الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **
الجزء الثاني عشر بسم الله الرحمن الرحيم في يوم الثلاثاء مستهل المحرم منها وقعت فتنة بين أهل السنة والروافض، ثم سكّن الفتنة الوزير فخر الملك على أن تعمل الروافض بدعتهم يوم عاشوراء من تعليق المسوح والنوح. (ج/ص: 12/3) وفي هذا الشهر ورد الخبر بوقوع وباء شديد في البصرة أعجز الحفارين، والناس عن دفن موتاهم، وأنه أظلت البلد سحابة في حزيران فأمطرتهم مطراً شديداً. وفي يوم السبت ثالث صفر تولى المرتضى نقابة الطالبيين والمظالم والحج، وجميع ما كان يتولاه أخوه الرضي، وقرئ تقليده بحضرة الأعيان، وكان يوماً مشهوداً. وفيها: ورد الخبر عن الحجاج بأنه هلك منهم بسبب العطش أربعة عشر ألفاً، وسلم ستة آلاف، وأنهم شربوا بول الإبل من العطش. وفيها: غزا محمود بن سبكتكين بلاد الهند فأخذه الأدلاء فسلكوا به على بلاد غريبة، فانتهوا إلى أرض قد غمرها الماء من البحر، فخاض بنفسه الماء أياماً وخاض الجيش حتى خلصوا بعد ما غرق كثير من جيشه، وعاد إلى خراسان بعد جهد جهيد. ولم يحج فيها من العراق ركب لفساد البلاد من الأعراب. إمام الشافعية، أحمد بن محمد بن أحمد إمام الشافعية في زمانه، ولد في سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، وقدم بغداد وهو صغير سنة ثلاث أو أربع وستين وثلاثمائة، فدرس الفقه على أبي الحسن بن المرزبان، ثم على أبي القاسم الداركي، ولم يزل تترقى به الأحوال حتى صارت إليه رياسة الشافعية، وعظم جاهه عند السلطان والعوام. وكان فقيهاً إماماً جليلاً نبيلاً، شرح المزني في تعليقه حافلة نحواً من خمسين مجلداً، وله تعليقة أخرى في أصول الفقه، وروى عن الإسماعيلي وغيره. (ج/ص: 12/4) قال الخطيب: ورأيته غير مرة وحضرت تدريسه بمسجد عبد الله بن المبارك، في صدر قطيعة الربيع وحدثنا عنه الأزجي والخلال، وسمعت من يذكر أنه كان يحضر تدريسه سبعمائة متفقه، وكان الناس يقولون: لو رآه الشافعي لفرح به. وقال أبو الحسن القدوري: ما رأيت في الشافعية أفقه من أبي حامد، وقد ذكرت ترجمته مستقصاة في (طبقات الشافعية). وذكر ابن خلكان أن القدوري قال: هو أفقه وأنظر من الشافعي. قال الشيخ أبو إسحاق: ليس هذا مسلماً إلى القدورى فإن أبا حامد وأمثاله بالنسبة إلى الشافعي كما قال الشاعر: نزلوا بمكة في قبائل نوفل * ونزلت بالبيداء أبعد منزل قال ابن خلكان: وله مصنفات: (التعليقة الكبرى)، وله كتاب (البستان)، وهو صغير فيه غرائب، قال: وقد اعترض عليه بعض الفقهاء في بعض المناظرات فأنشأ الشيخ أبو حامد يقول: جفاء جرى جهراً لدى الناس وانبسط * وعذر أتى سراً فأكد ما فرط ومن ظن أن يمحو جليّ جفائه * خفيّ اعتذار فهو في أعظم الغلط توفي ليلة السبت لإحدى عشرة بقيت من شوال منها، ودفن بداره بعدما صلي عليه بالصحراء وكان الجمع كثيراً والبكاء غزيراً، ثم نقل إلى مقبرة باب حرب في سنة عشر وأربعمائة. قال ابن الجوزي: وبلغ من العمر إحدى وستين سنة وأشهراً. عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن علي بن مهران، أبو مسلم الفرضي المقري. سمع المحاملي ويوسف بن يعقوب، وحضر مجلس أبي بكر بن الأنباري، وكان إماماً ثقة ورعاً وقوراً، كثير الخير، يقرأ القرآن كثيراً، ثم سمع الحديث، وكان إذا قدم على الشيخ أبي حامد الإسفرايني نهض إليه حافياً فتلقاه إلى باب المسجد، توفي وقد جاوز الثمانين. محمد بن الطاهر أبو أحمد الحسين بن موسى أبو الحسن العلوي، لقبه بهاء الدولة بالرضي، ذي الحسبتين، ولقب أخاه المرتضى ذي المجدين، ولي نقابة الطالبيين ببغداد بعد أبيه، وكان شاعراً مطبقاً سخياً جواداً. (ج/ص: 12/5) وقال بعضهم: كان الشريف في كثرة أشعاره أشعر قريش، فمن شعره المستجاد قوله: اشتر العز بما شـء * ـت فما العز بغال بالقصار إن شيءـ * ـت أو بالسمر الطوال ليس بالمغبون عقلاً * من شرى عزاً بمال إنما يذخر الما * ل لحاجات الرجال والفتى من جعل الأموا * ل أثمان المعالي وله أيضاً: يا طائر البان غريداً على فنن * ما هاج نوحك لي يا طائر البان هل أنت مبلغ من هام الفؤاد به * إن الطليق يؤدي حاجة العاني جناية ما جناها غير متلفنا * يوم الوداع وواشوقي إلى الجاني لولا تذكر أيام بذي سلم * وعند رامة أو طاري وأوطاني لما قدحت بنار الوجد في كبدي * ولا بللت بماء الدمع أجفاني وقد نسب إلى الرضي قصيدة يتمنى فيها أن يكون عند الحاكم العبيدي، ويذكر فيها أباه ويا ليته كان عنده، حين يرى حاله ومنزلته عنده، وأن الخليفة لما بلغه ذلك أراد أن يسيره إليه ليقضي أربه ويعلم الناس كيف حاله. قال في هذه القصيدة: ألبس الذل في بلاد الأعاد * ي وبمصر الخليفة العلويّ! وأبوه أبي ومولاه مولا * ي إذا ضامني البعيد القصيّ إلى آخرها، فلما سمع الخليفة القادر بأمر هذه القصيدة انزعج وبعث إلى أبيه الموسوي يعاتبه، فأرسل إلى ابنه الرضي فأنكر أن يكون قالها بالمرة، والروافض من شأنهم التزوير. فقال له أبوه: فإذا لم تكن قلتها فقل أبياتاً تذكر فيها أن الحاكم بمصر دعيّ لا نسب له. فقال: إني أخاف غائلة ذلك، وأصرّ على أن لا يقول ما أمره به أبوه. وترددت الرسائل من الخليفة إليهم في ذلك، وهم ينكرون ذلك حتى بعث الشيخ أبا حامد إلاسفرايني والقاضي أبا بكر إليهما، فحلف لهما بالأيمان المؤكدة أنه ما قالها، والله أعلم بحقيقة الحال. توفي في خامس المحرم منها عن سبع وأربعين سنة، وحضر جنازته الوزير والقضاة، وصلى عليه الوزير ودفن بداره بمسجد الأنباري، وولي أخوه المرتضى ما كان يليه، وزيد على ذلك أشياء ومناصب أخرى، وقد رثى الرضي أخاه بمرثاة حسنة. (ج/ص: 12/6) أبو المعز مناذر بن باديس نائب الحاكم على بلاد إفريقية وابن نائبها، لقبه الحاكم بنصير الدولة، كان ذا همة وسطوة وحرمة وافرة، كان إذا هزّ رمحاً