الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)} هذا ابتداء قصص وأخبار بمغيبات وعبر ونكر. {علماً} لأنه طائفة من العلم. وقال قتادة: علماً: فهماً. وقال مقاتل: علماً بالقضاء. وقال ابن عطاء: علماً بالله تعالى. وقال الزمخشري: أو علماً سنياً عزيزاً. {وقالا} قال: فإن قلت: أليس هذا موضع الفاء دون الواو، كقولك: أعطيته فشكر ومنعته فصبر؟ قلت: بلى، ولكن عطفه بالواو إشعار بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيء من مواجبه، فأضمر ذلك، ثم عطف عليه التحميد، كأنه قال: ولقد آتيناهما علماً، فعملا به وعلماه، وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة، {وقالا الحمد لله}، والكثير المفضل عليه من لم يؤت علماً، أو من يؤت مثل علمهما، وفي الآية دليل على شرف العلم. انتهى. والموروث: الملك والنبوّة، بمعنى: صار ذلك إليه بعد موت أبيه فسمي ميراثاً تجوزاً، كما قيل: العلماء ورثة الأنبياء. وحقيقة الميراث في المال والأنبياء لا نورث مالاً، وكان لداود تسعة عشر ولداً ذكراً، فنبئ سليمان من بينهم وملك. وقيل: ولاه على بين إسرائيل في حياته من بين سائر أولاده، فكانت الولاية في معنى الوراثة. وقال الحسن: ورث المال لأن النبوة عطية مبتدأة لا تورث. وقيل: الملك والسياسة. وقيل: النبوة فقط، والأظهر القول الأول، ويؤيده قوله: {علمنا منطق الطير}، فهذا يدل على النبوة؛ {وأوتينا من كل شيء} يدل على الملك، وكان هذا شرحاً للميراث. وقوله: {إن هذا لهو الفضل المبين} يقوي ذلك، ولا يناسب شيء من هذا وراثة المال. وقوله: {يا أيها الناس} تشهير لنعمة الله، وتنويه بها واعتراف بمكانها، ودعاء الناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير، وغير ذلك مما أوتيه من عظائم الأمور. و{منطق الطير}: استعارة لما يسمع منها من الأصوات، وهو حقيقة في بني آدم، لما كان سليمان يفهم منه ما يفهم من كلام بني آدم، كما يفهم بعض الطير من بعض، أطلق عليه منطق. وقيل: كانت الطير تكلمه معجزة له، كقصة الهدهد، والظاهر أنه علم منطق الطير وعموم الطير. وقيل: علم منطق الحيوان. قيل: والنبات، حتى كان يمر على الشجرة فتذكر له منافعها ومضارها، وإنما نص على الطير، لأنه كان جنداً من جنوده، يحتاج إليه في التظليل من الشمس، وفي البعث في الأمور. وقال قتادة: والشعبي: وكذلك كانت هذه النملة القائلة ذات جناحين. وأورد المفسرون مما ذكروا: أن سليمان عليه السلام أخبر عن كثير من الطير بأنواع من الكلام، تقديس لله تعالى وعظات، وعبر ما الله أعلم بصحته. {وأوتينا من كل شيء}: ظاهره العموم، والمراد الخصوص، أي من كل شيء يصلح لنا ونتمناه، وأريد به كثرة ما أوتي، فكأنه مستغرق لجميع الأشياء. كما تقول: فلان يقصده كل أحد، يريد كثرة قصاده، وهذا كقوله تعالى في قصة بلقيس: {وأوتيت من كل شيء} وبنى علمنا وأوتينا للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به، وهو الله تعالى. وكانا مسندين لنون العظمة لا لتاء المتكلم، لأنه إما إن أراد نفسه وأباه، أو لما كان ملكاً مطاعاً خاطب أهل طاعته ومملكته بحاله التي هو عليها، لا على سبيل التعاظم والتكبر. {إن هذا لهو الفضل المبين}: إقرار بالنعمة وشكر لها ومحمدة. روي أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة خمسة وعشرون للجن، ومثلها للإنس، ومثلها للطير، ومثلها