اللّحم، فيكون قوله تعالى: {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه} استطراداً بمناسبة قوله قبله: {فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 118]، وهذا يقتضي أنّ الاستفهام مستعمل في اللّوم، ولا أحسب ما قاله هذا الملقّب بعلم الهدى صحيحاً ولا سند له أصلاً. قال الطّبري: ولا نعلم أحداً من سلف هذه الأمّة كفّ عن أكل ما أحلّ اللَّه من الذّبائح. والوجه عندي أنّ سبب نزول هذه الآية ما تقدّم آنفاً من أنّ المشركين قالوا للنّبيء صلى الله عليه وسلم وللمسلمين، لمّا حَرّم الله أكل الميتة: «أنأكل ما نَقتل ولا نَأكل ما يقتلُ اللَّهُ» يعنون الميتة، فوقع في أنفس بعض المسلمين شيء، فأنزل الله {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه} أي فأنبأهم الله بإبطال قياس المشركين المُموّهِ بأنّ الميتة أولى بالأكل ممّا قتله الذّابح بيده، فأبدى الله للنّاس الفرق بين الميتة والمذكّى، بأنّ المذكّى ذُكر اسم الله عليه، والميتة لا يذكر اسم الله عليها، وهو فارق مؤثّر. وأعرض عن محاجة المشركين لأنّ الخطاب مسوق إلى المسلمين لإبطال محاجّة المشركين فآل إلى الرد على المشركين بطريق التعريض. وهو من قبيل قوله في الردّ على المشركين، في قولهم: {إنَّما البيعُ مثل الرّبا} [البقرة: 275]، إذ قال: {وأحلّ الله البيع وحرّم الرّبا} [البقرة: 275] كما تقدّم هنالك، فينقلب معنى الاستفهام في قوله: {وما لكم أن لا تأكلوا} إلى معنى: لا يسوِّلْ لكم المشركون أكل الميتة، لأنّكم تأكلون ما ذكر اسم الله عليه، هذا ما قالوه وهو تأويل بعيد عن موقع الآية. وقوله: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} جملة في موضع الحال مبيّنة لما قبلها، أي لا يصدّكم شيء من كلّ ما أحلّ الله لكم، لأنّ الله قد فصّل لكم ما حرّم عليكم فلا تعدوه إلى غيره. فظاهر هذا أنّ الله قد بيّن لهم، من قَبْلُ، ما حرّمه عليهم من المأكولات، فلعلّ ذلك كان بوحي غير القرآن، ولا يصحّ أن يكون المراد ما في آخر هذه السّورة من قوله: {قُل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّما} [الأنعام: 145] الآية، لأنّ هذه السّورة نزلت جملة واحدة على الصّحيح، كما تقدّم في ديباجة تفسيرها، فذلك يناكِد أن يكون المتأخّر في التّلاوة متقدّماً نزولهُ، ولا أن يكون المراد ما في سورة المائدة (3) في قوله: {حُرّمت عليكم الميتة} لأنّ سورة المائدة مدنيَّة بالاتّفاق، وسورة الأنعام هذه مكّيّة بالاتِّفاق. وقوله: إلا ما اضطررتم إليه} استثناء من عائد الموصول، وهو الضّمير المنصوب ب {حرّم}، المحذوف لكثرة الاستعمال، و{ما} موصولة، أي إلاّ الّذي اضطُررتم إليه، فإنّ المحرّمات أنواع استثني منها ما يضطرّ إليه من أفرادها فيصير حلالاً. فهو استثناء متّصل من غير احتياج إلى جعل {ما} في قوله: {ما اضطررتم} مصدريّة. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وعاصم، وأبو جعفر، وخلف: {وقد فصل} ببناء الفعل للفاعل. وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر بالبناء للمجهول. وقرأ نافع، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر: {ما حرم} بالبناء للفاعل، وقرأه الباقون: بالبناء للمجهول. والمعنى في القراءات فيهما واحد. والاضطرار تقدّم بيانه في سورة المائدة. {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين}. تحذير من التشبّه بالمشركين في تحريم بعض الأنعام على بعض أصناف النّاس. وهو عطف على جملة: {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه}، ويجوز أن يكون الواو للحال، فيكون الكلام تعريضاً بالحذر من أن يكونوا من جملة من يضلّهم أهل الأهواء بغير علم. وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، ويعقوب: {ليَضِلُّون} بفتح الياء على أنّهم ضالّون في أنفسهم، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف: بضمّ الياء على معنى أنَّهم يُضلّلون النّاس، والمعنى واحد، لأنّ الضالّ من شأنه أن يُضلّ غيره، ولأنّ المُضلّ لا يكون في الغالب إلاّ ضالاً، إلاّ إذا قصد التّغرير بغيره. والمقصود التّحذير منهم وذلك حاصل على القراءتين. والباء في {بأهوائهم} للسببيّة على القراءتين. والباء في {بغير علم} للملابسة، أي يضلّون مُنقَادِين للهوى، مُلابسين لعَدم العلم. والمراد بالعلم: الجزم المطابق للواقع عن دليل، وهذا كقوله تعالى: {إن يتَّبعون إلاّ الظن وإن هم إلاّ يَخْرصون} [الأنعام: 116]. ومن هؤلاء قادة المشركين في القديم، مثل عَمْرو بن لُحَيّ، أوّللِ من سنّ لهم عبادة الأصنام وبَحَّر البحيرة وسيَّب السائبة وحَمَى الحامِي، ومَن بعده مثل الّذين قالوا: (ما قتل اللَّهُ أولى بأن نأكله ممّا قتلنا بأيدينا). وقوله: {إن ربك هو أعلم بالمعتدين} تذييل، وفيه إعلام للرّسول صلى الله عليه وسلم بتوعّد الله هؤلاء الضالّين المضلين، فالإخبار بعلم الله بهم كناية عن أخذه إيَّاهم بالعقوبة وأنَّه لا يفلتهم، لأنّ كونه عالماً بهم لا يُحتاج إلى الإخبار به. وهو وعيد لهم أيضاً، لأنَّهم يسمعون القرآن ويُقرَأ عليهم حين الدّعوة. وذِكْرُ المعتدين، عقب ذكر الضالّين، قرينة على أنَّهم المراد وإلاّ لم يكن لانتظام الكلام مناسبة، فكأنَّه قال: إنّ ربّك هو أعلم بهم وهم معتدون، وسمّاهم الله معتدين. والاعتداء: الظلم، لأنَّهم تقلّدوا الضّلال من دون حجّة ولا نظر، فكانوا معتدين على أنفسهم، ومعتدين على كلّ من دَعوه إلى موافقتهم. وقد أشار هذا إلى أنّ كلّ من تَكلَّم في الدّين بما لا يعلمه، أو دعا النّاس إلى شيء لا يعلم أنّه حق أو باطل، فهو معتد ظالم لنفسه وللنّاس، وكذلك كلّ ما أفتى وليس هو بكفء للإفتاء.
{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)} {وَذَرُواْ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ}. جملة معترضة، والواو اعتراضيّة، والمعنى: إنْ أردتم الزّهد والتقرّب إلى الله فتقرّبوا إليْه بترك الإثم، لا بترك المباح. وهذا في معنى قوله تعالى: {ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البرّ من آمن بالله} [البقرة: 177] الآية. وتقدّم القول على فعل (ذَر) عند قوله تعالى: {وذرِ الذين اتَّخذوا دينهم لعباً ولهواً} في هذه السّورة [70]. والإثم تقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى: {قل فيهما إثم كبير} في سورة [البقرة: 219]. والتّعريف في الإثم: تعريف الاستغراق، لأنَّه في المعنى تعريف للظاهر وللباطن منه، والمقصود من هذين الوصفين