الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **
الجزء الثالث عشر بسم الله الرحمن الرحيم فيها: كانت وفاة السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله تعالى. استهلت هذه السنة وهو في غاية الصحة والسلامة، وخرج هو وأخوه العادل إلى الصيد شرقي دمشق، وقد اتفق الحال بينه وبين أخيه أنه بعد ما يفرغ من أمر الفرنج يسير هو إلى بلاد الروم، ويبعث أخاه إلى بغداد، فإذا فرغا من شأنهما سارا جميعاً إلى بلاد أذربيجان، بلاد العجم، فإنه ليس دونها أحد يمانع عنها. فلما قدم الحجيج في يوم الاثنين حادي عشر صفر خرج السلطان لتلقيهم، وكان معه ابن أخيه سيف الإسلام، صاحب اليمن، فأكرمه والتزمه، وعاد إلى القلعة فدخلها من باب الجديد، فكان ذلك آخر ما ركب في هذه الدنيا. ثم إنه اعتراه حمى صفراوية ليلة السبت سادس عشر صفر، فلما أصبح دخل عليه القاضي الفاضل وابن شداد وابنه الأفضل، فأخذ يشكو إليهم كثرة قلقه البارحة، وطاب له الحديث، وطال مجلسهم عنده. ثم تزايد به المرض واستمر، وقصده الأطباء في اليوم الرابع، ثم اعتراه يبس وحصل له عرق شديد بحيث نفذ إلى الأرض، ثم قوي اليبس فأحضر الأمراء الأكابر فبويع لولده الأفضل نور الدين علي. وكان نائباً على دمشق، وذلك عندما ظهرت مخايل الضعف الشديد، وغيبوبة الذهن في بعض الأوقات، وكان الذين يدخلون عليه في هذه الحال الفاضل وابن شداد وقاضي البلد بن الزكي. ثم اشتد به الحال ليلة الأربعاء السابع والعشرين من صفر، واستدعى الشيخ أبا جعفر إمام الكلاسة ليبيت عنده يقرأ القرآن ويلقنه الشهادة إذا جد به الأمر، فذكر أنه كان يقرأ عنده وهو في الغمرات فقرأ فقال: وهو كذلك صحيح. فلما أذن الصبح جاء القاضي الفاضل فدخل عليه وهو في آخر رمق، فلما قرأ القارئ تبسم وتهلل وجهه وأسلم روحه إلى ربه سبحانه، ومات رحمه الله، وأكرم مثواه، وجعل جنات الفردوس مأواه. (ج/ص: 13/6) وكان له من العمر سبع وخمسون سنة، لأنه ولد بتكريت في شهور سنة ثنتين وثلاثين وخمسمائة، رحمه الله، فقد كان ردءاً للإسلام وحرزاً وكهفاً من كيد الكفرة اللئام، وذلك بتوفيق الله له. وكان أهل دمشق لم يصابوا بمثل مصابه، وود كل منهم لو فداه بأولاده وأحبابه وأصحابه، وقد غلقت الأسواق واحتفظ على الحواصل، ثم أخذوا في تجهيزه، وحضر جميع أولاده وأهله، وكان الذي تولى غسله خطيب البلد الفقيه الدولعي. وكان الذي أحضر الكفن ومؤنة التجهيز القاضي الفاضل من صلب ماله الحلال، هذا وأولاده الكبار والصغار يتباكون وينادون، وأخذ الناس في العويل والانتحاب والدعاء له والابتهال، ثم أبرز جسمه في نعشه في تابوت بعد صلاة الظهر. وأمّ الناس عليه القاضي ابن الزكي ثم دفن في داره بالقلعة المنصورة، ثم شرع ابنه في بناء تربة له ومدرسة للشافعية بالقرب من مسجد القدم، لوصيته بذلك قديماً، فلم يكمل بناؤها، وذلك حين قدم ولده العزيز وكان محاصراً لأخيه الأفضل كما سيأتي بيانه في سنة تسعين وخمسمائة. ثم اشترى له الأفضل داراً شمالي الكلاسة في وزان ما زاده القاضي الفاضل في الكلاسة، فجعلها تربة، هطلت سحائب الرحمة عليها، ووصلت ألطاف الرأفة إليها. وكان نقله إليها في يوم عاشوراء سنة اثنتين وتسعين، وصلى عليه تحت النسر قاضي القضاة محمد بن علي القرابي ابن الزكي، عن إذن الأفضل، ودخل في لحده ولده الأفضل فدفنه بنفسه، وهو يومئذ سلطان الشام. ويقال: إنه دفن معه سيفه الذي كان يحضر به الجهاد، وذلك عن أمر القاضي الفاضل، وتفاءلوا بأنه يكون معه يوم القيامة يتوكأ عليه، حتى يدخل الجنة إن شاء الله. ثم عمل عزاؤه بالجامع الأموي ثلاثة أيام، يحضره الخاص والعام، والرعية والحكام، وقد عمل الشعراء فيه مراثي كثيرة من أحسنها ما عمله العماد الكاتب في آخر كتابه البرق السامي، وهي مائتا بيت واثنان، وقد سردها الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الروضتين، منها قوله: شمل الهدى والملك عمّ شتاته * والدهر ساء وأقلعت حسناته أين الذي مذ لم يزل مخشيّة * مرجوةً رهباته وهباته؟ أين الذي كانت له طاعاتنا * مبذولةً ولربه طاعاته بالله أين الناصر الملك الذي * لله خالصةً صفتْ نياته؟ أين الذي ما زال سلطاناً لنا * يرجى نداه وتتقى سطواته؟ أين الذي شرف الزمان بفضله * وسمت على الفضلاء تشريفاته؟ أين الذي عنت الفرنج لبأسه * ذلاً، ومنها أدركت ثاراته؟ أغلال أعناق العدا أسيافه * أطواق أجياد الورى مناته (ج/ص: 13/7) من للعلى من للذرى من للهدى * يحميه؟ من للبأس من للنائل؟ طلب البقاء لملكه في آجلٍ * إذ لم يثق ببقاء ملكٍ عاجل بحرٌ أعاد البر بحراً بره * وبسيفه فتحت بلاد الساحل من كان أهل الحق في أيامه * وبعزه يردون أهل الباطل وفتوحه والقدس من أبكارها * أبقت له فضلاً بغير مساجل ما كنت استسقي لقبرك وابلاً * ورأيت جودك مخجلاً للوابل فسقاك رضوان الإله لأنني * لا أرتضي سقيا الغمام الهاطل قال العماد وغيره: لم يترك في خزانته من الذهب سوى جرم واحد - أي دينار واحد - صورياً وستة وثلاثين درهماً. وقال غيره: سبعة وأربعين درهماً، ولم يترك داراً ولا عقاراً ولا مزرعة ولا بستاناً، ولا شيئاً من أنواع الأملاك. هذا وله من الأولاد سبعة عشر ذكراً وابنة واحدة، وتوفي له في حياته غيرهم، والذين تأخروا بعده ستة عشر ذكراً أكبرهم الملك الأفضل نور الدين علي، ولد بمصر سنة خمس وستين ليلة عيد الفطر. ثم العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان ولد بمصر أيضاً في جمادى الأولى سنة سبع وستين. ثم الظافر مظفر الدين أبو العباس الخضر، ولد بمصر في شعبان سنة ثمان وستين، وهو شقيق الأفضل. ثم الظاهر غياث الدين أبو منصور غازي، ولد بمصر في نصف رمضان سنة ثمان وستين. ثم العزيز فتح الدين أبو يعقوب إسحاق، ولد بدمشق في ربيع الأول سنة سبعين. ثم نجم الدين أبو الفتح مسعود، ولد بدمشق سنة إحدى وسبعين