للوحش، وألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة منكوحة، وسبعمائة سرية، وقد نسجت له الجن بساطاً من ذهب وإبريسم فرسخاً في فرسخ، ومنبره في وسطه من ذهب، فيصعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، تقعد الأنبياء على كراسي الفضة، وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس، وترفع ريح الصبا البساط، فتسير به مسيرة شهر، وتفصيل هذه الأشياء يحتاج إلى صحة نقل، وكان ملكه عظيماً، ملأ الأرض، وانقاد له أهل المعمور منها. وتقدم لنا أنه ملك الأرض بأسرها أربعة: مؤمنان: سليمان وذو القرنين، وكافران: بختنصر ونمروذ. وحشر الجنود يقتضي سفراً وفسر الجنود أنهم الجن والإنس والطير، وذكر المفسرون الوحش رابعاً. {فهم يوزعون}: يحشر أولهم على آخرهم، أي يوقف متقدمو العسكر حتى يأتي آخرهم فيجتمعون، لا يتخلف منهم أحد وذلك للكثرة العظيمة، أو يكفون عن المسير حتى يجتمعوا. وقيل: يجتمعون من كل جهة. وقيل: يساقون. وقيل: يدفعون. وقيل: يحبسون. كانت الجيوش تسير معه إذا سار، وينزل إذا نزل. {حتى إذا أتوا}: هذه غاية لشيء مقدر، أي وساروا حتى إذا أتوا، أو يضمن يوزعون معنى فعل يقتضي أن تكون حتى غاية له، أي فهم يسيرون مكنوفاً بعضهم من مفارقة بعض. وعدى أتوا بعلى، إما لأن إتيانهم كان من فوق، وإما أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم: أتى على الشيء، إذا أتى على آخره وأنفذه، كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي، لأنهم ما دامت الريح تحملهم لا يخاف حطمهم، قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: والظاهر أن سليمان وجنوده كانوا مشاة في الأرض، ولذلك يتهيأ حطم النمل بنزولهم في وادي النمل. ويحتمل أنهم كانوا في الكرسي المحمول بالريح، فأحست النمل بنزولهم في وادي النمل، ووادي النمل قيل بالشام. وقيل: بأقصى اليمن، وهو معروف عند العرب مذكور في أشعارها. وقال كعب: وادي السدر من الطائف. والظاهر صدور القول من النملة، وفهم سليمان كلامها، كما فهم منطق الطير. قال مقاتل: من ثلاثة أميال. وقال الضحاك بلغته: الريح كلامها. وقال ابن بحر: نطقت بالصوت معجزة لسليمان، ككلام الضب والذراع للرسول. وقيل: فهمه إلهاماً من الله، كما فهمه جنس النمل، لا أنه سمع قولاً. وقال الكلبي: أخبره ملك بذلك. قال الشاعر: لو كنت أوتيت كلام الحكل *** علم سليمان كلام النمل والحكل: ما لا يسمع صوته. وذكروا اختلافاً في صغر النملة وكبرها، وفي اسمها العلم ما لفظه. وليت شعري، من الذي وضع لها لفظاً يخصها، أبنو آدم أم النمل؟ وقالوا: كانت نملة عرجاء، ولحوق التاء في قالت لا يدل على أن النملة مؤنث، بل يصح أن يقال في المذكر: قالت نملة، لأن نملة، وإن كان بالتاء، هو مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث. وما كان كذلك، كالنملة والقملة، مما بينه في الجمع وبين واحدة من الحيوان تاء التأنيث، فإنه يخبر عنه إخبار المؤنث، ولا يدل كونه يخبر عنه إخبار المؤنث على أنه ذكر أو أنثى، لأن التاء دخلت فيه للفرق، لا دالة على التأنيث الحقيقي، بل دالة على الواحد من هذا الجنس. وقال الزمخشري، وعن قتادة: أنه دخل الكوفة، فالتف عليه الناس فقال: سلوا عما شئتم. وكان أبو حنيقة حاضراً، وهو غلام حدث، فقال: سلوه عن نملة سليمان، أكانت ذكراً أم أنثى: فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى. فقيل له: من أين عرفت؟ فقال: من كتاب الله، وهو قوله: {قالت نملة}، ولو كان ذكراً لقال قال نملة. قال الزمخشري: وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى، فيميز بينهما بعلامة، نحو قولهم: حمامة ذكر وحمامة أنثى، وهو وهي. انتهى. وكان قتادة بن دعامة السدوسي بصيراً بالعربية، وكونه أفحم، يدل على معرفته باللسان، إذ علم أن النملة يخبر عنها إخبار المؤنث، وإن كانت تنطلق على الأنثى والذكر، إذ هو مما لا يتميز فيه أحد هذين، فتذكيره وتأنيثه لا يعلم ذلك من إلحاق العلامة للفعل فتوقف، إذ لا يعلم ذلك إلا بوحي من الله. وأما استنباط تأنيثه من كتاب الله من قوله: {قالت نملة}، ولو كان ذكراً لقال: قال نملة، وكلام النحاة على خلافه، وأنه لا يخبر عنه إلا إخبار المؤنث، سواء كان ذكراً أم أنثى. وأما تشبيه الزمخشري النملة بالحمامة والشاة، فبينهما قدر مشترك، وهو إطلاقهما على الذكر والمؤنث، وبينهما فرق، وهو أن الحمامة والشاة يتميز فيهما المذكر من المؤنث، فيمكن أن تقول: حمامة ذكر وحمامة أنثى، فتميز بالصفة. وأما تمييزه بهو وهي، فإنه لا يجوز. لا تقول: هو الحمامة، ولا هو الشاة؛ وأما النملة والقملة فلا يتيمز فيه المذكر من المؤنث، فلا يجوز فيه في الإخبار إلا التأنيث، وحكمه حكم المؤنث بالتاء من الحيوان العاقل نحو: المرأة، أو غير العاقل كالدابة، إلا أن وقع فصل بين الفعل وبين ما أسند إليه من ذلك، فيجوز أن تلحق العلامة الفعل، ويجوز أن لا تلحق، على ما قرر ذلك في باب الإخبار عن المؤنث في علم العربية. وقرأ الحسن، وطلحة، ومعتمر بن سليمان، وأبو سليمان التيمي: نملة، بضم الميم كسمرة، وكذلك النمل، كالرجلة والرجل لعتان. وعن سليمان التيمي: نمل ونمل بضم النون والميم، وجاء الخطاب بالأمر، كخطاب من يعقل في قوله: {ادخلوا} وما بعده، لأنها أمرت النمل كأمر من يعقل، وصدر من النمل الامتثال لأمرها. وقرأ شهر بن حوشب: مسكنكم، على الإفراد. وعن أبيّ: أدخلن مساكنكن لا يحطمنكم: مخففة النون التي قبل الكاف. وقرأ الحسن، وأبو رجاء، وقتادة، وعيسى بن عمر الهمداني، الكوفي، ونوح القاضي: بضم الياء وفتح الحاء وشد الطاء والنون، مضارع حطم مشدداً. وعن الحسن: بفتح الياء وإسكان الحاء وشد الطاء، وعنه كذلك مع كسر الحاء، وأصله: لا يحتطمنكم من الاحتطام. وقرأ ابن أبي إسحاق، وطلحة، ويعقوب، وأبو عمرو في رواية عبيد: كقراءة الجمهور، إلا أنهم سكنوا نون التوكيد. وقرأ الأعمش: بحذف النون وجزم الميم، والظاهر أن قوله: {لا يحطمنكم}، بالنون خفيفة أو شديدة، نهي مستأنف، وهو من باب: لا أرينك ههنا، نهت غير النمل، والمراد النمل، أي لا تظهروا بأرض الوادي فيحطمكم، ولا تكن هنا فأراك. وقال الزمخشري: فإن قلت: لا يحطمنكم ما هو؟ قلت: يحتمل أن يكون جواباً للأمر، وأن يكون هنا بدلاً من الأمر، والذي جوز أن يكون بدلاً منه، لأنه في معنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم على طريقة لا أرينك ههنا، أرادت لا يحطمنكم جنود سليمان، فجاءت بما هو أبلغ ونحوه: عجبت من نفسي ومن إشفاقها. انتهى. وأما تخريجه على أنه أمر، فلا يكون ذلك إلا على قراءة الأعمش، إذ هو مجزوم، مع أنه يحتمل أن يكون استئناف نفي، وأما مع وجود نون التوكيد، فإنه لا يجوز ذلك إلا إن كان في الشعر. وإذا لم يجز ذلك في جواب الشرط إلا في