تعميم أفراد الإثم لانحصارها في هذين الوصفين، كما يقال: المَشرق والمغرب والبَرّ والبحر، لقصد استغراق الجهات. وظاهر الإثم ما يراه النّاس، وباطنُه ما لا يطّلع عليه النّاس ويقع في السرّ، وقد استوعب هذا الأمر ترك جميع المعاصي. وقد كان كثير من العرب يراءون النّاس بعمل الخير، فإذا خلوا ارتكبوا الآثام، وفي بعضهم جاء قوله تعالى: {ومن النّاس مَن يعجبك قوله في الحياة الدّنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام وإذا تولَّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويُهلك الحرث والنسل والله لا يحبّ الفساد وإذا قيل له اتَّق الله أخذته العزّة بالإثم فحسبه جهنّم ولبئس المهاد} [البقرة: 204، 206]. {إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ}. تعليل للأمر بترك الإثم، وإنذارٌ وإعذار للمأمورين، ولذلك أكَّد الخبر ب (إنّ)، وهي في مثل هذا المقام، أي مقام تعقيب الأمر أو الإخبار تفيد معنى التّعليل، وتغني عن الفاء، ومثالها المشهور قول بشار: إنّ ذاك النّجاحَ في التّبكير *** وإظهار لفظ الإثم في مقام إضماره إذ لم يقل: إنّ الّذين يكسبونه لزيادة التّنديد بالإثم، وليستقرّ في ذهن السّامع أكمل استقرار، ولتكون الجملة مستقلّة فتسير مسير الأمثال والحكم. وحرف السّين، الموضوع للخبر المستقبل، مستعمل هنا في تحقّق الوقوع واستمراره. ولمّا جاء في المذنبين فعلُ يكسبون المتعدي إلى الإثم، جاء في صلة جَزائهم بفعل (يقترفون)، لأنّ الاقتراف إذا أطلق فالمراد به اكتساب الإثم كما تقدّم آنفاً في قوله تعالى: {وليقترفوا ما هم مقترفون} [الأنعام: 113].
{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} جملة: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} معطوفة على جملة: {فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 118]. و (ما) في قوله: {مما لم يذكر اسم الله عليه} موصولة، وما صْدق الموصول هنا: ذَكِيَ، بقرينة السّابق الّذي ما صْدقه ذلك بقرينة المقام. ولمّا كانت الآية السّابقة قد أفادت إباحة أكل ما ذكر اسمُ الله عليه، وأفهمت النّهيَ عمَّا لم يذكر اسم الله عليه، وهو الميتة، وتَمّ الحكم في شأن أكل الميتة والتفرقةُ بينها وبين ما ذُكّي وذُكر اسم الله عليه، ففي هذه الآية أفيد النّهي والتّحذير من أكل ما ذُكر اسم غيرِ الله عليه. فمعنى: {لم يذكر اسم الله عليه}: أنَّه تُرِك ذكر اسم الله عليه قصداً وتجنّبا لذكره عليه، ولا يكون ذلك إلاّ لقصد أن لا يكون الذّبح لله، وهو يساوي كونه لغير الله، إذ لا واسطة عندهم في الذكاة بين أن يذكروا اسم الله أو يذكروا اسم غير الله، كما تقدّم بيانه عند قوله: {فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 118]. وممّا يرشّح أنّ هذا هو المقصود قولُه هنا: {وإنه لفسق} وقوله في الآية الآتية: {أو فِسْقا أهِلّ لغير الله به} [الأنعام: 145]، فعلم أنّ الموصوف بالفسق هنا: هو الّذي وصف به هنالك، وقيد هنالك بأنَّه أُهلّ لغير الله به، وبقرينة تعقيبه بقوله: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} لأنّ الشّرك إنَّما يكون بذكر أسماء الأصنام على المذكَّى، ولا يكون بترك التّسمية. وربّما كان المشركون في تَحيّلهم