وهو شقيق العزيز. ثم الأغر شرف الدين أبو يوسف يعقوب، ولد بمصر سنة ثنتين وسبعين، وهو شقيق العزيز أيضاً. ثم الزاهر مجير الدين أبو سليمان داود، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين وهو شقيق الظاهر. ثم أبو الفضل قطب الدين موسى، وهو شقيق الأفضل، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين أيضاً، ثم لقب بالمظفر أيضاً. ثم الأشرف معز الدين أبو عبد الله محمد، ولد بالشام سنة خمس وسبعين. ثم المحسن ظهير الدين أبو العباس أحمد ولد بمصر سنة سبع وسبعين، وهو شقيق الذي قبله. ثم المعظم فخر الدين أبو منصور توران شاه ولد بمصر في ربيع الأول سنة سبع وسبعين، وتأخرت وفاته إلى سنة ثمان وخمسين وستمائة. ثم الجوال ركن الدين أبو سعيد أيوب ولد سنة ثمان وسبعين، وهو شقيق للمعز. ثم الغالب نصير الدين أبو الفتح ملك شاه، ولد في رجب سنة ثمان وسبعين وهو شقيق المعظم. ثم المنصور أبو بكر أخو المعظم لأبويه، ولد بحران بعد وفاة السلطان. (ج/ص: 13/8) ثم عماد الدين شادي لأم ولد، ونصير الدين مروان لأم ولد أيضاً. وأما البنت فهي مؤنسة خاتون تزوجها ابن عمها الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب رحمهم الله تعالى. وإنما لم يخلف أموالاً ولا أملاكاً لجوده وكرمه وإحسانه إلى أمرائه وغيرهم، حتى إلى أعدائه، وقد تقدم من ذلك ما يكفي، وقد كان متقللاً في ملبسه، ومأكله ومركبه. وكان لا يلبس إلا القطن والكتان والصوف، ولا يعرف أنه تخطى إلى مكروه، ولا سيما بعد أن أنعم الله عليه بالملك، بل كان همه الأكبر ومقصده الأعظم نصره الإسلام، وكسر أعدائه اللئام، وكان يعمل رأيه في ذلك وحده، ومع من يثق به ليلاً ونهاراً، وهذا مع ما لديه من الفضائل والفواضل، والفوائد الفرائد، في اللغة والأدب وأيام الناس. حتى قيل إنه كان يحفظ الحماسة بتمامها، وكان مواظباً على الصلوات في أوقاتها في الجماعة، يقال: إنه لم تفته الجماعة في صلاة قبل وفاته بدهر طويل، حتى ولا في مرض موته، كان يدخل الإمام فيصلي به، فكان يتجشم القيام مع ضعفه. وكان يفهم ما يقال بين يديه من البحث والمناظرة، ويشارك في ذلك مشاركة قريبة حسنة، وإن لم يكن بالعبارة المصطلح عليها، وكان قد جمع له القطب النيسابوري عقيدة فكان يحفظها ويحفظها من عقل من أولاده. وكان يحب سماع القرآن والحديث والعلم، ويواظب على سماع الحديث، حتى أنه يسمع في بعض مصافه جزء وهو بين الصفين فكان يتبحبح بذلك ويقول هذا موقف لم يسمع أحد في مثله حديثاً، وكان ذلك بإشارة العماد الكاتب. وكان رقيق القلب سريع الدمعة عند سماع الحديث، وكان كثير التعظيم لشرائع الدين. كان قد صحب ولده الظاهر وهو بحلب شاب يقال له الشهاب السهروردي، وكان يعرف الكيميا وشيئاً من الشعبذة والأبواب النيرنجيات، فافتتن به ولد السلطان الظاهر، وقربه وأحبه، وخالف فيه حملة الشرع، فكتب إليه أن يقتله لا محالة، فصلبه عن أمر والده وشهره. ويقال بل حبسه بين حيطين حتى مات كمداً، وذلك في سنة ست وثمانين وخمسمائة، وكان من أشجع الناس وأقواهم بدناً وقلباً، مع ما كان يعتري جسمه من الأمراض والأسقام، ولا سيما في حصار عكا، فإنه كان مع كثرة جموعهم وأمدادهم لا يزيده ذلك إلا قوة وشجاعة، وقد بلغت جموعهم خمسمائة ألف مقاتل، ويقال: ستمائة ألف، فقتل منهم مائة ألف مقاتل. ولما انفصل الحرب وتسلموا عكا وقتلوا من كان بها من المسلمين وساروا برمتهم إلى القدس جعل يسايرهم منزلة منزلة، وجيوشهم أضعاف أضعاف من معه، ومع هذا نصره الله وخذلهم، وسبقهم إلى القدس فصانه وحماه منهم، ولم يزل بجيشه مقيماً به يرهبهم ويرعبهم ويغلبهم ويسلبهم حتى تضرعوا إليه وخضعوا لديه، ودخلوا عليه في الصلح، وأن تضع الحرب أوزارها بينهم وبينه، فأجابهم إلى ما سألوا على الوجه الذي أراده، لا على ما يريدونه، وكان ذلك من جملة الرحمة التي رحم الله بها المؤمنين. فإنه ما انقضت تلك لسنون حتى ملك البلاد أخوه العادل فعز به المسلمون وذل به الكافرون، وكان سخياً جبياً ضحوك الوجه كثير البشر، لا يتضجر من خير يفعله، شديد المصابرة على الخيرات والطاعات، فرحمه الله وقد ذكر الشيخ شهاب الدين أبو شامة طرفاً صالحاً من سيرته وأيامه، وعدله في سريرته وعلانيته، وأحكامه. (ج/ص: 13/9) وكان قد قسم البلاد بين أولاده، فالديار المصرية لولده العزيز عماد الدين أبي الفتح، ودمشق وما حولها لولده الأفضل نور الدين علي، وهو أكبر أولاده، والمملكة الحلبية لولده الظاهر غازي غياث الدين، ولأخيه العادل الكرك والشوبك وبلاد جعبر وبلدان كثيرة قاطع الفرات. وحماه ومعاملة أخرى معها للملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر بن أخي السلطان، وحمص والرحبة وغيرها لأسد الدين بن شيركوه بن ناصر الدين بن محمد بن أسد الدين شيركوه الكبير، نجم الدين أخي أبيه نجم الدين أيوب. واليمن بمعاقله ومخالفيه جميعه في قبضة السلطان ظهير الدين سيف الإسلام طغتكين بن أيوب، أخي السلطان صلاح الدين، وبعلبك وأعمالها للأمجد بهرام شاه بن فروخ شاه، وبصرى وأعمالها للظافر بن الناصر. ثم شرعت الأمور بعد موت صلاح الدين تضطرب وتختلف في جميع هذه الممالك، حتى آل الأمر واستقرت الممالك واجتمعت الكلمة على الملك العادل أبي بكر صلاح الدين، وصارت المملكة في أولاده كما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى. وفيها: جدد الخليفة الناصر لدين الله خزانة كتب المدرسة النظامية ببغداد، ونقل إليها ألوفاً من الكتب الحسنة المثمنة، وفي المحرم منها جرت ببغداد كائنة غريبة وهي أن ابنة لرجل من التجار في الطحين عشقت غلام أبيها فلما علم أبوها بأمرها طرد الغلام من داره فواعدته البنت ذات ليلة أن يأتيها فجاء إليها مختفياً فتركته في بعض الدار. فلما جاء أبوها في أثناء الليل أمرته فنزل فقتله، وأمرته بقتل أمها وهي