كسره، توفي فجأة ليلة الأربعاء سلخ ذي القعدة منها، ويقال: إن بعض الصالحين دعى عليه تلك الليلة، وقام في الأمر بعده ولده المعز مناذر. في ربيع الأول منها، احترق مشهد الحسين بن علي بكربلاء وأروقته، وكان سبب ذلك أن القومة أشعلوا شمعتين كبيرتين فمالتا في الليل على التازير، ونفذت النار منه إلى غيره حتى كان ما كان. وفي هذا الشهر أيضاً احترقت دار القطن ببغداد وأماكن كثيرة بباب البصرة، واحترق جامع سامرا. وفيها: ورد الخبر بتشعيث الركن اليماني من المسجد الحرام، وسقوط جدار بين يدي قبر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وأنه سقطت القبة الكبيرة على صخرة بيت المقدس، وهذا من أغرب الاتفاقات وأعجبها. وفي هذه السنة قتلت الشيعة الذين ببلاد إفريقية ونهبت أموالهم، ولم يترك منهم إلا من لا يعرف. وفيها: كان ابتداء دولة العلويين ببلاد الأندلس، وليها علي بن حمود بن أبي العيس العلوي، فدخل قرطبة في المحرم منها، وقتل سليمان بن الحكم الأموي، وقتل أباه أيضاً، وكان شيخاً صالحاً، وبايعه الناس وتلقب بالمتوكل على الله، ثم قتل في الحمام في ثامن ذي القعدة منها عن ثمان وأربعين سنة، وقام بالأمر من بعده أخوه القاسم بن حمود، وتلقب بالمأمون، فأقام في الملك ست سنين، ثم قام ابن أخيه يحيى بن علي، ثم ملك الأمويون حتى ملك أمر المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين. وفيها: ملك محمود بن سبكتكين بلاد خوارزم بعد ملكها خوارزم شاه مأمون بن مأمون، وفيها استوزر سلطان الدولة أبا الحسن علي بن الفضل الرامهرمزي، عوضاً عن فخر الملك، وخلع عليه. ولم يحج أحد في هذه السنة من بلاد المغرب لفساد البلاد والطرقات. (ج/ص: 12/7) أبو عبد الله البزار، أحد حفاظ الحديث، وأحد الفقهاء على مذهب مالك، كان يذكر بحضرة الدارقطني ويتكلم على علم الحديث، فيقال: إن الدارقطني تكلم فيه لذلك السبب، وقد تكلم في غيره بما لا يقدح فيه كبير شيء. قال الأزهري: رأيت كتبه طرية، وكان يذكر أن أصوله العتق غرقت، وقد أملى الحديث من حفظه، والمخلص وابن شاهين حيّان موجودان. توفي في رمضان، عن أربع وثمانين سنة. محمد بن علي بن خلف أبو غالب الوزير، كان من أهل واسط، وكان أبوه صيرفياً، فتنقلت به الأحوال إلى أن وزر لبهاء الدولة، وقد اقتنى أموالاً جزيلة، وبنى داراً عظيمة، تعرف بالفخرية، وكانت أولاً للخليفة المتقي لله، فأنفق عليها أموالاً كثيرة. وكان كريماً جواداً، كثير الصدقة، كسى في يوم واحد ألف فقير، وكان كثير الصلاة أيضاً، وهو أول من فرق الحلاوة ليلة النصف من شعبان، وكان فيه ميل إلى التشيع، وقد صادره سلطان الدولة بالأهواز، وأخذ منه شيئاً أزيد من ستمائة ألف دينار، خارجاً عن الأملاك والجواهر والمتاع، قتله سلطان الدولة، وكان عمره يوم قتل ثنتين وخمسين سنة وأشهراً. وقيل: إن سبب هلاكه أن رجلاً قتله بعض غلمانه، فاستعدت امرأة الرجل على الوزير هذا، ورفعت إليه قصصها، وكل ذلك لا يلتفت إليها، فقالت له ذات يوم: أيها الوزير أرأيت القصص التي رفعتها إليك، فلم تلتفت إليها قد رفعتها إلى الله عز وجل، وأنا أنتظر التوقيع عليها. فلما مسك قال: قد والله خرج توقيع المرأة، فكان من أمره ما كان. فيها: وقعت فتنة عظيمة بين أهل السنة والروافض ببغداد، قتل فيها خلق كثير من الفريقين. وفيها: ملك أبو المظفر بن خاقان بلاد ما وراء النهر وغيرها، وتلقب بشرف الدولة، وذلك بعد وفاة أخيه طغان خان، وقد كان طغان خان هذا ديناً فاضلاً، يحب أهل العلم والدين. وقد غزا الترك مرة فقتل منهم مائتي ألف مقاتل، وأسر منهم مائة ألف، وغنم من أواني الذهب والفضة، وأواني الصين شيئاً لا يعهد لأحد مثله، فلما مات ظهرت ملوك الترك على البلاد الشرقية. (ج/ص: 12/8) وفي جمادى الأولى منها ولي أبو الحسين أحمد بن مهذب الدولة علي بن نصر بلاد البطائح بعد أبيه، فقاتله ابن عمه فغلبه وقتله، ثم لم تطل مدته فيها حتى قتل، ثم آلت تلك البلاد بعد ذلك إلى سلطان الدولة صاحب بغداد، وطمع فيهم العامة، فنزلوا إلى واسط فقاتلوهم مع الترك. وفيها: ولى نور الدولة أبو الأغردُبيس بن أبي الحسن علي بن مزيد بعد وفاة أبيه. وفيها: قدم سلطان الدولة إلى بغداد، وضرب الطبل في أوقات الصلوات، ولم تجر بذلك عادة، وعقد عقده على بنت قرواش على صداق خمسين ألف دينار. ولم يحج أحد من أهل العراق لفساد البلاد، وعيث الأعراب وضعف الدولة. قال ابن الجوزي في (المنتظم): أخبرنا سعد الله بن علي البزار، أنبأ أبو بكر الطريثيثي، أنبأ هبة الله بن الحسن الطبري، قال: وفي سنة ثمان وأربعمائة استتاب القادر بالله الخليفة فقهاء المعتزلة، فأظهروا الرجوع وتبرؤوا من الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام، وأخذت خطوطهم بذلك، وأنهم متى خالفوا أحلّ فيهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم، وامتثل محمود بن سبكتكين أمر أمير المؤمنين في ذلك، واستن بسنته في أعماله التي استخلفه عليها من بلاد خراسان وغيرها، في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة، وصلبهم وحبسهم ونفاهم، وأمر بلعنهم على المنابر، وأبعد جميع طوائف أهل البدع، ونفاهم عن ديارهم، وصار ذلك سنة في الإسلام. مولى شرف الدولة، ولقبه بهاء الدولة بالسعيد، وكان كثير الصدقة والأوقاف على وجوه القربات فمن ذلك: أنه وقف دباها على المارستان، وكانت تغل شيئاً كثيراً من الزروع والثمار والخراج، وبنى قنطرة الخندق والمارستان والناصرية وغير ذلك، ولما مات دفن بمقبرة الإمام أحمد وأوصى أن لا يبنى عليه فخالفوه، فعقدوا قبة عليه فسقطت بعد موته بنحو من سبعين سنة، واجتمع نسوة عند قبره ينحن يبكين، فلما رجعن رأت عجوز منهن - كانت هي المقدمة فيهن - في المنام كأن تركياً خرج إليهن من قبره ومعه