على المسلمين في أمر الذكاة يقتنعون بأن يسألوهم ترك التّسمية، بحيث لا يُسمّون الله ولا يسمّون للأصنام، فيكون المقصود من الآية: تحذير المسلمين من هذا التّرك المقصود به التمويه، وأن يسمّى على الذّبائح غيرُ أسماء آلهتهم. فإن اعتددنا بالمقصد والسّياق، كان اسم الموصول مراداً به شيء معيّن، لم يذكر اسم الله عليه، فكان حكمها قاصراً على ذلك المعيّن، ولا تتعلّق بها مسألةُ وجوب التّسمية في الذكاة، ولا كونها شرطاً أو غير شرط بله حكم نسيانها. وإن جعلنا هذا المقصد بمنزلة سبب للنّزول، واعتددنا بالموصول صادقاً على كلّ ما لم يذكر اسم الله عليه، كانت الآية من العامّ الوارد على سبب خاصّ، فلا يخصّ بصورة السّبب، وإلى هذا الاعتبار مال جمهور الفقهاء المختلفين في حكم التّسمية على الذّبيحة. وهي مسألة مختلف فيها بين الفقهاء على أقوال: أحدها: أنّ المسلم إن نسي التّسمية على الذبح تؤكل ذبيحته، وإن تعمَّد ترك التّسمية استخفافاً أو تجنّبا لها لم تؤكل (وهذا مثل ما يفعله بعض الزّنوج من المسلمين في تونس وبعض بلاد الإسلام الّذين يزعمون أنّ الجنّ تمتلكهم، فيتفادَون من أضرارها بقرابين يذبحونها للجنّ ولا يسمّون اسم الله عليها، لأنَّهم يزعمون أنّ الجنّ تنفر من اسم الله تعالى خِيفة منه، (وهذا متفشّ بينهم في تونس ومصر) فهذه ذبيحة لا تؤكل. ومستند هؤلاء ظاهر الآية مع تخصيصها أو تقييدها بغير النّسيان، إعمالاً لقاعدة رفع حكم النّسيان عن النّاس. وإنْ تعمّد ترك التّسمية لا لقصد استخفاف أو تجنّب ولكنّه تثاقل عنها، فقال مالك، في المشهور، وأبو حنيفة، وجماعة، وهو رواية عن أحمد: لا تؤكل. ولا شكّ أنّ الجهل كالنّسيان، ولعلّهم استدلّوا بالأخذ بالأحوط في احتمال الآية اقتصارا على ظاهر اللّفظ دون معونة السِياق. الثّاني: قال الشّافعي، وجماعة، ومالك، في رواية عنه: تؤكل، وعندي أنّ دليل هذا القول أنّ التّسمية تكملة للقربة، والذكاة بعضها قربة وبعضها ليست بقربة، ولا يبلغ حكم التّسمية أن يكون مفسداً للإباحة. وفي «الكشاف» أنَّهم تأوّلوا ما لم يذكر اسم الله عليه بأنَّه الميتة خاصّة، وبما ذُكر غيرُ اسم الله عليه. وفي «أحكام القرآن» لابن العربي، عن إمام الحرمين: ذِكر الله إنَّما شرع في القُرَب، والذبحُ ليس بقربة. وظاهر أنّ العامد آثم وأنّ المستخفّ أشدّ إثماً. وأمّا تعمّد ترك التّسمية لأجل إرضاءِ غير الله فحكمه حكم من سمَّى لِغير الله تعالى. وقيل: إنْ ترَك التّسميةَ عمداً يُكره أكلها، قاله أبو الحسن بن القصّار، وأبو بكر الأبهري من المالكيّة. ولا يعدّ هذا خلافاً، ولكنّه بيان لقول مالك في إحدى الرّوايتين. وقال أشهب، والطبرِي: تؤكل ذبيحة تارك التّسمية عمداً، إذا لم يتركها مستخِفاً. وقال عبد الله بن عمر، وابن سيرين، ونافِع، وأحمد بن حنبل، وداودُ: لا تؤكل إذا لم يسمّ عليها عَمْداً أو نسياناً، أخذاً بظاهر الآية، دون تأمّل في المقصد والسّياق. وأرجح الأقوال: هو قول الشّافعي. والرّوايةُ الأخرى عن مالك، إنْ تعمّد ترك التّسميه تؤكل، وأنّ الآية لم يُقْصد منها إلاّ تحريم ما أهل به لغير الله بالقرائن الكثيرة التي ذكرناها آنفاً، وقد يكون تارك التّسمية عمداً آثماً، إلاّ أنّ إثمه لا يُبطل ذكاته، كالصّلاة في