حبلى، وأعطته الجارية حلياً بقيمة ألفي دينار، فأصبح أمره عند الشرطة فمسك وقتل قبحه الله، وقد كان سيده من خيار الناس وأكثرهم صدقة وبراً، وكان شاباً وضيء الوجه رحمه الله. وفيها: درّس بالمدرسة الجديدة عند قبر معروف الكرخي الشيخ أبو علي التويابي وحضر عنده القضاة والأعيان، وعمل بها دعوة حافلة. السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ابن شاذي، وقد تقدمت وفاته مبسوطة. (ج/ص: 13/10) قتل في هذه السنة، وكان من خيار الملوك وأشجعهم وأحسنهم سيرة رحمه الله. ابن مودود بن زنكي، صاحب الموصل نحواً من ثلاث عشرة سنة، من خيار الملوك، كان بنسبه نور الدين الشهيد عمه، ودفن بتربته عند مدرسة أنشأها بالموصل أثابه الله. أبو الحسن أحد الكتاب بالعراق، كان ينسب إلى التشيع، وهذا كثير في أهل تلك البلاد لا أكثر الله منهم، جاءه رجل ذات يوم فقال له رأيت البارحة أمير المؤمنين علياً في المنام. فقال لي: اذهب إلى ابن فطيرا فقل له يعطيك عشرة دنانير. فقال له ابن فطيرا: متى رأيته؟ قال: أول الليل. فقال ابن فطيرا وأنا رأيته آخر الليل فقال لي: إذا جاءك رجل من صفته كذا وكذا فطلب منك شيئاً فلا تعطه، فأدبر الرجل مولياً فاستدعاه ووهبه شيئاً. ومن شعره فيما أورده ابن الساعي وقد تقدم ذلك لغيره: ولما سبرت الناس أطلب منهم * أخا ثقةٍ عند اعتراض الشدائد وفكرت في يومي سروري وشدتي * وناديت في الأحياء هل من مساعد؟ فلم أر فيما ساءني غير شامتٍ * ولم أر فما سرني غير حاسد أبو العباس البصري النجراني صاحب المقامات، كان شاعراً أديباً فاضلاً بليغاً، له اليد الطولى في اللغة والنظم، ومن شعره قوله: غناء خودٍ ينساب لطفاً * بلا عناءٍ في كل أذن ما رده قط باب سمعٍ * ولا أتى زائراً بإذن (ج/ص: 13/ 11) بنت الإمام المقتفي لأمر الله، أخت المستنجد وعمة المستضيء، كانت قد عمرت طويلاً ولها صدقات كثيرة دارة، وقد تزوجها في وقت السلطان مسعود على صداق مائة ألف دينار، فتوفي قبل أن يدخل بها، وقد كانت كارهة لذلك، فحصل مقصودها وطلبتها. بنت محمد بن الحسن العميد، كانت عابدة زاهدة، عمرت مائة سنة وست سنين، كان قد تزوجها في وقت أمير الجيوش مطر وهي بكر، فبقيت عنده إلى أن توفي ولم تتزوج بعده، بل اشتغلت بذكر الله عز وجل والعبادة، رحمها الله. وفيها: أنفذ الخليفة الناصر العباسي إلى الشيخ أبي الفرج بن الجوزي يطلب منه أن يزيد على أبيات عدي بن زيد المشهورة ما يناسبها من الشعر، ولو بلغ ذلك عشر مجلدات، وهي هذه الأبيات: أيها الشامت المعير بالدهـ * ـر أأنت المبرأ الموفور أم لديك العهد الوثيق من الـ * أيام، بل أنت جاهلٌ مغرور من رأيت المنون خلدت أم من * ذا عليه من أن يضام خفير أين كسرى كسر الملوك أبو * ساسان أم أين قبله سابور؟ وبنوا الأصفر الملوك ملوك الر * وم لم يبق منهم مذكور وأخو الحضر إذ بناه وإذ * دجلة تجبى إليه والخابور شاده مرمراً وجلله كلساً * فللطير في ذراه وكور لم تهبه ريب المنون فزا * ل الملك عنه فبابه مهجور وتذكر رب الخورنق إذ * أشرف يوماً وللهندي تكفير سره حاله وكثرة ما * يملك والبحر معرضاً والسدير فارعوى قلبه وقال وما * غبطة حي إلى الممات يصير ثم بعد النعيم والملك والنهي والـ * أمر وارتهم هناك قبور ثم أضحوا كأنهم أورق جفـ * ـت فألوت بها الصبا والدبور غير أن الأيام تختص بالمرء * وفيها لعمري العظات والتفكير (ج/ص: 13/12) لما استقر الملك الأفضل بن صلاح الدين مكان أبيه بدمشق، بعث بهدايا سنية إلى باب الخليفة الناصر، من ذلك سلاح أبيه وحصانه الذي كان يحضر عليه الغزوات. ومنها صليب الصلبوت الذي استلبه أبوه من الفرنج يوم حطين، وفيه من الذهب ما ينيف على عشرين رطلاً مرصعاً بالجواهر النفيسة، وأربع جواري من بنات ملوك الفرنج، وأنشأ له العماد الكاتب كتاباً حافلاً يذكر فيه التعزية بأبيه، والسؤال من الخليفة أن يكون في الملك من بعده، فأجيب إلى ذلك. ولما كان شهر جمادى الأولى قدم العزيز صاحب مصر إلى دمشق ليأخذها من أخيه الأفضل فخيم على الكسوة يوم السبت سادس جمادى، وحاصر البلد، فمانعه أخوه ودافعه عنها، فقطع الأنهار ونهبت الثمار، وأشتد الحال، ولم يزل الأمر كذلك حتى قدم العادل عمهما فأصلح بينهما. ورد الأمر للألفة بعد اليمين على أن يكون للعزيز القدس وما جاور فلسطين من ناحيته أيضاً، وعلى أن يكون جبلة واللاذقية للظاهر صاحب حلب، وأن يكون لعمهما العادل أقطاعه الأول ببلاد مصر مضافاً إلى ما بيده من الشام، والجزيرة، كحران، والرها، وجعبر وما جاور ذلك. فاتفقوا على ذلك، وتزوج العزيز بابنة عمه العادل، ومرض ثم عوفي وهو مخيم بمرج الصفر، وخرجت الملوك لتهنئته بالعافية والتزويج والصلح، ثم كر راجعاً إلى مصر لطول شوقه إلى أهله وأولاده، وكان الأفضل بعد موت أبيه قد أساء التدبير فأبعد أمراء أبيه وخواصه، وقرب الأجانب وأقبل على شرب المسكر واللهو واللعب. واستحوذ عليه وزيره ضياء الدين ابن الأثير الجزري، وهو الذي كان يحدوه إلى ذلك، فتلف وأتلفه، وأضل وأضله، وزالت النعمة عنهما كما سيأتي. وفيها: كانت وقعة عظيمة بين شهاب الدين ملك غزنة وبين كفار الهند، أقبلوا إليه في ألف ألف مقاتل، ومعهم سبعمائة فيل منها فيل أبيض لم ير مثله، فالتقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً لم ير مثله. فهزمهم شهاب الدين عند نهر عظيم يقال له الملاحون، وقتل ملكهم واستحوذ على حواصله وحواصل بلاده وغنم فيلتهم ودخل بلد الملك الكبرى، فحمل من خزانته ذهباً وغيره على ألف وأربعمائة جمل، ثم عاد إلى بلاده سالماً منصوراً. وفيها: ملك السلطان خوارزم شاه تكش - ويقال له ابن الأصباعي - بلاد الري وغيرها، واصطلح مع السلطان طغرلبك السلجوقي وكان قد تسلم بلاد الري وسائر مملكة أخيه سلطان شاه وخزائنه، وعظم شأنه، ثم التقى هو والسلطان طغرلبك في ربيع الأول من هذه السنة. (ج/ص: 