دبوس فحمل عليهن وزجرهن عن ذلك، وإذا هو الحاجب السعيد، فانتبهت مذعورة. وفي يوم الخميس السابع عشر من المحرم قرئ بدار الخلافة في الموكب كتاب في مذهب أهل السنة، وفيه: أن من قال القرآن مخلوق فهو كافر حلال الدم. (ج/ص: 12/9) وفي النصف من جمادى الأولى منها فاض البحر المالح وتدانى إلى الأبلة، ودخل البصرة بعد يومين. وفيها: غزا محمود بن سبكتكين بلاد الهند وتواقع هو وملك الهند فاقتتل الناس قتالاً عظيماً، ثم انجلت عن هزيمة عظيمة على الهند، وأخذ المسلمون يقتلون فيهم كيف شاؤوا، وأخذوا منهم أموالاً عظيمة من الجواهر والذهب والفضة، وأخذوا منهم مائتي فيل، واقتصوا آثار المنهزمين منهم، وهدموا معامل كثيرة. ثم عاد إلى غزنة مؤيداً منصوراً. ولم يحج أحد من درب العراق فيها لفساد البلاد وعيث الأعراب. أبو العباس الأنصناوي، نسبة إلى قرية من قرى مصر يقال لها: أنصنا. قدم بغداد فحدث بها وسمع منه الحفاظ، وكان ثقة فقيهاً مالكياً عدلاً عند الحكام، مرضياً. ثم عاد إلى بلده وتوفي فيها، وقد جاوز الثمانين. أبو أحمد قاضي الأهواز، كان ذا مال، وله مصنفات منها كتاب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، جمع فيه ألف معجزة، وكان من كبار شيوخ المعتزلة، توفي فيها عن تسع وثمانين سنة. ابن أبي الحسن، مهذب الدولة، صاحب بلاد البطيحة، له مكارم كثيرة، وكان الناس يلجؤون إلى بلاده في الشدائد فيؤويهم، ويحسن إليهم، ومن أكبر مناقبه إحسانه إلى أمير المؤمنين القادر لما استجار به ونزل عنده بالبطائح فاراً من الطائع، فآواه وأحسن إليه، وكان في خدمته حتى ولي إمرة المؤمنين، وكان له بذلك عنده اليد البيضاء، وقد ولي البطائح ثنتين وثلاثين سنة وشهوراً، وتوفي فيها عن ثنتين وسبعين سنة، وكان سبب موته أنه افتصد فانتفخ زراعه فمات. ابن علي بن بشر بن مروان بن عبد العزيز، أبو محمد الأزدي المصري، الحافظ، كان عالماً بالحديث وفنونه، وله فيه المصنفات الكثيرة الشهيرة. (ج/ص: 12/10) قال أبو عبد الله الصوري الحافظ: ما رأت عيناي مثله في معناه. وقال الدارقطني: ما رأيت بمصر مثل شاب يقال له: عبد الغني، كأنه شعلة نار، وجعل يفخم أمره ويرفع ذكره. وقد صنف الحافظ عبد الغني هذا كتاباً فيه أوهام الحاكم، فلما وقف الحاكم عليه جعل يقرؤه على الناس ويعترف لعبد الغني بالفضل، ويشكره ويرجع فيه إلى ما أصاب فيه من الرد عليه، رحمهما الله. ولد عبد الغني لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة ثنتين وثلاثين وثلاثمائة، وتوفي في صفر من هذه السنة رحمه الله. ويكنى بأبي الفضل، كان قد جعله ولي عهده من بعده، وضربت السكة باسمه وخطب له الخطباء على المنابر، ولقب بالغالب بالله، فلم يقدر ذلك. توفي فيها عن سبع وعشرين سنة. أبو الفتح البزار الطرسوسي، ويعرف بابن البصري، سمع الكثير من المشايخ، وسمع منه الصوري ببيت المقدس، حين أقام بها، وكان ثقة مأموناً. فيها: ورد كتاب يمين الدولة محمود بن سبكتكين، يذكر فيه ما افتتحه من بلاد الهند في السنة الخالية، وفيه أنه دخل مدينة فيها ألف قصر مشيد، وألف بيت للأصنام. وفيها من الأصنام شيء كثير، ومبلغ ما على الصنم من الذهب ما يقارب مائة ألف دينار، ومبلغ الأصنام الفضة زيادة على ألف صنم، وعندهم صنم معظم، يؤرخون له وبه بجهالتهم ثلاثمائة ألف عام، وقد سلبنا ذلك كله وغيره مما لا يحصى ولا يعد. وقد غنم المجاهدون في هذه الغزوة شيئاً كثيراً، وقد عمموا المدينة بالإحراق، فلم يتركوا منها إلا الرسوم، وبلغ عدد القتلى من الهنود خمسين ألفاً، وأسلم منهم نحو من عشرين ألفاً، وأفرد خمس الرقيق فبلغ ثلاثاً وخمسين ألفاً، واعترض من الأفيال ثلاثمائة وست وخمسين فيلاً، وحصل من الأموال عشرون ألف ألف درهم، ومن الذهب شيء كثير. وفي ربيع الآخر منها قرئ عهد أبي الفوارس ولقب قوام الدولة، وخلع عليه خلعاً حملت إليه بولاية كرمان. ولم يحج في هذه السنة أحد من العراق. (ج/ص: 12/11) الأصيفر الذي كان يخفر الحجاج. أحمد بن موسى بن مردويه ابن فورك، أبو بكر الحافظ الأصبهاني، توفي في رمضان منها. هبة الله بن سلامة أبو القاسم الضرير المقرئ المفسر، كان من أعلم الناس وأحفظهم للتفسير، وكانت له حلقة في جامع المنصور، روى ابن الجوزي بسنده إليه قال: كان لنا شيخ نقرأ عليه فمات بعض أصحابه فرآه في المنام فقال له: ما فعل الله بك ؟ قال: غفر لي. قال: فما كان حالك مع منكر ونكير ؟ قال: لما أجلساني وسألاني ألهمني الله أن قلت: بحق أبي بكر وعمر دعاني، فقال أحدهما للآخر: قد أقسم بعظيمين فدعه، فتركاني وذهبا. فيها: عدم الحاكم بمصر، وذلك أنه لما كان ليلة الثلاثاء لليلتين بقيتا من شوال فقد الحاكم بن المعز الفاطمي صاحب مصر، فاستبشر المؤمنون والمسلمون بذلك، وذلك لأنه كان جباراً عنيداً، وشيطاناً مريداً. ولنذكر شيئاً من صفاته القبيحة، وسيرته الملعونة، أخزاه الله. كان كثير التلون في أفعاله وأحكامه وأقواله، جائراً، وقد كان يروم أن يدّعي الألوهية كما ادّعاها فرعون، فكان قد أمر الرعية إذا ذكر الخطيب على المنبر اسمه أن يقوم الناس على أقدامهم صفوفاً، إعظاماً لذكره واحتراماً لاسمه، فعل ذلك في سائر ممالكه حتى في الحرمين الشريفين، وكان قد أمر أهل مصر على الخصوص إذا قاموا عند ذكره خروا سجداً له، حتى إنه ليسجد بسجودهم من في الأسواق من الرعاع وغيرهم، ممن كان لا يصلي الجمعة، وكانوا يتركون السجود لله في يوم الجمعة وغيره ويسجدون للحاكم، وأمر في وقت لأهل الكتابين بالدخول في دين الإسلام كرهاً، ثم أذن لهم في العود إلى دينهم، وخرب كنائسهم ثم عمرها، وخرب القمامة ثم أعادها، وابتنى المدارس. وجعل فيها الفقهاء والمشايخ، ثم قتلهم وأخربها، وألزم الناس بغلق الأسواق نهاراً، وفتحها ليلاً، فامتثلوا ذلك دهراً طويلاً. حتى اجتاز مرة برجل يعمل النجارة في أثناء النهار، فوقف عليه فقال: ألم أنهكم ؟ فقال: يا سيدي لما كان الناس يتعيشون بالنهار كانوا يسهرون بالليل، ولما كانوا يتعيشون بالليل سهروا بالنهار فهذا من جملة السهر، فتبسم وتركه. وأعاد الناس إلى أمرهم الأول، وكل هذا تغيير للرسوم، واختبار لطاعة العامة له، ليرقى في ذلك إلى ما هو أشر وأعظم منه. (ج/ص: 12/12) وقد كان يعمل الحسبة بنفسه فكان يدور بنفسه في الأسواق على حمار له - وكان لا يركب إلا حماراً - فمن وجده قد غش في معيشة أمر عبد ا أسود معه يقال له: مسعود، أن يفعل به الفاحشة العظمى، وهذا أمر منكر ملعون، لم يسبق إليه، وكان قد منع النساء من الخروج من منازلهن، وقطع شجر الأعناب حتى لا يتخذ الناس منها خمراً، ومنعهم من طبخ الملوخية، وأشياء من الرعونات التي من أحسنها منع النساء من الخروج، وكراهة الخمر. وكانت العامة تبغضه كثيراً، ويكتبون له الأوراق بالشتيمة البالغة له ولأسلافه، في صورة قصص، فإذا قرأها ازداد غيظاً وحنقاً عليهم، حتى إن أهل مصر عملوا صورة امرأة من ورق بخفيها وإزارها، وفي يدها قصة من الشتم واللعن والمخالفة شيء كثير، فلما رآها ظنها امرأة، فذهب من ناحيتها وأخذ القصة من يدها فقرأها فرأى ما فيها، فأغضبه ذلك جداً، فأمر بقتل المرأة. فلما تحققها من ورق ازداد غيظاً إلى غيظه، ثم لما وصل إلى القاهرة أمر السودان أن يذهبوا إلى مصر فيحرقوها وينهبوا ما فيها من الأموال والمتاع والحريم، فذهبوا فامتثلوا ما أمرهم به، فقاتلهم أهل مصر قتالاً شديداً، ثلاثة أيام، والنار تعمل في الدور والحريم. وهو في كل يوم قبحه الله، يخرج فيقف من بعيد وينظر ويبكي ويقول: من أمر هؤلاء العبيد بهذا ؟ ثم اجتمع الناس في الجوامع ورفعوا المصاحف وصاروا إلى الله عز وجل، واستغاثوا به، فرق لهم الترك والمشارقة وانحازوا إليهم، وقاتلوا معهم عن حريمهم ودورهم، وتفاقم الحال جداً، ثم ركب الحاكم لعنه الله ففصل بين الفريقين، وكف العبيد عنهم، وكان يظهر التنصل مما فعله العبيد وأنهم ارتكبوا ذلك من غير علمه وإذنه، وكان ينفذ إليهم السلاح ويحثهم على ذلك في الباطن، وما انجلى الأمر حتى احترق من مصر نحو ثلثها، ونهب قريب من نصفها، وسبيت نساء وبنات كثيرة وفعل معهن الفواحش والمنكرات، حتى أن منهن من قتلت نفسها خوفاً من العار والفضيحة، واشترى الرجال منهم من سبي لهم من النساء والحريم. قال ابن الجوزي: ثم ازداد ظلم الحاكم حتى عنّ له أن يدّعي الربوبية، فصار قوم من الجهال إذا رأوه يقولون: يا واحد يا أحد يا محي يا مميت، قبحهم الله جميعاً. (ج/ص: 12/13) صفة مقتله لعنه الله كان قد تعدى شره إلى الناس كلهم حتى إلى أخته، وكان يتهمها بالفاحشة، ويسمعها أغلظ الكلام، فتبرمت منه، وعملت على قتله، فراسلت أكبر الأمراء، أميراً يقال له: ابن دواس، فتوافقت هي وهو على قتله ودماره، وتواطآ على ذلك، فجهز من عنده عبدين، أسودين شهمين، وقال لهما: إذا كانت الليلة الفلانية فكونا في جبل المقطم، ففي تلك الليلة يكون الحاكم هناك في الليل لينظر في النجوم، وليس معه أحد إلا ركابي وصبي، فاقتلاه واقتلاهما معه، واتفق الحال على ذلك. فلما كانت تلك الليلة قال الحاكم لأمه: عليّ في هذه الليلة قطع عظيم، فإن نجوت منه عمرت نحواً من ثمانين سنة، ومع هذا فانقلي حواصلي إليك، فإن أخوف ما أخاف عليك من أختي، وأخوف ما أخاف على نفسي منها، فنقل حواصله إلى أمه، وكان له في صناديق قريب من ثلاثمائة ألف دينار، وجواهر أخر. فقالت له أمه: يا مولانا إذا كان الأمر كما تقول فارحمني ولا تركب في ليلتك هذه إلى موضع، وكان يحبها. فقال: أفعل، وكان من عادته أن يدور حول القصر كل ليلة، فدار ثم عاد إلى القصر، فنام إلى قريب من ثلث الليل الأخير، فاستيقظ وقال: إن لم أركب الليلة فاضت نفسي، فثار فركب فرساً وصحبه صبي وركابي، وصعد الجبل المقطم فاستقبله ذانك العبدان فأنزلاه عن مركوبه، وقطعا يديه ورجليه، وبقرا بطنه، فأتيا به مولاهما ابن دواس، فحمله إلى أخته فدفنته في مجلس دارها، واستدعت الأمراء والأكابر والوزير وقد أطلعته على الجلية، فبايعوا لولد الحاكم أبي الحسن علي، ولقب بالظاهر لإعزاز دين الله، وكان بدمشق، فاستدعت به وجعلت تقول للناس: إن الحاكم قال لي: إنه يغيب عنكم سبعة أيام ثم يعود، فاطمأن الناس، وجعلت ترسل ركابيين إلى الجبل فيصعدونه، ثم يرجعون فيقولون: تركناه في الموضع الفلاني. ويقول الذين بعدهم لأمه: تركناه في موضع كذا وكذا. حتى اطمأن الناس وقدم ابن أخيها واستصحب معه من دمشق ألف ألف دينار، وألفي ألف درهم، فحين وصل ألبسته تاج جد أبيه المعز، وحلة عظيمة، وأجلسته على السرير، وبايعه الأمراء والرؤوساء، وأطلق لهم الأموال، وخلعت على ابن دواس خلعة سنية هائلة، وعملت عزاء أخيها الحاكم ثلاثة أيام، ثم أرسلت إلى ابن دواس طائفة من الجند ليكونوا بين يديه بسيوفهم وقوفاً في خدمته، ثم يقولوا له في بعض الأيام: أنت قاتل مولانا، ثم يهبرونه بسيوفهم، ففعلوا ذلك، وقتلت كل من اطلع على سرها في قتل أخيها فعظمت هيبتها وقويت حرمتها وثبتت دولتها. وقد كان عمر الحاكم يوم قتل سبعاً وثلاثين سنة، ومدة ملكه من ذلك خمساً وعشرين سنة. فيها: تولى القاضي أبو جعفر أحمد بن محمد السمناني الحسبة والمواريث ببغداد، وخلع عليه السواد. (ج/ص: 12/14) وفيها: قالت جماعة من العلماء والمسلمين للملك الكبير يمين الدولة، محمود بن سبكتكين: أنت أكبر ملوك الأرض، وفي كل سنة تفتح طائفة من بلاد الكفر، وهذه طريق الحج، قد تعطلت من مدة ستين وفتحك لها أوجب من غيرها. فتقدم إلى قاضي القضاة أبي محمد الناصحي أن يكون أمير الحج في هذه السنة، وبعث معه بثلاثين ألف دينار للأعراب، غير ما جهز من الصدقات، فسار الناس بصحبته، فلما كانوا