الأرض المغصوبة عند غير أحمد. وجملة: {وإنه لفسق} معطوفة على جملة {ولا تأكلوا} عطف الخبر على الإنشاء، على رأي المحقّقين في جوازه، وهو الحقّ، لا سيما إذا كان العطف بالواو، وقد أجاز عطف الخبر على الإنشاء بالواو بعض من منعه بغير الواو، وهو قول أبي عليّ الفارسي، واحتجّ بهذه الآية كما في «مغنى اللّبيب». وقد جعلها الرّازي وجماعة: حالاً {مما لم يذكر اسم الله عليه} بناء على منع عطف الخبر على الإنشاء. والضّمير في قوله: {وإنه لفسق} يعود على {مما لم يذكر اسم الله عليه} والإخبار عنه بالمصدر وهو {فسق} مبالغة في وصف الفعل، وهو ذكرُ اسم غير الله، بالفسق حتّى تجاوز الفسق صفة الفعل أن صار صفة المفعول فهو من المصدر المراد به اسم المفعول: كالخَلق بمعنى المخلوق، وهذا نظير جعله فسقاً في قوله بعدُ: {أو فسقاً أهِلّ لغير الله به} [الأنعام: 145]. والتّأكيد بإنّ: لزيادة التّقرير، وجعل في «الكشاف» الضّمير عائداً إلى الأكل المأخوذ من {ولا تأكلوا}، أي وإنّ أكْلَه لفسق. وقوله: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجدلوكم} عطف على: {وإنه لفسق}، أي: واحذروا جَدَل أولياء الشّياطين في ذلك، والمراد بأولياء الشّياطين: المشركون، وهم المشار إليهم بقوله، فيما مرّ: {يُوحي بعضهم إلى بعض} [الأنعام: 112] وقد تقدّم بيانه. والمجادلة المنازعة بالقول للإقناع بالرأي، وتقدّم بيانها عند قوله تعالى: {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} في سورة النساء (107)، والمراد هنا المجادلة في إبطال أحكام الإسلام وتحبيب الكفر وشعائره، مثل قولهم: كيف نأكل ما نقتل بأيدينا ولا نأكل ما قتله الله. وقوله: وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} حُذف متعلّق {أطعتموهم} لدلالة المقام عليه، أي: إن أطعتموهم فيما يجادلونكم فيه، وهو الطّعن في الإسلام، والشكّ في صحّة أحكامه. وجملة: {إنكم لمشركون} جواب الشّرط. وتأكيد الخبر بإنّ لتحقيق التحاقهم بالمشركين إذا أطاعوا الشّياطين، وإن لم يَدْعوا لله شركاء، لأنّ تخطئة أحكام الإسلام تساوي الشرك، فلذلك احتيج إلى التّأكيد، أو أراد: إنَّكم لصائرون إلى الشّرك، فإنّ الشّياطين تستدرجكم بالمجادلة حتّى يبلغوا بكم إلى الشرك، فيكون اسم الفاعل مراداً به الاستقبال. وليس المعنى: إن أطعتموهم في الإشراك بالله فأشركتم بالله إنَّكم لمشركون، لأنَّه لو كان كذلك لم يكن لتأكيد الخبر سبب، بل ولا للإخبار بأنّهم مشركون فائدة. وجملة: {إنكم لمشركون} جواب الشرط، ولم يَقترن بالفاء لأنّ الشّرط إذا كان مضافاً يحسن في جوابه التّجريد عن الفاء، قاله أبو البقاء العُكبري، وتبعه البيضاوي، لأنّ تأثير الشّرط الماضي في جزائه ضعيف، فكما جاز رفع الجزاء وهو مضارع، إذا كان شرطه ماضياً، كذلك جاز كونه جملة اسميّة غير مقترنة بالفاء. على أنّ كثيراً من محقّقي النّحويين يجيز حذف فاء الجواب في غير الضّرورة، فقد أجازه المبرّد وابن مالك في شرحه على «مشكل الجامع الصّحيح». وجعل منه قوله صلى الله عليه وسلم " إنك إنْ تَدَعْ ورثتَك أغنياء خيرُ من أن تدعهم عالة " على رواية إنْ بكسر الهمزة دون رواية فتح الهمزة.