13/13) فقتل السلطان طغرلبك، وأرسل رأسه إلى الخليفة، فعلق على باب النوبة عدة أيام، وأرسل الخليفة الخلع والتقاليد إلى السلطان خوارزم شاه، وملك همدان وغيرها من البلاد المتسعة. وفيها: نقم الخليفة على الشيخ أبي الفرج بن الجوزي وغضب عليه، ونفاه إلى واسط، فمكث بها خمسة أيام لم يأكل طعاماً، وأقام بها خمسة أعوام يخدم نفسه ويستقي لنفسه الماء، وكان شيخاً كبيراً قد بلغ ثمانين سنة، وكان يتلو في كل يوم وليلة ختمة. قال: ولم أقرأ يوسف لوجدي على ولدي يوسف، إلى أن فرج الله كما سيأتي إن شاء الله. أبو الخير القزويني الشافعي المفسر، قدم بغداد ووعظ بالنظامية، وكان يذهب إلى قوم الأشعري في الأصول، وجلس في يوم عاشوراء فقيل له: العن يزيد بن معاوية. فقال: ذاك إمام مجتهد، فرماه الناس بالآجر فاختفى ثم هرب إلى قزوين. أبو محمد القاسم بن فيرة بن أبي القاسم خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي الضرير، مصنف (الشاطبية) في القراءات السبع، فلم يسبق إليها ولا يلحق فيها، وفيها من الرموز كنوز لا يهتدي إليها إلا كل ناقد بصير، هذا مع أنه ضرير ولد سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة. وبلده شاطبة - قرية شرقي الأندلس -كان فقيراً، وقد أريد أن يلي خطابة بلده فامتنع من ذلك لأجل مبالغة الخطباء على المنابر في وصف الملوك، خرج الشاطبي إلى الحج فقدم الإسكندرية سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة. وسمع على السلفي وولاه القاضي الفاضل مشيخة الإقراء بمدرسته، وزار القدس وصام به شهر رمضان، ثم رجع إلى القاهرة، فكانت وفاته بها في جمادى الآخرة من هذه السنة، ودفن بالقرافة بالقرب من التربة الفاضلية، وكان ديناً خاشعاً ناسكاً كثير الوقار، لا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان يتمثل كثيراً بهذه الأبيات، وهي لغز في النعش، وهي لغيره: أتعرف شيئاً في السماء يطير * إذا سار هاج الناس حيث يسير فتلقاه مركوباً وتلقاه راكباً * وكل أمير يعتليه أسير يحث على التقوى ويكره قربه * وتنفر منه النفس وهو نذير ولم يستزر عن رغبة في زيارة * ولكن على رغم المزور يزور (ج/ص: 13/14) فيها: كانت وقعة الزلاقة ببلاد الأندلس شمالي قرطبة، بمرج الحديد، كانت وقعة عظيمة نصر الله فيها الإسلام وخذل فيها عبدة الصلبان. وذلك أن القيش ملك الفرنج ببلاد الأندلس، ومقر ملكه بمدينة طليطلة، كتب إلى الأمير يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ملك الغرب يستنخيه ويستدعيه ويستحثه إليه، ليكون من بعض من يخضع له في مثالبه وفي قتاله، في كلام طويل فيه تأنيب وتهديد ووعيد شديد. فكتب السلطان يعقوب بن يوسف في رأس كتابه فوق خطه: ثم نهض من فوره في جنوده وعساكره، حتى قطع الزقاق إلى الأندلس، فالتقوا في المحل المذكور، فكانت الدائرة أولاً على المسلمين، فقتل منهم عشرون ألفاً، ثم كانت أخيراً على الكافرين فهزمهم الله وكسرهم وخذلهم أقبح كسرة، وشر هزيمة وأشنعها. فقتل منهم مائة ألف وثلاثة وأربعون ألفاً، وأسر منهم ثلاثة عشر ألفاً، وغنم المسلمون منهم شيئاً كثيراً، من ذلك مائة ألف خيمة وثلاثة وأربعون خيمة، ومن الخيل ستة وأربعون ألف فرس؛ ومن البغال مائة ألف بغل، ومن الحمر مثلها، ومن السلاح التام سبعون ألفاً، ومن العدد شيء كثير، وملك عليهم من حصونهم شيئاً كثيراً، وحاصر مدينتهم طليطلة مدة، ثم لم يفتحها فانفصل عنها راجعاً إلى بلاده. ولما حصل للقيش ما حصل حلق لحيته ورأسه ونكس صليبه وركب حماراً وحلف لا يركب فرساً ولا يتلذذ بطعام ولا ينام مع امرأة حتى تنصره النصرانية. ثم طاف على ملوك الفرنج فجمع من الجنود ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فاستعد له السلطان يعقوب فالتقيا فاقتتلا قتالاً عظيماً لم يسمع بمثله، فانهزم الفرنج أقبح من هزيمتهم الأولى، وغنموا منهم نظير ما تقدم أو أكثر، واستحوذ السلطان على كثير من معاملهم وقلاعهم، ولله الحمد والمنة. حتى قيل إنه بيع الأسير بدرهم، والحصان بخمسة دراهم، والخيمة بدرهم، والسيف بدون ذلك ثم قسم السلطان هذه الغنائم على الوجه الشرعي، فاستغنى المجاهدون إلى الأبد، ثم طلبت الفرنج من السلطان الأمان فهادنهم على وضع الحرب خمس سنين، وإنما حمله على ذلك أن رجلاً يقال له علي بن إسحاق التوزي الذي يقال له المكلثم، ظهر ببلاد إفريقية فأحدث أموراً فظيعة في غيبة السلطان، واشتغاله بقتال الفرنج مدة ثلاث سنين. فأحدث هذا المارق التوزي بالبادية حوادث، وعاث في الأرض فساداً، وقتل خلقاً كثيراً، وتملك بلاداً. (ج/ص: 13/15) وفي هذه السنة والتي قبلها استحوذ جيش الخليفة على بلاد الري وأصبهان وهمدان وخوزستان وغيرها من البلاد، وقوي جانب الخلافة على الملوك والممالك. وفيها: خرج العزيز من مصر قاصداً دمشق ليأخذها من يد أخيه الأفضل، وكان الأفضل قد تاب وأناب وأقلع عما كان فيه من الشراب واللهو واللعب، وأقبل على الصيام والصلاة، وشرع بكتابة مصحف بيده، وحسنت طريقته، غير أن وزيره الضيا الجزري يفسد عليه دولته، ويكدر عليه صفوته. فلما بلغ الأفضل إقبال أخيه نحوه سار سريعاً إلى عمه العادل وهو بجعبر فاستنجده فسار معه وسبقه إلى دمشق، وراح الأفضل أيضاً إلى أخيه الظاهر بحلب، فسارا جميعاً نحو دمشق. فلما سمع العزيز بذلك وقد اقترب من دمشق، كر راجعاً سريعاً إلى مصر، وركب وراءه العادل والأفضل ليأخذا منه مصر، وقد اتفقا على أن يكون ثلث مصر للعادل وثلثاها للأفضل، ثم بدا للعادل في ذلك فأرسل للعزيز يثبته، وأقبل على الأفضل يثبطه. وأقاما على بلبيس أياماً حتى خرج إليهما القاضي الفاضل من جهة العزيز، فوقع الصلح على أن يرجع القدس ومعاملتها للأفضل، ويستقر العادل مقيما بمصر على إقطاعه القديم، فأقام العادل بها طمعاً فيها ورجع العادل إلى دمشق بعدما خرج العزيز