الشعر، فأحرى أن لا يجوز في جواب الأمر إلا في الشعر. وكونه جواب الأمر متنازع فيه على ما قرر في النحو، ومثال مجيء نون التوكيد في جواب الشرط، قول الشاعر: نبتم نبات الخيزرانة في الثرى *** حديثاً متى يأتك الخير ينفعا وقول الآخر: مهما تشا منه فزارة يعطه *** ومهما تشا منه فزارة يمنعا قال سيبويه: وذلك قليل في الشعر، شبهوه بالنفي حيث كان مجزوماً غير واجب. انتهى. وقد تنبه أبو البقاء لشيء من هذا قال: وقيل هو جواب الأمر، وهو ضعيف، لأن جواب الشرط لا يؤكد بالنون في الاختيار. وأما تخريجه على البدل فلا يجوز، لأن مدلول {لا يحطمنكم} مخالف لمدلول {ادخلوا}. وأما قوله: لأنه في معنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم، فهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب، والبدل من صفة الألفاظ. نعم لو كان اللفظ القرآني لا تكونوا حيث أنتم لا يحطمنكم لتخيل فيه البدل، لأن الأمر بدخول المساكن نهى عن كونهم في ظاهر الأرض. وأما قوله: أنه أراد لا يحطمنكم جنود سليمان إلى آخر، فيسوغ زيادة الأسماء، وهو لا يجوز، بل الظاهر إسناد الحطم إليه وإلى جنوده، وهو على حذف مضاف، أي خيل سليمان وجنوده، أو نحو ذلك مما يصح تقديره. {وهم لا يشعرون}: جملة حالية، أي إن وقع حطم، فليس ذلك بتعمد منهم، إنما يقع وهم لا يعلمون بحطمنا، كقوله: {فتصيبكم منهم معرّة بغير علم} وهذا التفات حسن، أي من عدل سليمان وأتباعه ورحمته ورفقه أن لا يحطم نملة فما فوقها إلا بأن لا يكون لهم شعور بذلك. وما أحسن ما أتت به هذه النملة في قولها وأغربه وأفصحه وأجمعه للمعاني، أدركت فخامة ملك سليمان، فنادت وأمرت وأنذرت. وذكروا أنه جزى بينها وبين سليمان محاورات، وأهدت له نبقة، وأنشدوا أبياتاً في حقارة ما يهدى إلى العظيم، والاستعذار من ذلك، ودعاء سليمان للنمل بالبركة، والله أعلم بصحة ذلك أو افتعاله. والنمل حيوان قوي الحس شمام جداً، يدخر القوت، ويشق الحبة قطعتين لئلا تنبت، والكزبرة بأربع، لأنها إذا قطعت قطعتين أنبتت، وتأكل في عامها بعض ما تجمع، وتدخر الباقي عدة. وفي الحديث: «النهي عن قتل أربع من الدواب: الهدهد والصرد والنملة والنحلة»، خرجه أبو داود عن ابن عباس. وروي من حديث أبي هريرة: وتبسم سليمان عليه السلام، إما للعجب بما دل عليه قولها: {وهم لا يشعرون}، وهو إدراكها رحمته وشفقته ورحمة عسكره، وإما للسرور بما آتاه الله مما لم يؤت أحداً، وهو إدراكه قول ما همس به، الذي هو مثل في الصغر، ولذلك دعا أن يوزعه الله شكر ما أنعم به عليه. وانتصب ضاحكاً على الحال، أي شارعاً في الضحك ومتجاوزاً حد التبسم إلى الضحك، ولما كان التبسم يكون للاستهزاء وللغضب، كما يقولون، تبسم تبسم الغضبان، وتبسم تبسم المستهزئ، وكان الضحك إنما يكون للسرور والفرح، أتى بقوله: {ضاحكاً}. وقرأ ابن السميفع: ضحكاً، جعله مصدراً، لأن تبسم في معنى ضحك، فانتصابه على المصدريه، أو على أنه مصدر في موضع الحال، كقراءة ضاحكاً. {وقال رب أوزعني}: أي اجعلني أزع شكر نعمتك وآلفه وأرتبطه، حتى لا ينفلت عني، حتى لا أنفك شاكراً لك. وقال ابن عباس: أوزعني: اجعلني أشكر. وقال ابن زيد: حرضني. وقال أبو عبيدة: أولعني. وقال الزجاج: امنعني عن الكفران. وقيل: ألهمني الشكر، وأدرج ذكر نعمة الله على والديه في أن يشكرهما، كما يشكر نعمة الله على نفسه، لما يجب للوالد على الولد