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)} الواو في قوله: {أو من كان ميتاً} عاطفة لجملة الاستفهام على جملة: {وإن أطعتموهم إنَّكم لمشركون} [الأنعام: 121] لتضمّن قوله: {وإن أطعتموهم} أنّ المجادلة، المذكورة من قَبْلُ، مجادلة في الدّين: بتحسين أحوال أهل الشّرك وتقبيح أحكام الإسلام الّتي منها: تحريم الميتة، وتحريم ما ذُكر اسم غير الله عليه. فلمّا حَذر الله المسلمين من دسائس أولياء الشّياطين ومجادلتهم بقوله: {وإن أطعتموهم إنَّكم لمشركون} [الأنعام: 121] أعقَب ذلك بتفظيع حال المشركين، ووصَفَ حسن حالة المسلمين حين فارقوا الشّرك، فجاء بتمثيلين للحالتين، ونفَى مساواة إحداهما للأخرى: تنبيها على سوء أحوال أهل الشّرك وحسننِ حال أهل الإسلام. والهمزة للاستفهام المستعمل في إنكار تَماثل الحالتين: فالحالة الأولى: حالة الّذين أسلموا بعد أن كانوا مشركين، وهي المشبّهة بحال مَن كان ميّتاً مودَعاً في ظلمات، فصار حيّاً في نورٍ واضححٍ، وسار في الطّريق الموصّلة للمطلوب بين النّاس، والحالة الثّانية: حالةُ المشرك وهي المشبّهة بحالة من هو في الظلمات ليس بخارج منها، لأنَّه في ظلمات. وفي الكلام إيجازُ حذففٍ، في ثلاثة مواضع، استغناء بالمذكور عن المحذوف: فقوله: {أو من كان ميتاً} معناه: أَحَال مَن كان ميّتاً، أو صِفة مَن كان ميّتاً. وقوله: {وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} يدلّ على أنّ المشبّه به حال مَن كان ميّتاً في ظُلمات. وقوله: كمن مثله في الظلمات تقديره: كمن مثله مثَل ميّت فما صدْق (مَن) ميّت بدليل مقابلته بميّت في الحالة المشبّهة، فيعلم أنّ جزء الهيئة المشبّهة هو الميّت لأنّ المشبّه والمشبّه به سواء في الحالة الأصليّة وهي حالة كون الفريقين مشركين. ولفظ (مثَل) بمعنى حالة. ونفيُ المشابهة هنا معناه نفي المساواة، ونفي المساواة كناية عن تفضيل إحدى الحالتين على الأخرى تفضيلاً لا يلتبس، فذلك معنى نفي المشابهة كقوله: {قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظّلمات والنّور} [الرعد: 16] وقوله {أفمَن كان مؤمناً كَمَن كان فاسقاً لا يستوون} [السجدة: 18]. والكاف في قوله: {كمن مثله في الظلمات} كاف التّشبيه، وهو تشبيه منفي بالاستفهام الإنكاري. والكلام جار على طريقة تمثيل حال من أسْلَم وتخلَّص من الشرك بحال من كان ميّتا فأُحْيِي، وتمثيللِ حال من هو باق في الشرك بحال ميت باق في قبره. فتضمّنت جملة: {أو من كان ميتاً} إلى آخرها تمثيل الحالة الأولى، وجملة: {كمن مثله في الظلمات} الخ تمثيلَ الحالة الثّانية، فهما حالتان مشبّهتان، وحالتان مشبَّهٌ بهما، وحصل بذكر كاف التّشبيه وهمزة الاستفهام الإنكاري أنّ معنى الكلام نفي المشابهة بين من أسلم وبين من بَقي في الشرك. كما حصل من مجموع الجملتين: أنّ في نظم الكلام تشبيهين مركَّبين. ولكنّ وجودَ كاف التّشبيه في قوله: {كمن مثله} مع عدم التّصريح بذكر المشبَّهَيْن في التّركيبين أثارَا شُبهة: في اعتبار هذين التّشبيهين أهو من قبيل التّشبيه التّمثيلي، أم من قبيل الاستعارة التّمثيلية؛ فنحا القطب الرّازي في «شرح الكشاف» القبيلَ الأول، ونحا التفتزاني القبيلَ الثّاني، والأظهر ما نحاه التفتزاني: أنَّهما استعارتان تمثيليتان، وأمّا كاف التّشبيه فهو متوجّه إلى المشابهة