لتوديعه، وهي هدنة على قذا، وصلح على دخن. أبو الحسن الكاتب البغدادي، كان أديباً شاعراً. من شعره قوله: نفى رقادي ومضى * برق بسلع ومضا لاح كما سلت يد الـ * أسود عضباً أبيضا كأنه الأشهب في * النقع إذا ما ركضا يبدو كما تختلف الر * يح على جمر الغضا فتحسب الريح أبـ *ـدا نظراً و غمضا أو شعلة النار علا * لهيبها وانخفضا آهٍ له من بارقٍ * ضاء على ذات الأضا أذكرني عهداً مضى * على الغوير وانقضى فقال لي قلبي أتو * صي حاجة وأعرضا يطلب من أمرضه * فديت ذاك الممرضا (ج/ص: 13/16) يا غرض القلب لقد * غادرت قلبي غرضا لأسهمٍ كأنما * يرسلها صرف القضا فبت لا أرتاب في * أنَّ رقادي قد قضى حتى قفا الـليل وكاد * الـليل أن ينقرضا وأقبل الصبح لأطـ * ـراف الدجا مبيضا وسل في الشرق على الغـ * ـرب ضياء وانقضى في رجب منها أقبل العزيز من مصر ومعه عمه العادل في عساكر، ودخلا دمشق قهراً، وأخرجا منها الأفضل ووزيره الذي أساء تدبيره، وصلى العزيز عند تربة والده صلاح، وخطب له بدمشق، ودخل القلعة المنصورة في يوم وجلس في دار العدل للحكم والفصل، وكل هذا وأخوه الأفضل حاضر عنده في الخدمة، وأمر القاضي محيي الدين بن الزكي بتأسيس المدرسة العزيزية إلى جانب تربة أبيه وكانت داراً للأمير عز الدين شامة. ثم استناب على دمشق عمه الملك العادل ورجع إلى مصر يوم الاثنتين تاسع شوال، والسكة والخطبة بدمشق له، وصولح الأفضل على صرخد، وهرب وزيره ابن الأثير الجزري إلى جزيرته، وقد أتلف نفسه ومُلكه، وملكه بجريرته، وانتقل الأفضل إلى صرخد بأهله وأولاده، وأخيه قطب الدين. وفي هذه السنة هبت ريح شديدة سوداء مدلهمة بأرض العراق ومعها رمل أحمر، حتى احتاج الناس إلى السرج بالنهار. وفيها: ولى قوام الدين أبو طالب يحيى بن سعد بن زيادة كتاب (الإنشاء) ببغداد، وكان بليغاً، وليس هو كالفاضل. وفيها: درّس مجير الدين أبو القاسم محمود بن المبارك بالنظامية، وكان فاضلاً مناظراً. وفيها مات الوزير وزير الخلافة: محمد بن علي بن القصاب، وكان أبوه يبيع اللحم في بعض أسواق بغداد. فتقدم ابنه وساد أهل زمانه. توفي بهمدان وقد أعاد رساتيق كثيرة من بلاد العراق وخراسان وغيرها، إلى ديوان الخلافة، وكان ناهضاً ذا همة وله صرامة وشعر جيد. وفيها توفي:(ج/ص: 13/ 17) التوقاني الشافعي، عائداً من الحج. والشاعر: ابن المعلم الهرثي من قرى واسط، عن إحدى وتسعين سنة، وكان شاعراً فصيحاً، وكان ابن الجوزي في مجالسه يستشهد بشيء من لطائف أشعاره، وقد أورد ابن الساعي قطعة جيدة من شعره الحسن المليح. وفيها توفي: ابن الحسن البغدادي المعروف بابن العريف، ويلقب بالبيع الفاسد، كان حنبلياً ثم اشتغل شافعياً على أبي القاسم بن فضلان، وهو الذي لقبه بذلك لكثرة تكراره على هذه المسألة بين الشافعية والحنفية، ويقال إنه صار بعد هذا كله إلى مذهب الإمامية فالله أعلم. وفيها توفي: محمد بن علي بن مغيث بن الدهان الفرضي الحاسب المؤرخ البغدادي، قدم دمشق وامتدح الكندي أبو اليمن زيد بن الحسن فقال: يا زيد زادك ربي من مواهبه * نعماً يقصر عن إدراكها الأمل لا بدل الله حالاً قد حباك بها * ما دار بين النحاة الحال والبدل النحو أنت أحق العالمين به * أليس باسمك فيه يضرب المثل فيها: ورد كتاب من القاضي الفاضل إلى ابن الزكي يخبره فيه أن في ليلة الجمعة التاسع من جمادى الآخرة أتى عارض فيه ظلمات متكاثفة، وبروق خاطفة، ورياح عاصفة، فقوي الجو بها واشتد هبوبها قد أثبت لها أعنة مطلقات، وارتفعت لها صفقات، فرجفت لها الجدران واصطفقت، وتلاقت على بعدها واعتنقت، وثار السماء والأرض عجاجاً. حتى قيل إن هذه على هذه قد انطبقت، ولا يحسب إلا أن جهنم قد سال منها وادٍ، وعدا منها عادٍ، وزاد عصف الريح إلى أن أطفأ سرج النجوم، ومزقت أديم السماء، ومحت ما فوقه من الرقوم، فكنا كما قال تعالى: ويردون أيديهم على أعينهم من البوارق، لا عاصم لخطف الأبصار، ولا ملجأ من الخطب إلا معاقل الاستغفار. وفر الناس نساء ورجالاً وأطفالاً، ونفروا من دورهم خفافاً وثقالاً، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، فاعتصموا بالمساجد الجامعة، وأذعنوا للنازلة بأعناق خاضعة، بوجوه عانية، ونفوس عن الأهل والمال سالية، ينظرون من طرف خفي. ويتوقعون أي خطب جلي، قد انقطعت من الحياة علقهم، وعميت عن النجاة طرقهم، ووقعت الفكرة فيما هم عليه قادمون، وقاموا على صلاتهم وودوا لو كانوا من الذين عليها دائمون، إلى أن أذن بالركود، وأسعف الهاجدون بالهجود. فأصبح كل مسلم على رفيقه، ويهنيه بسلامة طريقه، ويرى أنه قد بعث بعد النفخة، وأفاق بعد الصيحة والصرخة، وأن الله قد رد له الكرة، وأحياه بعد أن كاد يأخذه على غرة. ووردت الأخبار بأنها قد كسرت المراكب في البحار، والأشجار في القفار، وأتلفت خلقاً كثيراً من السفار، ومنهم من فّر فلا ينفعه الفرار. إلى أن قال: ولا يحسب المجلس أني أرسلت القلم محرفاً والعلم مجوفاً، فالأمر أعظم، ولكن الله سلم، ونرجو أن الله قد أيقظنا بما به وعظنا، ونبهنا بما فيه ولهنا، فما من عباده إلا من رأى القيامة عياناً، ولم يلتمس عليها من بعد ذلك برهاناً، إلا أهل بلدنا فما قص الأولون مثلها في المثلات، ولا سبقت لها سابقة في المعضلات. والحمد لله الذي من فضله قد جعلنا نخبر عنها، ولا يخبر عنا، ونسأل الله أن يصرف عنا عارض الحرص والغرور، ولا يجعلنا من أهل الهلاك والثبور. وفيها: كتب القاضي الفاضل من مصر إلى الملك العادل بدمشق يحثه على قتال الفرنج، ويشكره على ما هو بصدده من محاربتهم، وحفظ حوزة الإسلام، فمن ذلك قوله في بعض تلك الكتب. هذه الأوقات التي أنتم فيها عرائس الأعمار، وهذه النفقات التي تجري على أيديكم مهور الحور في دار القرار، وما أسعد من أودع يد الله ما في يديه، فتلك نعم الله عليه، وتوفيقه الذي ما كل من طلبه وصل إليه، وسواد العجاج