بفَيْد اعترضهم الأعراب فصالحهم القاضي أبو محمد الناصحي بخمسة آلاف دينار، فامتنعوا وصمم كبيرهم - وهو جماز بن عُدَي - على أخذ الحجيج، وركب فرسه وجال جولة واستنهض شياطين العرب، فتقدم إليه غلام من سمرقند فرماه بسهم فوصل إلى قلبه فسقط ميتاً، وانهزمت الأعراب، وسلك الناس الطريق فحجوا ورجعوا سالمين ولله الحمد والمنة. أحمد بن محمد بن أحمد بن إسماعيل بن حفص، أبو سعد الماليني، ومالين قرية من قرى هراة، كان من الحفاظ المكثرين الراحلين في طلب الحديث إلى الآفاق، وكتب كثيراً، وكان ثقة صدوقاً صالحاً، مات بمصر في شوال منها. ابن محمد بن الحسين بن رامين القاضي، أبو محمد الاستراباذي، نزل بغداد وحدث بها عن الإسماعيلي وغيره، وكان شافعياً كبيراً، فاضلاً صالحاً. الحسن بن منصور بن غالب الوزير الملقب ذا السعادتين، ولد بسيراف سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، ثم صار وزيراً ببغداد، ثم قتل وصودر أبوه علي ثمانين ألف دينار. أبو عبد الله الغزال، سمع النجاد والخلدي وابن السماك وغيرهم. قال الخطيب: كتبت عنه وكان ثقة صالحاً كثير البكاء عند الذكر. (ج/ص: 12/15) أبو بكر العنبري الشاعر، كان أدبياً ظريفاً، حسن الشعر، فمن ذلك قوله: إني نظرت إلى الزما * ن وأهله نظراً كفاني فعرفته وعرفتهم * وعرفت عزي من هواني فلذاك أطّرح الصد * يق فلا أراه ولا يراني وزهدت فيما في يديـ * ـه ودونه نيل الأماني فتعجبوا لمغالب * وهب الأقاصي للأداني وانسل من بين الزحا * م فماله في الغلب ثاني قال ابن الجوزي: وكان متصوفاً ثم خرج عنهم وذمهم بقصائد ذكرتها في تلبيس إبليس. توفي يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى منها. ابن روق بن عبد الله بن يزيد بن خالد، أبو الحسن البزار، المعروف بابن رزقويه. قال الخطيب: هو أول شيخ كتبت عنه في سنة ثلاث وأربعمائة، وكان يذكر أنه درس القرآن ودرس الفقه على مذهب الشافعي، وكان ثقة صدوقاً كثير السماع والكتابة، حسن الاعتقاد، جميل المذهب، مديماً لتلاوة القرآن، شديداً على أهل البدع، وأكب دهراً على الحديث. وكان يقول: لا أحب الدنيا إلا لذكر الله وتلاوة القرآن، وقراءتي عليكم الحديث. وقد بعث بعض الأمراء إلى العلماء بذهب فقبلوا كلهم غيره، فإنه لم يقبل شيئاً، وكانت وفاته يوم الاثنين السادس عشر من جمادى الأولى منها، عن سبع وثمانين سنة، ودفن بالقرب من مقبرة معروف الكرخي. محمد بن الحسين بن محمد بن موسى، أبو عبد الرحمن السلمي النيسابوري، روى عن الأصم وغيره، وعنه مشايخ البغداديين، كالأزهري والعشاري وغيرهما، وروى عنه البيهقي وغيره. قال ابن الجوزي: كانت له عناية بأخبار الصوفية، فصنف لهم تفسيراً على طريقتهم، وسنناً وتاريخاً، وجمع شيوخاً وتراجم وأبواباً. (ج/ص: 12/16) له بنيسابور دار معروفة، وفيها صوفية وبها قبره، ثم ذكر كلام الناس في تضعيفه في الرواية، فحكى عن الخطيب عن محمد بن يوسف القطان أنه قال: لم يكن بثقة، ولم يكن سمع من الأصم شيئاً كثيراً، فلما مات الحاكم روى عنه أشياء كثيرة جداً، وكان يضع للصوفية الأحاديث. قال ابن الجوزي: وكانت وفاته في ثالث شعبان منها. كان يعظ الناس ويتكلم على الأحوال والمعرفة، فمن كلامه: من تواضع لأحد لأجل دنياه ذهب ثلثا دينه، لأنه خضع له بلسانه وأركانه، فإن اعتقد تعظيمه بقلبه أو خضع له به ذهب دينه كله. وقال في قوله تعالى: وقال: البلاء الأكبر أن تريد ولا تُراد، وتدنو فترد إلى الطرد والأبعاد، وأنشد عند قوله تعالى: جننا بليلى وهي جنت بغيرنا * وأخرى بنا مجنونة لا نريدها وقال في قوله صلى الله عليه وسلم: ((حفت الجنة بالمكاره)): إذا كان هذا المخلوق لا وصول إليه إلا بتحمل المشاق فما الظن بمن لم يزل ؟ وقال في قوله عليه السلام: ((جبلت القلوب على حب من أحسن إليها)). يا عجباً لمن لم ير محسناً غير الله كيف لا يميل بكليته إليه ؟ قلت: كلامه على هذا الحديث جيد والحديث لا يصح بالكلية. أبو الحسن علي بن عبيد الواحد، الفقيه البغدادي، الشاعر الماجن، المعروف بصريع الدلال، قتيل الغواني ذي الرقاعتين، له قصيدة مقصورة عارض بها مقصورة ابن دريد يقول فيها: (ج/ص: 12/17) وألف حمل من متاع تستر * أنفع للمسكين من لقط النوى من طبخ الديك ولا يذبحه * طار من القدر إلى حيث انتهى من دخلت في عينه مسلّة * فسلْه من ساعته كيف العمى والذقن شعر في الوجوه طالع * كذلك العقصة من خلف القفى إلى أن ختمها بالبيت الذي حسد عليه وهو قوله: من فاته العلم وأخطأه الغنى * فذاك والكلب على حد سوى * قدم مصر في سنة ثنتى عشرة وأربعمائة، وامتدح فيها خليفتها الظاهر لإعزاز دين الله ابن الحاكم، واتفقت وفاته بها في رجبها. فيها: جرت كائنة غريبة عظيمة، ومصيبة عامة، وهي أن رجلاً من المصريين من أصحاب الحاكم اتفق مع جماعة من الحجاج المصريين على أمر سوء، وذلك أنه لما كان يوم النفر الأول طاف هذا الرجل بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر الأسود جاء ليقبله فضربه بدبوس كان معه ثلاث ضربات متواليات، وقال: إلى متى نعبد هذا الحجر؟ ولا محمد ولا علي مما أفعله، فإني أهدم اليوم هذا البيت. وجعل يرتعد فاتقاه أكثر الحاضرين وتأخروا عنه، وذلك لأنه كان رجلاً طوالاً جسيماً أحمر اللون أشقر الشعر، وعلى باب الجامع جماعة من الفرسان، وقوف ليمنعوه ممن يريد منعه من هذا الفعل، وأراده بسوء، فتقدم إليه رجل من أهل اليمن معه خنجر فوجأه بها، وتكاثر الناس عليه فقتلوه وقطعوه قطعاً، وحرقوه بالنار، وتتبعوا أصحابه فقتلوا منهم جماعة. ونهبت أهل مكة الركب المصري، وتعدى النهب إلى غيرهم، وجرت خبطة عظيمة، وفتنة كبيرة جداً، ثم سكن الحال بعد أن تتبع أولئك النفر الذين تمالؤوا على الإلحاد في أشرف البلاد غير أنه قد سقط من الحجر ثلاث فلق مثل الأظفار، وبدا ما تحتها أسمر يضرب إلى صفرة، محبباً مثل الخشخاش، فأخذ بنوشيبة تلك الفلق فعجنوها بالمسك والك وحشوا بها تلك الشقوق التي بدت، فاستمسك الحجر واستمر على ما هو عليه الآن، وهو ظاهر لمن تأمله. وفيها: فتح المارستان الذي بناه الوزير مؤيد الملك، أبو علي الحسن وزير شرف الملك بواسط، ورتب له الخزان والأشربة والأدوية والعقاقير، وغير ذلك مما يحتاج إليه. صاحب الخط المنسوب، علي بن هلال أبو الحسن بن البواب، صاحب أبي الحسين بن سمعون الواعظ، وقد أثنى على ابن البواب غير واحد في دينه وأمانته، وأما خطه وطريقته فيه فأشهر من أن ننبه عليها، وخطه أوضح تعريباً من خط أبي على بن مقلة، ولم يكن بعد ابن مقلة أكتب منه، وعلى طريقته الناس اليوم في سائر الأقاليم إلا القليل. (ج/ص: 12/18) قال ابن الجوزي: توفي يوم السبت ثاني جمادى الآخرة منها، ودفن بمقبرة باب حرب، وقد رثاه بعضهم بأبيات منها قوله: فللقلوب التي أبهجتها حرق * وللعيون التي أقررتها سهر فما لعيش وقد ودعته أرج * وما لليل وقد فارقته سحر قال ابن خلكان: ويقال له: الستري، لأن أباه كان ملازماً لستر الباب، ويقال له: ابن البواب، وكان قد أخذ الخط عن عبد الله بن محمد بن أسد بن علي بن سعيد البزاز، وقد سمع أسد هذا على النجاد وغيره، وتوفي سنة عشر وأربعمائة، وأما ابن البواب فإنه توفي في جمادى الأولى من هذه السنة، وقيل: في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، وقد رثاه بعضهم فقال: استشعرت الكتّاب فقدك سالفاً * وقضت بصحة ذلك الأيام فلذاك سودت الدُّويُّ كآبة * أسفاً عليك وشقت الأقلام ثم ذكر ابن خلكان أول من كتب العربية، فقيل: إسماعيل عليه السلام، وقيل: أول من كتب بالعربية من قريش حرب بن أمية بن عبد شمس، أخذها من بلاد الحيرة عن رجل يقال له: أسلم بن سدرة، وسأله ممن اقتبستها ؟ فقال: من واضعها رجل يقال له: مرامر بن مروة، وهو رجل من أهل الأنبار. فأصل الكتابة في العرب من الأنبار. وقال الهيثم بن عدي: وقد كان لحمير كتابة يسمونها المسند، وهي حروف متصلة غير منفصلة، وكانوا يمنعون العامة من تعلمها، وجميع كتابات الناس تنتهي إلى اثني عشر صنفاً وهي: العربية، والحميرية، واليونانية، والفارسية، والرومانية، والعبرانية، والرومية، والقبطية، والبربرية، والهندية، والأندلسية، والصينية. وقد اندرس كثير منها فقل من يعرف شيئاً منها. وفيها توفي من الأعيان: ابن سليمان بن محمد بن أبان، أبو الحسن الفارسي المعروف بالسكري الشاعر، وكان يحفظ القرآن ويعرف القراءات، وصحب أبا بكر الباقلاني، وأكثر شعره في مديح الصحابة وذم الرافضة. (ج/ص: 12/19) وكانت وفاته في شوال من هذه السنة ودفن بالقرب من قبر معروف، وقد كان أوصى أن يكتب على قبره هذه الأبيات التي عملها وهي قوله: نفس، يا نفس كما تمادين في تلفي * وتمشين في الفعال المعيب راقبي الله واحذري موقف العر * ض وخافي يوم الحساب العصيب لا تغرنَّك السلامة في العيـ * ـش فإن السليم رهن الخطوب كل حي فللمنون ولا يد * فع كأس المنون كيد الأديب واعلمي أن للمنية وقتاً * سوف يأتي عجلان غير هيوب إن حب الصديق في موقف الـ * ـحشر أمان للخائف المطلوب محمد بن أحمد بن محمد بن منصور أبو جعفر البيع، ويعرف بالعتيقي، ولد سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، وأقام بطرسوس مدة، وسمع بها وبغيرها، وحدث بشيء يسير. شيخ الإمامية الروافض، والمصنف لهم، والمحامي عن حوزتهم، كانت له وجاهة عند مملوك الأطراف، لميل كثير من أهل ذلك الزمان إلى التشيع، وكان مجلسه يحضره خلق كثير من العلماء من سائر الطوائف، وكان من جملة تلاميذه الشريف الرضي والمرتضى، وقد رثاه بقصيدة بعد وفاته في هذه السنة، منها قوله: مَنْ لعضل أخرجت منه حساماً * ومعان فضضت عنها ختاما ؟ من يثير العقول من بعد ما * كن هموداً ويفتح الأفهاما؟ من يعير الصديق رأيا * إذا ما سل في الخطوب حساما؟ فيها: قدم الملك شرف الدولة إلى بغداد فخرج الخليفة في الطيارة لتلقيه، وصحبته الأمراء والقضاة والفقهاء والوزراء والرؤساء، فلما واجهه شرف الدولة قبل الأرض بين يديه مرات والجيش واقف برمته، والعامة في الجانبين. (ج/ص: 12/20) وفيها: ورد كتاب من يمين الدولة محمود بن سبكتكين إلى الخليفة يذكر أنه دخل بلاد الهند أيضاً، وأنه فتح بلاداً، وقتل خلقاً منهم، وأنه صالحه بعض ملوكهم وحمل إليه هدايا سنية، منها فيول كثيرة، ومنها طائر على هيئة القُمري، إذا وضع عند الخوان وفيه سم دمعت عيناه وجرى منهما ماء، ومنها حجر يحك ويؤخذ منه ما تحصل منه فيطلى بها الجراحات ذات الأفواه الواسعة فيلحمها، وغير ذلك. وحج الناس من أهل العراق ولكن رجعوا على طريق الشام لاحتياجهم إلى ذلك. أبو محمد الرامهرمزي، وزير سلطان الدولة، وهو الذي بنى سور الحائر عند مشهد الحسين، قتل في شعبان منها. أبو عبد الله الكشغلي الطبري، الفقيه الشافعي، تفقه على أبي القاسم الداركي، وكان فهماً فاضلاً صالحاً زاهداً، وهو الذي درس بعد الشيخ أبي حامد الإسفرائيني في مسجده، مسجد عبد الله بن المبارك في قطيعة الربيع، وكان الطلبة عنده مكرمين، اشتكى بعضهم إليه حاجة وأنه قد تأخرت عنه نفقته التي ترد إليه من أبيه، فأخذه بيده وذهب إلى بعض التجار فاستقرض له منه خمسين ديناراً. فقال التاجر: حتى تأكل شيئاً فمد السماط فأكلوا وقال: يا جارية هاتي المال، فأحضرت شيئاً من المال فوزن منها خمسين ديناراً ودفعها إلى الشيخ، فلما قاما إذا بوجه ذلك الطالب قد تغير، فقال له الكشغلي: ما لك؟ فقال: يا سيدي قد سكن قلبي حب هذه الجارية، فرجع به إلى التاجر، فقال له: قد وقعنا في فتنة أخرى. فقال: وما هي ؟ فقال: إن هذا الفقيه قد هوى الجارية. فأمر التاجر الجارية أن تخرج فتسلمها الفقيه، وقال: ربما أن يكون قد وقع في قلبها منه مثل الذي قد وقع في قلبه منها، فلما كان عن قريب قدم على ذلك الطالب نفقته من أبيه ستمائة دينار، فوفى ذلك التاجر ما كان له عليه من ثمن الجارية والقرض، وذلك بسفارة الشيخ. توفي في ربيع الآخر منها ودفن بباب حرب. (ج/ص: 12/21) أبو الحسن الجهضمي الصوفي المكي، صاحب بهجة الأسرار، كان شيخ الصوفية بمكة، وبها توفي. قال ابن الجوزي: وقد ذكر أنه كان كذاباً، ويقال: إنه الذي وضع حديث صلاة الرغائب. أبو عمر الهاشمي البصري، قاضيها، سمع الكثير، وكان ثقة أميناً، وهو راوي سنن أبي داود عن أبي علي اللؤلؤي، توفي فيها وقد جاوز التسعين. محمد بن أحمد بن الحسن بن يحيى بن عبد الجبار أبو الفرج القاضي الشافعي، يعرف بابن سميكة، روى عن النجاد وغيره، وكان ثقة، توفي في ربيع الأول منها ودفن بباب حرب. أبو جعفر النسفي، عالم الحنفية في زمانه، وله طريقة في الخلاف، وكان فقيراً متزهداً، بات ليلة قلقاً لما عنده من الفقر والحاجة، فعرض له فكر في فرع من الفروع كان أشكل عليه، فانفتح له فقام يرقص ويقول: أين الملوك ؟ فسألته امرأته عن خبره فأعلمها بما حصل له، فتعجبت من شأنه رحمه الله. وكانت وفاته في شعبان منها. ابن جعفر بن سعدان، أبو الفتح الحفار، سمع إسماعيل الصفار والنجاد وابن الصواف، وكان ثقة، توفي في صفر عن اثنتين وتسعين سنة. فيها: ألزم الوزير جماعة الأتراك والمولدين والشريف المرتضى ونظام الحضرة أبا الحسن الزينبي وقاضي القضاة أبا الحسن بن أبي الشوارب، والشهود، بالحضور لتجديد البيعة لشرف الدولة، فلما بلغ ذلك الخليفة توهم أن تكون هذه البيعة لنية فاسدة من أجله، فبعث إلى القاضي والرؤساء ينهاهم عن الحضور، فاختلفت الكلمة بين الخليفة وشرف الدولة، واصطلحا وتصافيا، وجددت البيعة لكل منهما من الآخر. (ج/ص: 12/22) ولم يحج فيها من ركب العراق ولا خراسان أحد، واتفق أن بعض الأمراء من جهة محمود بن سبكتكين شهد الموسم في هذه السنة، فبعث إليه صاحب مصر بخلع عظيمة ليحملها للملك محمود، فلما رجع بها إلى الملك أرسل بها إلى بغداد إلى الخليفة القادر فحرقت بالنار. أبو الفرح المعدل المعروف بابن المسلمة، ولد سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وسمع أباه وأحمد بن كامل والنجاد والجهضمي ودعلج وغيرهم، وكان ثقة. سكن الجانب الشرقي من بغداد، وكان يملي في أول كل سنة مجلساً في المحرم، وكان عاقلاً فاضلاً، كثير المعروف، داره مألف لأهل العلم، وتفقه بأبي بكر الرازي، وكان يصوم الدهر، ويقرأ في كل يوم سبعاً، ويعيده بعينه في التهجد، توفي في ذي القعدة منها. ابن القاسم بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن سعيد بن أبان الضبي، أبو الحسن المحاملي، نسبة إلى المحامل التي يحمل عليها الناس في السفر، تفقه على أبي حامد الإسفراييني، وبرع فيه، حتى إن الشيخ كان يقول: هو أحفظ للفقه مني. وله المصنفات المشهورة منها (اللباب)، و(الأوسط) و(المقنع) وله في الخلاف، وعلق على أبي حامد تعليقة كبيرة. قال ابن خلكان: ولد سنة ثمان وستين وثلاثمائة، وتوفي في يوم الأربعاء لتسع بقين من ربيع الآخر منها، وهو شاب. ابن الحسين أبو القاسم الخفاف، المعروف بابن النقيب، كان من أئمة السنة، وحين بلغه موت ابن المعلم فقيه الشيعة سجد لله شكراً. وجلس للتهنئة وقال: ما أبالي أي وقت مت بعد أن شاهدت موت ابن المعلم. ومكث دهراً طويلاً يصلي الفجر بوضوء العشاء. قال الخطيب: وسألته عن مولده فقال: في سنة خمس وثلاثمائة، وأذكر من الخلفاء المقتدر والقاهر والرضي والمتقي لله والمستكفي والمطيع والطائع والقادر والغالب بالله، الذي خطب له بولاية العهد، توفي في سلخ شعبان منها عن مائة وعشر سنين. (ج/ص: 12/23) أبو حفص الدلال، قال: سمعت الشبلي ينشد قوله: وقد كان شيء سمى السرور * قديماً سمعنا به ما فعل خليلي، إن دام هم النفو * س قليلاً على ما نراه قتل يؤمل دنيا لتبقى له * فمات المؤمل قبل الأمل الأقساسي العلوي، نائب الشريف المرتضي في إمرة الحجيج، حج بالناس سنين متعددة، وله فصاحة وشعر، وهو من سلالة زيد بن علي بن الحسين. فيها: قوي أمر العيارين ببغداد ونهبوا الدور جهرة، واستهانوا بأمر السلطان. وفي ربيع الأول منها توفي شرف الدولة بن بويه الديلمي صاحب بغداد والعراق وغير ذلك، فكثرت الشرور ببغداد ونهبت الخزائن، ثم سكن الأمر على تولية جلال الدولة أبي الطاهر، وخطب له على المنابر، وهو إذ ذاك على البصرة، وخلع على شرف الملك أبي سعيد بن ماكولا وزيره، ولقب علم الدين سعد الدولة أمين الملة شرف الملك، وهو أول من لقب بالألقاب الكثيرة، ثم طلب من الخليفة أن يبايع لأبي كاليجار ولي عهد أبيه سلطان الدولة، الذي استخلفه بهاء الدولة عليهم، فتوقف في الجواب ثم وافقهم على ما أرادوا، وأقيمت الخطبة للملك أبي كاليجار يوم الجمعة سادس عشر شوال منها، ثم تفاقم الأمر ببغداد من جهة العيارين، وكبسوا الدور ليلاً ونهاراً، وضربوا أهلها كما يضرب المصادرون ويستغيث أحدهم فلا يغاث، واشتد الحال وهربت الشرطة من بغداد ولم تغن الأتراك شيئاً، وعملت السرايج على أفواه السكك فلم يفد ذلك شيئاً، وأحرقت دار الشريف المرتضى فانتقل منها، وغلت الأسعار جداً. ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان. وزر لبهاء الدولة ثلاث مرات، ووزر لشرف الدولة، وكان كاتباً سديداً عفيفاً عن الأموال، كثير الخير، سليم الخاطر، وكان إذا سمع المؤذن لا يشغله شيء عن الصلاة، وقد وقف داراً للعلم في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وجعل فيها كتباً كثيرة جداً، ووقف عليها غلة كبيرة، فبقيت سبعين سنة، ثم أحرقت عند مجيء الملك طغرلبك في سنة خمسين وأربعمائة، وكانت محلتها بين السورين، وقد كان حسن المعاشرة إلا أنه كان يعزل عماله سريعاً خوفاً عليهم من الأشر والبطر، توفي فيها وقد قارب التسعين. الجداوي الواعظ. قال ابن الجوزي: صنف كتباً في الوعظ من أبرد الأشياء، وفيه أحاديث كثيرة موضوعة، وكلمات مرذولة، إلا أنه كان خيراً صالحاً، وكانت له وجاهة عند الخلفاء والملوك، وكان الملك محمود بن سبكتكين إذا رآه قام له، وكانت محلته حمى يحتمي بها من الظلمة، وقد وقع في بلده نيسابور موت، وكان يغسل الموتى محتسباً، فغسل نحواً من عشرة آلاف ميتاً، رحمه الله. أبو منصور الوزير لشرف الدولة ولبهاء الدولة، كان وزير صدق جيد المباشرة حسن الصلاة، محافظاً على أوقاتها، وكان محسناً إلى الشعراء والعلماء، توفي فيها عن ست وسبعين سنة. أبو علي بن بهاء الدولة، أبي نصر بن عضد الدولة بن بويه، أصابه مرض حار فتوفي لثمان بقين من ربيع الآخر عن ثلاث وعشرين سنة، وثلاثة أشهر وعشرين يوماً. (ج/ص: 12/25) علي بن محمد التهامي أبو الحسن، له ديوان مشهور، وله مرثاة في ولده وكان قد مات صغيراً أولها: حكم المنية في البرية جاري * ما هذه الدنيا بدار قرار ومنها: إني لأرحم حاسديَّ لحرِّما * ضمت صدورهم من الأوغار نظروا صنيع الله بي فعيونهم * في جنة وقلوبهم في نار ومنها في ذم الدنيا: جبلت على كدر وأنت ترومها * صفواً من الأقذار والأكدار ومكلف الأيام ضد طباعها * متطلب في الماء جذوة نار وإذا رجوت المستحيل فإنما * تبني الرجاء على شفير هار ومنها قوله في ولده بعد موته: جاورت أعدائي وجاور ربه * شتان بين جواره وجواري وقد ذكر ابن خلكان أنه رآه بعضهم في المنام في هيئة حسنة فقال له بعض أصحابه: بم نلتَ هذا ؟ فقال: بهذا البيت: شتان بين جواره وجواري في العشرين من محرمها وقعت فتنة بين الاسفهلارية وبين العيارين، وركبت لهم الأتراك بالدبابات، كما يفعل في الحرب، وأحرقت دور كثيرة من الدور التي احتمى فيها العيارون، وأحرق من الكرخ جانب كبير، ونهب أهله، وتعدى بالنهب إلى غيرهم، وقامت فتنة عظيمة ثم خمدت التفنة في اليوم الثاني، وقرر على أهل الكرخ مائة ألف دينار مصادرة، لإثارتهم الفتن والشرور. وفي شهر ربيع الآخر منها شهد أبو عبد الله الحسين بن علي الصيمري عند قاضي القضاة ابن أبي الشوارب بعد ما كان استتابه عما ذكر عنه من الاعتزال. وفي رمضان منها انقض كوكب سمع له دوي كدوي الرعد، وقع في سلخ شوال برد لم يعهد مثله، واستمر ذلك إلى العشرين من ذي الحجة، وجمد الماء طول هذه المدة، وقاسى الناس شدة عظيمة، وتأخر المطر وزيادة دجلة، وقلّت الزراعة، وامتنع كثير من الناس عن التصرف. ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان في هذه السنة لفساد البلاد وضعف الدولة. (ج/ص: 12/26) ابن العباس بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، أبو الحسن القرشي الأموي، قاضي قضاة بغداد بعد ابن الأكفاني بثنتي عشرة سنة، وكان عفيفاً نزهاً، وقد سمع الحديث من أبي عمر الزاهد وعبد الباقي بن قانع، إلا أنه لم يحدث. قاله ابن الجوزي. وحكى الخطيب عن شيخه أبي العلاء الواسطي: أن أبا الحسن هذا آخر من ولي الحكم ببغداد، من سلالة محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، وقد ولي الحكم من سلالته أربعة وعشرون، منهم ولّوا قضاء قضاة بغداد، قال أبو العلاء: ما رأينا مثل أبي الحسن هذا، جلالة ونزاهة وصيانة وشرفاً. وقد ذكر القاضب الماوردي: أنه كان له صديقاً وصاحباً، وأن رجلاً من خيار الناس أوصى له بمائتي دينار، فحملها إليه الماوردي فأبى القاضي أن يقبلها، وجهد عليه كل جهد فلم يفعل، وقال له: سألتك بالله لا تذكرن هذا لأحد ما دمت حياً. ففعل الماوردي، فلم يخبر عنه إلا بعد موته. وكان ابن الشوارب فقيراً إليها، وإلى ما هو دونها فلم يقبلها، رحمه الله، توفي في شوال منها. أبو مسلم الختلي، سمع ابن بطة ودرس فقه الشافعي على الشيخ أبي حامد الإسفراييني، وكان ثقة ديناً، توفي في رمضان منها. أبو حازم الهذلي النيسابوري، سمع ابن بجيد والإسماعيلي، وخلقاً، وسمع منه الخطيب وغيره، وكان الناس ينتفعون بإفادته وانتخابه، توفي يوم عيد الفطر منها. أبو الحسن المقري المعروف بالحمامي، سمع النجاد والخلدي وابن السماك وغيرهم، وكان صدوقاً فاضلاً، حسن الاعتقاد، وتفرد بأسانيد القراءات وعلوها، توفي في شعبان منها عن تسع وثمانين سنة. (ج/ص: 12/27) ابن عيسى الربعي البغدادي، صاحب كتاب (الفصوص في اللغة) على طريقة القالي في الأمالي، صنفه للمنصور بن أبي عامر، فأجازه عليه خمسة آلاف دينار، ثم قيل له: إنه كذاب متهم. فقال في ذلك بعض الشعراء: قد غاص في الماء كتاب الفصوص * وهكذا كل ثقيل يغوص فلما بلغ صاعداً هذا البيت أنشد: عاد إلى عنصره إنما * يخرج من قعر البحور الفصوص قلت: كأنه سمى هذا الكتاب بهذا الاسم ليشاكل به الصحاح للجوهري، لكنه كان مع فصاحته وبلاغته وعلمه متهماً بالكذب، فلهذا رفض الناس كتابه، ولم يشتهر، وكان ظريفاً ماجناً سريع الجواب، سأله رجل أعمى على سبيل التهكم فقال له: ما الحُرْ تَقَلُ ؟ فأطرق ساعة وعرف أنه افتعل هذا من عند نفسه ثم رفع رأسه إليه فقال: هو الذي يأتي نساء العميان، ولا يتعداهن إلى غيرهن. فاستحى ذلك الأعمى، وضحك الحاضرون. توفي في هذه السنة سامحه الله. أحد أئمة الشافعية الكبار، علماً وزهداً وحفظاً وتصنيفاً، وإليه تنسب الطريقة الخراسانية، ومن أصحابه الشيخ أبو محمد الجويني، والقاضي حسنين، وأبو علي السبخي. قال ابن خلكان: وأخذ عنه إمام الحرمين، وفيما قاله نظر. لأن سن إمام الحرمين لا يحتمل ذلك، فإن القفال هذا مات في هذه السنة وله تسعون سنة، ودفن بسجستان، وإمام الحرمين ولد سنة تسع عشرة وأربعمائة كما سيأتي، وإنما قيل له: القفال، لأنه كان أولاً يعمل الأقفال، ولم يشتغل إلا وهو ابن ثلاثين سنة، رحمه الله تعالى.
|