المنفيّة في مجموع الجملتين لا إلى مشابهة الحالين بالحالين، فمورد كاف التّشبيه غير مورد تمثيل الحالين. وبين الاعتبارين بون خفي. والمراد: ب {الظّلمات} ظلمةُ القبر لمناسبته للميِّت، وبقرينة ظاهر {في} من حقيقة الظرفية وظاهر حقيقة فعل الخروج. ولقد جاء التّشبيه بديعاً: إذ جعل حال المسلم، بعد أن صار إلى الإسلام، بحال من كان عديم الخير، عديم الإفادة كالميّت، فإنّ الشرك يحول دون التّمييز بين الحقّ والباطل، ويصرف صاحبه عن السّعي إلى ما فيه خيره ونجاته، وهو في ظلمة لو أفاق لم يعرف أين ينصرف، فإذا هداه الله إلى الإسلام تغيرّ حاله فصار يميّز بين الحقّ والباطل، ويعلم الصّالح من الفاسد، فصار كالحي وصار يسعى إلى ما فيه الصّلاح، ويتنكّب عن سبيل الفساد، فصار في نور يمشي به في النّاس. وقد تبيّن بهذا التّمثيل تفضيل أهل استقامة العقول على أضدادِهم. والباء في قوله: {يمشي به} باء السّببيّة. والنّاس المصرح به في الهيئة المشبه بها هم الأحياء الّذين لا يخلو عنهم المجتمع الإنساني. والنّاس المقدّر في الهيئة المشبهة هم رفقاء المسلم من المسلمين. وقد جاء المركب التّمثيلي تاماً صالحاً لاعتبار تشبيه الهيئة بالهيئة، ولاعتبار تشبيه كلّ جزء من أجزاء الهيئة المشبّهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبّهِ بها، كما قد علمته وذلك أعلى التّمثيل. وجملة: {ليس بخارج منها} حال من الضّمير المجرور بإضافة (مَثل)، أي ظلمات لا يرجى للواقع فيها تنوّر بنور ما دام في حالة الإشراك. وجملة: {كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} استئناف بياني، لأنّ التّمثيل المذكور قبلها يثير في نفس السّامع سُؤالاً، أن يقول: كيف رضوا لأنفسهم البقاء في هذه الضّلالات، وكيف لم يشعروا بالبَون بين حالهم وحال الّذين أسلموا؛ فإذا كانوا قبل مجيء الإسلام في غفلة عن انحطاط حالهم في اعتقادهم وأعمالهم، فكيف لمّا دعاهم الإسلام إلى الحقّ ونصب لهم الأدلَّة والبراهين بَقُوا في ضلالهم لم يقلعوا عنه وهمْ أهل عقول وفطنة فكان حقيقاً بأن يبيّن له السّبب في دوامهم على الضّلال، وهو أنّ ما عملوه كان تزيّنه لهم الشّياطين، هذا التّزيين العجيب، الّذي لو أراد أحد تقريبه لم يجد ضلالاً مزيَّناً أوضح منه وأعجبَ فلا يشبَّه ضلالُهم إلاّ بنفسه على حدّ قولهم: (والسّفاهة كاسمها). واسم الإشارة في قوله: {كذلك زين للكافرين} مشار به إلى التّزيين المأخوذ من فعل {زين} أي مثلَ ذلك التّزيين للكافرين العجيب كيداً ودِقَّةً زيّن لهؤلاء الكافرين أعمالهم على نحو ما تقدّم في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً} في سورة البقرة (143). وحُذف فاعل التّزيين فبني الفعل للمجهول: لأنّ المقصود وقوع التّزيين لا معرفة مَن أوقعه. والمزيّن شياطينهم وأولياؤهم، كقوله: {وكذلك زَيَّن لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤُهم} [الأنعام: 137]، ولأنّ الشّياطين من الإنس هم المباشرون للتّزيين، وشياطين الجنّ هم المُسَوّلون المزيّنون. والمراد بالكافرين المشركون الّذين الكلام عليهم في الآيات السّابقة إلى قوله: {وإنّ الشّياطين لَيُوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم} [الأنعام: 121].
|