في هذه المواقف بباطن ما سودته الذنوب من الصحائف، فما أسعد تلك الوقفات وما أعود بالطمأنينة تلك الرجعات. وكتب أيضاً أدام الله ذلك الاسم تاجاً على مفارق المنابر والطروس، وحياه للدينا وما فيها من الأجساد والنفوس، وعرف المملوك من الأمر الذي اقتضته المشاهدة، وجرت به العافية في سرور، ولا يزيد على سيبه الحال بقوله: ألم تر أن المرء تدوي يمينه * فيقطعها عمداً ليسلم سائره ولو كان فيها تدبير لكان مولانا سبق إليه، ومن قلم من الإصبع ظفراً فقد جلب إلى الجسد بفعله نفعاً، ودفع عنه ضرراً، وتجشم المكروه ليس بضائر إذا كان ما جلبه سبباً إلى المحمود، وآخر سنوه أول كل غزوه، فلا يسأم مولانا نية الرباط وفعلها، وتجشم الكلف وحملها. فهو إذا صرف وجهه إلى وجه واحد وهو وجه الله، صرف الوجوه إليه كلها: وفي هذه السنة انقضت مدة الهدنة التي كان عقدها الملك صلاح الدين للفرنج فأقبلوا بحدهم وحديدهم، فتلقاهم الملك العادل بمرج عكا فكسرهم وغنمهم، وفتح يافا عنوة ولله الحمد والمنة. وقد كانوا كتبوا إلى ملك الألمان يستنهضونه لفتح بيت المقدس فقدر الله هلاكه سريعاً، وأخذت الفرنج في هذه السنة بيروت من نائبها عز الدين شامة من غير قتال ولا نزال، ولهذا قال بعض الشعراء في الأمير شامة: سلم الحصن ما عليك ملامة * ما يلام الذي يروم السلامة فتعطى الحصون من غير حربٍ * سنةٌ سنها ببيروت شامة ومات فيها ملك الفرنج كندهري، سقط من شاهق فمات، فبقيت الفرنج كالغنم بلا راعٍ، حتى ملكوا عليهم صاحب قبرس وزوجوه بالملكة امرأة كندهري، وجرت خطوب كثيرة بينهم وبين العادل، ففي كلها يستظهر عليهم ويكسرهم، ويقتل خلقاً من مقاتلتهم، ولم يزالوا كذلك معه حتى طلبوا الصلح والمهادنة، فعاقدهم على ذلك في السنة الآتية. أخو السلطان صلاح الدين، وكان قد جمع أموالاً جزيلة جداً، وكان يسبك الذهب مثل الطواحين ويدخره كذلك، وقام في الملك بعده ولده إسماعيل، وكان أهوج قليل التدبير، فحمله جهله على أن ادّعى أنه قرشي أموي، وتلقب بالهادي. فكتب إليه عمه العادل ينهاه عن ذلك ويتهدده بسبب ذلك، فلم يقبل منه ولا التفت إليه، بل تمادى وأساء التدبير إلى الأمراء والرعية، فقتل وتولى بعده مملوك من مماليك أبيه. (ج/ص: 13 /20) وفيها توفي: كان من أكابر أمراء صلاح الدين، وهو الذي كان نائباً على عكا، وخرج منها قبل أخذ الإفرنج، ثم دخلها بعد المشطوب، فأخذت منه، واستنابه صلاح الدين على القدس. ثم لما أخذها العزيز عزل عنها فطلب إلى بغداد فأكرم إكراماً زائداً، وأرسله الخليفة مقدماً على العساكر إلى همدان، فمات هناك. وفيها توفي: البخاري، سمع الحديث على أبي الوقت وغيره، وتفقه على أبي القاسم بن فضلان، وتولى نيابة الحكم ببغداد، ثم استقل بالمنصب وأضيف إليه في وقت نيابة الوزارة، ثم عزل عن القضاء ثم أعيد ومات وهو حاكم، نسأل الله العافية، وكان فاضلاً بارعاً من بيت فقه وعدالة وله شعر: تنحّ عن القبيح ولا ترده * ومن أوليته حسناً فزده كفا بك من عدوك كل كيدٍ * إذا كاد العدو ولم تكده وفيها توفي: أبو محمد الحسن بن علي بن حمزة بن محمد بن الحسن بن محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن يحيى بن الحسين بن يزيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب العلوي الحسيني المعروف بابن الأقساسي، الكوفي مولداً ومنشأ. كان شاعراً مطبقاً، امتدح الخلفاء والوزراء، وهو من بيت مشهور بالأدب والرياسة والمروءة، قدم بغداد فامتدح المقتفي والمستنجد وابنه المستضيء وابنه الناصر، فولاه النقابة كان شيخاً مهيباً، جاوز الثمانين، وقد أورد له ابن الساعي قصائد كثيرة منها: اصبر على كيد الزما * ن فما يدوم على طريقة سبق القضاء فكن به * راضٍ ولا تطلب حقيقة كم قد تغلب مرةً * وأراك من سعةٍ وضيقة ما زال في أولاده * يجري على هذي الطريقة وفيها توفيت: (ج/ص: 13/21) ابن أيوب، ودفنت بمدرستها داخل باب النصر، والست خاتون والدة الملك العادل، ودفنت بدراها بدمشق المجاورة لدار أسد الدين شيركوه. فيها: جمعت الفرنج جموعها وأقبلوا فحاصروا تبنين، فاستدعى العادل بني أخيه لقتالهم، فجاءه العزيز من مصر، والأفضل من صرخند. فأقلعت الفرنج عن الحصن وبلغهم موت ملك الألمان فطلبوا من العادل الهدنة والأمان، فهادنهم ورجعت الملوك إلى أماكنها، وقد عظم المعظم عيسى بن العادل في هذه المرة، واستنابه أبوه على دمشق، وسار إلى ملكه بالجزيرة، فأحسن فيهم السيرة. وكان قد توفي في هذه السنة السلطان صاحب سنجار وغيرها من المدائن الكبار، وهو عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي الأتابكي، كان من خيار الملوك وأحسنهم شكلاً وسيرة، وأجودهم طوية وسريرة، غير أنه كان يبخل، وكان شديد المحبة للعلماء، ولا سيما الحنفية. وقد ابتنى لهم مدرسة بسنجار، وشرط لهم طعاماً يطبخ لكل واحد منهم في كل يوم، وهذا نظر حسن، والفقيه أولى بهذه الحسنة من الفقير، لاشتغال الفقيه بتكراره ومطالعته عن الفكر فيما يقيته، فعدى على أولاده ابن عمه صاحب الموصل، فأخذ الملك منهم، فاستغاث بنوه بالملك العادل، فرد فيهم الملك ودرأ عنهم الضيم، واستقرت بالمملكة لولده قطب الدين محمد. ثم سار الملك إلى ماردين فحاصرها في شهر رمضان، فاستولى على ريفها ومعاملتها، وأعجزته قلعتها، فطاف عليها ومشى، وما ظن أحد أنه تملكها، لأن ذلك لم يكن مثبوتاً ولا مقداراً. وفيها: ملكت الخزر مدينة بلخ وكسروا الخطا وقهروهم، وأرسل الخليفة إليهم أن يمنعوا خوارزم شاه من دخول العراق، فإنه كان يروم أن يخطب له ببغداد. وفيها: حاصر خوارزم شاه مدينة بخارى ففتحها بعد مدة، وقد كانت امتنعت عليه دهراً ونصرهم الخطا، فقهرهم جميعاً وأخذها عنوة، وعفا عن أهلها وصفح. وقد كانوا ألبسوا كلباً أعور قباء وسموه خوارزم شاه، ورموه في المنجيق إلى الخوارزمية، وقالوا هذا مالكم، وكان خوارزم شاه أعور، فلما قدر عليهم عفا عنهم، جزاه الله خيراً. (ج/ص: 13/22) كاتب الإنشاء بباب الخلافة، وهو أبو طالب يحيى بن سعيد بن هبة الله بن علي بن زيادة، انتهت إليه رياسة الرسائل والإنشاء والبلاغة والفصاحة في زمانه بالعراق. وله علوم كثيرة غير ذلك من الفقه على مذهب الشافعي، أخذه عن ابن فضلان، وله معرفة جيدة بالأصلين الحساب واللغة، وله شعر جيد وقد ولي عدة مناصب كان مشكوراً في جميعها، ومن مستجاد شعره قوله: لا تحقرن عدواً تزدريه فكم * قد أتعس الدهر جد الجد باللعب فهذه الشمس يعروها الكسوف لها * على جلالتها بالرأس والذنب وله: باضطراب الزمان ترتفع الأنـ * ـذال فيه حتى يعم البلاء وكذا الماء راكدٌ فإذا * حرك ثارت من قعره الأقذاء وله أيضاً: قد سلوت الدنيا ولم يسلها * من علقت في آماله والأراجي فإذا ما صرفت وجهي عنها * قذفتني في بحرها العجاج يستضيئون بي وأهلك وحدي * فكأني ذبالة في سراج توفي في ذي الحجة وله ثنتان وسبعون سنة، وحضر جنازته خلق كثير، ودفن عند موسى بن جعفر. ابن علي البطائحي، قدم بغداد فتفقه بها وسمع الحديث وأقام برحبة مالك بن طوق مدة يشتغل على أبي عبد الله بن النبيه الفرضي، ثم ولي قضاء العراق مدة. وكان أديباً، وقد سمع من شيخه أبي عبد الله بن النبيه ينشد لنفسه معارضاً للحريري في بيتيه اللذين زعم أنهما لا يعزوان ثالثاً لهما، وهما قوله: سمْ ممة يحُمد آثارها * واشكر لمن أعطا ولو سمسمة والمكر مهما اسطعت لا تأته * لتقتني السؤدد والمكرمة فقال ابن النبيه: (ج/ص: 13/23) ما الأمة الوكساء بين الورى * أحسن من حر أتى ملامه فمه إذا استجديت عن قول لا * فالحر لا يملأ منها فمه كان من أكابر الأمراء في أيام نور الدين، وكان ممن شرك في قتل شاور، وحظي عند صلاح الدين، وقد استنابه على القدس حين افتتحها، وكان يستند به للمهمات الكبار فيسدها بنفسه وشجاعته. ولما ولي الأفضل عزله عن القدس فترك بلاد الشام وانتقل إلى الموصل، فمات بها في هذه السنة. فيها كانت وفاة العزيز صاحب مصر وذلك أنه خرج إلى الصيد، فكانت ليلة الأحد العشرين من المحرم، ساق خلف ذئب فكبا به فرسه فسقط عنه فمات بعد أيام، ودفن بداره. ثم حول إلى عند تربة الشافعي، وله سبع أو ثمان وعشرون سنة، ويقال: إنه كان قد عزم في هذه السنة على إخراج الحنابلة من بلده، ويكتب إلى بقية إخوته بإخراجهم من البلاد. وشاع ذلك عنه وذاع، وسمع ذلك منه وصرح به، وكل ذلك من معلميه وخلطائه وعشرائه من الجهمية، وقلة علمه بالحديث، فلما وقع منه هذا ونوى هذه النية القبيحة الفاسدة أهلكه الله ودمره سريعاً، وعظم قدر الحنابلة بين الخلق بمصر والشام، عند الخاص والعام. وقيل: إن بعض صالحيهم دعا عليه، فما هو إلا أن خرج إلى الصيد فكان هلاكه سريعاً، وكتب الفاضل كتاب التعزية بالعزيز لعمه العادل، وهو محاصر ماردين ومعه العساكر، وولده محمد الكامل، وهو نائبه على بلاد الجزيرة المقاربة لبلاد الحيرة، وصورة الكتاب: أدام الله سلطان مولانا الملك العادل، وبارك في عمره وأعلا أمره بأمره، وأعز نصر الإسلام بنصره، وفدت الأنفس نفسه الكريمة، وأصغر الله العظائم بنعمه فيه العظيمة، وأحياه الله حياة طيبة هو والإسلام في مواقيت الفتوح الجسيمة، وينقلب عنها بالأمور المسلمة والعواقب السليمة، ولا نقص له رجالاً ولا أعدمه نفساً ولا ولداً، ولا قصر له ذيلاً ولا يداً، ولا أسخن له عيناً ولا كبداً، ولا كدر له خاطراً ولا مورداً. ولما قدر الله ما قدر من موت الملك العزيز كانت حياته مكدرة عليه منغصة مهملة، فلما حضر أجله كانت بديهة المصاب عظيمة، وطالعة المكروه أليمة، وإذا محاسن الوجه بليت تعفى الثرى عن وجهه الحسن. (ج/ص: 13/24) وكانت مدة مرضه بعد عوده من الفيوم أسبوعين، وكانت في الساعة السابعة من ليلة الأحد والعشرين من المحرم، والمملوك في حال تسطيرها مجموع بين مرض القلب والجسد، ووجع أطراف وعلة كبد، وقد فجع بهذا المولى والعهد بوالده غير بعيد، والأسى عليه في كل يوم جديد. ولما توفي العزيز خلف من الولد عشرة ذكور، فعمد أمراؤه فملكوا عليهم ولده محمداً، ولقبوه بالمنصور، وجمهور الأمراء في الباطن مائلون إلى تمليك العادل، ولكنهم يستبعدون مكانه، فأرسلوا إلى الأفضل وهو بصرخد فأحضروه على البريد سريعاً. فلما حضر عندهم منع رفدهم ووجدوا الكلمة مختلفة عليه، ولم يتم له ما صار إليه، وخامر عليه أكابر الأمراء الناصرية، وخرجوا من مصر فأقاموا ببيت المقدس وأرسلوا يستحثون الجيوش العادلية، فأقر ابن أخيه على السلطنة ونوه باسمه على السكة والخطبة في سائر بلاد مصر، لكن استفاد الأفضل في سفرته هذه أن أخذ جيشاً كثيفاً من المصريين، وأقبل بهم ليسترد دمشق في غيبة عمه. وذلك بإشارة أخيه صاحب حلب، وملك حمص أسد الدين، فلما انتهى إليها ونزل حواليها قطع أنهارها وعقر أشجارها، وأكل ثمارها، ونزل بمخيمه على مسجد القدم، وجاء إليه أخوه الظاهر وابن عمه الأسد الكاسر وجيش حماه، فكثر جيشه وقوي بأسه، وقد دخل جيشه إلى البلد، ونادوا بشعاره فلم يتابعهم من العامة أحد، وأقبل العادل من ماردين بعساكره وقد التف عليه أمراء أخيه وطائفة بني أخيه، وأمده كل مصر بأكابره، وسبق الأفضل إلى دمشق بيومين فحصنها وحفظها، وقد استناب على ما ردين ولده محمداً الكامل. ولما دخل دمشق خامر إليه أكثر الأمراء من المصريين وغيرهم، وضعف أمر الأفضل ويئس من برهم وخيرهم، فأقام محاصر البلد بمن معه حتى انسلخ الحول ثم انفصل الحال في أول السنة الآتية على ما سيأتي. وفيها: شرع في بناء سور بغداد بالآجر والكلس، وفرق على الأمراء وكملت عمارته بعد هذه السنة، فأمنت بغداد من الغرق والحصار، ولم يكن لها سور قبل ذلك. ابن عبد المؤمن، صاحب المغرب والأندلس بمدينته، وكان قد بنى عندها مدينة مليحة سماها المهدية، وقد كان ديناً حسن السيرة صحيح السريرة، وكان مالكي المذهب، ثم صار ظاهرياً حزمياً ثم مال إلى مذهب الشافعي، واستقضى في بعض بلاده منهم قضاة، وكانت مدة ملكه خمس عشرة سنة، وكان كثير الجهاد رحمه الله، وكان يؤم الناس في الصلوات الخمس، وكان قريبا إلى المرأة والضعيف رحمه الله. وهو الذي كتب إليه صلاح الدين يستنجده على الفرنج فلما لم يخاطبه بأمير المؤمنين غضب من ذلك ولم يجبه إلى ما طلب منه، وقام بالملك بعده ولده محمد فسار كسيرة والده، ورجع إليه كثير من البلدان اللاتي كانت قد عصت على أبيه، ثم من بعد ذلك تفرقت بهم الأهواء وباد هذا البيت بعد الملك يعقوب. وفيها: ادّعى رجل أعجمي بدمشق أنه عيسى بن مريم، فأمر الأمير صارم الدين برغش نائب القلعة، بصلبه عند حمام العماد الكاتب، خارج باب الفرج مقابل الطاحون التي بين البابين، وقد باد هذا الحمام قديماً، وبعد صلبه بيومين ثارت العامة على الروافض وعمدوا إلى قبر رجل منهم بباب الصغير يقال له وثاب فنبشوه وصلبوه مع كلبين، وذلك في ربيع الآخر منها. وفيها: وقعت فتنة كبيرة ببلاد خراسان، وكان سببها أن فخر الدين محمد بن عمر الرازي وفد إلى الملك غياث الدين الغوري صاحب غزنة، فأكرمه وبنى له مدرسة بهراة، وكان أكثر الغورية كرامية فأبغضوا الرازي وأحبوا إبعاده عن الملك، فجمعوا له جماعة من الفقهاء الحنفية والكرامية، وخلقاً من الشافعية، وحضر ابن القدوة وكان شيخاً معظماً في الناس، وهو على مذهب ابن كرام وابن الهيصم فتناظر هو والرازي، وخرجا من المناظرة إلى السب والشتم. فلما كان من الغد اجتمع الناس في المسجد الجامع، وقام واعظ فتكلم فقال في خطبته: أيها الناس، إنا لا نقول إلا ما صح عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما علم أرسطاطاليس وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي وما تلبّس به الرازي فإنا لا نعلمها ولا نقول بها، وإنما هو كتاب الله وسنة رسوله، ولأي شيء يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذب عن دين الله وسنة رسوله، على لسان متكلم ليس معه على ما يقول دليل. قال: فبكى الناس وضجوا وبكت الكرامية واستغاثوا، وأعانهم على ذلك قوم من خواص الناس، وأنهوا إلى الملك صورة ما وقع، فأمر بإخراج الرازي من بلاده، وعاد إلى هراة، فلهذا أشرب قلب الرازي بغض الكرامية، وصار يلهج بهم في كلامه في كل موطن ومكان. وفيها: رضي الخليفة عن أبي الفرج بن الجوزي شيخ الوعاظ، وقد كان أخرج من بغداد إلى واسط فأقام بها خمس سنين، فانتفع به أهلها واشتغلوا عليه واستفادوا منه، فلما عاد إلى بغداد خلع عليه الخليفة وأذن له في الوعظ على عادته عند التربة الشريفة المجاورة لقبر معروف الكرخي، فكثر الجمع جداً وحضر الخليفة وأنشد يومئذ فيما يخاطب به الخليفة: (ج/ص: 13/ 26) لا تعطش الروض الذي بنيته * بصوب إنعامك قد روضا لا تبر عوداً أنت قد رشته * حاشى لباني المجد أن ينقضا إن كان لي ذنبٌ قد جنيته * فاستأنف العفو وهب لي الرضا قد كنت أرجوك لنيل المنى * فاليوم لا أطلب إلا الرضا ومما أنشده يومئذ: شقينا بالنوى زمناً فلما * تلاقينا كأنا ما شقينا سخطنا عندما جنت الليالي * وما زالت بنا حتى رضينا ومن لم يحيى بعد الموت يوماً * فإنا بعد ما متنا حيينا وفي هذه السنة استدعى الخليفة الناصر قاضي الموصل ضياء الدين ابن الشهروزري فولاه قضاء قضاة بغداد. وفيها: وقعت فتنة بدمشق بسبب الحافظ عبد الغني المقدسي، وذلك أنه كان يتكلم في مقصورة الحنابلة بالجامع الأموي، فذكر يوماً شيئاً من العقائد، فاجتمع القاضي ابن الزكي وضياء الدين الخطيب الدولعي بالسلطان المعظم، والأمير صارم الدين برغش. فعقد له مجلساً فيما يتعلق بمسألة الاستواء على العرش والنزول والحرف والصوت، فوافق النجم الحنبلي بقية الفقهاء واستمر الحافظ على ما يقوله لم يرجع عنه، واجتمع بقية الفقهاء عليه، وألزموه بإلزامات شنيعة لم يلتزمها، حتى قال له الأمير برغش كل هؤلاء على الضلالة وأنت وحدك على الحق؟ قال: نعم فغضب الأمير وأمر بنفيه من البلد؛ فاستنظره ثلاثة أيام فأنظره، وأرسل برغش الأسارى من القلعة فكسروا منبر الحنابلة وتعطلت يومئذ صلاة الظهر في محراب الحنابلة، وأخرجت الخزائن والصناديق التي كانت هناك، وجرت خبطة شديدة، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. وكان عقد المجلس يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي الحجة، فارتحل الحافظ عبد الغني إلى بعلبك ثم سار إلى مصر فآواه المحدثون، فحنوا عليه وأكرموه. من الأعيان: نائب الموصل المستولي على مملكتها أيام ابن أستاذه نور الدين أرسلان، وكان عاقلاً ذكياً فقيهاً حنيفاً، وقيل شافعياً، يحفظ شيئاً كثيراً من التواريخ والحكايات، وقد ابتنى عدة جوامع ومدارس وربط وخانات، وله صدقات كثيرة دارة، قال ابن الأثير: وقد كان من محاسن الدنيا. (ج/ص: 13/27) ابن أحمد بن محمد بن عبد العزيز العباس الهاشمي، قاضي القضاة ببغداد، بعد ابن النجاري، كان شافعياً تفقه على أبي الحسن بن الخل وغيره، وقد ولي القضاء والخطابة بمكة، وأصله منها، ولكن ارتحل إلى بغداد فنال منها ما نال من الدنيا، وآل به الأمر إلى ما آل. ثم إنه عزل عن القضاء بسبب محضر رقم خطه عليه، وكان فيما قيل مزوراً عليه. فالله أعلم، فجلس في منزله حتى مات. يحيى بن علي بن الفضل بن بركة بن فضلان، شيخ الشافعية ببغداد، تفقه أولاً على سعيد بن محمد الزار مدرس النظامية. ثم ارتحل إلى خراسان فأخذ عن الشيخ محمد الزبيدي تلميذ الغزالي وعاد إلى بغداد وقد اقتبس علم المناظرة والأصلين، وساد أهل بغداد وانتفع به الطلبة والفقهاء، وبنيت له مدرسة فدّرس بها وبعد صيته، وكثرت تلاميذه، وكان كثير التلاوة وسماع الحديث، وكان شيخاً حسناً لطيفاً ظريفاً، ومن شعره: وإذا أردت منازل الأشراف * فعليك بالإسعاف والإنصاف وإذا بغا باغٍ عليك فخله * والدهر فهو له مكاف كاف
|