من الدعاء لهما والبر بهما، ولا سيما إذا كان الولد تقياً لله صالحاً، فإن والديه ينتفعان بدعائه وبدعاء المؤمنين لهما بسببه، كقولهم: رحم الله من خلفك، رضي الله عنك وعن والديك. ولما سأل ربه شيئاً خاصاً، وهو شكر النعمة، سأل شيئاً عاماً، وهو أن يعمل عملاً يرضاه الله تعالى، فاندرج فيه شكر النعمة، فكأنه سأل إيزاع الشكر مرتين، ثم دعا أن يلحق بالصالحين. قال ابن زيد: هم الأنبياء والمؤمنون، وكذا عادة الأنبياء أن يطلبوا جعلهم من الصالحين، كما قال يوسف عليه السلام: {توفني مسلماً وألحقني بالصالحين} وقال تعالى، عن إبراهيم عليه السلام: {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} قيل: لأن كمال الصلاح أن لا يعصي الله تعالى ولا يهم بمعصية، وهذه درجة عالية.
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)} الظاهر أنه تفقد جميع الطير، وذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والاهتمام بالرعايا. قيل: وكان يأتيه من كل صنف واحد، فلم ير الهدهد. وقيل: كانت الطير تظله من الشمس، وكان الهدهد يستر مكانه الأيمن، فمسته الشمس، فنظر إلى مكان الهدهد، فلم يره. وعن عبد الله بن سلام: أن سليمان عليه السلام نزل بمفازة لا ماء فيها، وكان الهدهد يرى ظاهر الأرض وباطنها، وكان يخبر سليمان بذلك، فكانت الجن تخرجه في ساعة تسلخ الأرض كما تسلخ الشاة، فسأل عنه حين حلوا تلك المفازة، لاحتياجهم إلى الماء. وفي قوله {وتفقد الطير} دلالة على تفقد الإمام أحوال رعيته والمحافظة عليهم. وقال عمر رضي الله عنه: لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب لسئل عنها عمر، وفي الكلام محذوف، أي فقد الهدهد حين تفقد الطير. قال ابن عطية وقوله: {ما لي لا أرى الهدهد}، مقصد الكلام الهدهد، غاب ولكنه أخذ اللازم عن مغيبه، وهو أن لا يراه، فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم، وهذا ضرب من الإيجاز والاستفهام الذي في قوله: {ما لي}، ناب مناب الألف التي تحتلجها أم. انتهى. فظاهر هذا الكلام أن أم متصلة، وأن الاستفهام الذي في قوله: ما لي، ناب مناب ألف الاستفهام، فمعناه عنده: أغاب عني الآن فلم أره حالة التفقد؟ أم كان ممن غاب قبل ولم أشعر بغيبته؟ وقال الزمخشري: أم هي المنقطعة، نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره فقال: {ما لي لا أرى الهدهد}؟ على معنى: أنه لا يراه، وهو حاضر، لساتر ستره أو غير ذلك، ثم لاح له أنه غائب، فأضرب عن ذلك وأخذ يقول: أهو غائب؟ كأنه سأل صحة ما لا ح له، ونحوه قولهم: إنها لإبل أم شاء؟ انتهى. والصحيح أن أم في هذا هي المنقطعة، لأن شرط المتصلة تقدم همزة الاستفهام، فلو تقدمها أداة الاستفهام غير الهمزة، كانت أم منقطعة، وهنا تقدم ما، ففات شرط المتصلة. وقيل: يحتمل أن تكون من المقلوب وتقديره: ما للهدهد لا أراه؟ ولا ضرورة إلى ادعاء القلب. وفي الكشاف، أن سليمان لما تم له بناء بيت المقدس، تجهز للحج، فوافى الحرم وأقام به ما شاء، ثم عزم على المسير إلى اليمن، فخرج من مكة صباحاً يؤم سهيلاً، فوافى صنعاء وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضاً حسناء أعجبته خضرتها، فنزل ليتغدى ويصلي، فلم يجد الماء، وكان الهدهد يأتيه، وكان يرى الماء من تحت الأرض. وذكر أنه كان الجن يسلخون الأرض حتى يظهر الماء. {لأعذبنه عذاباً شديداً}: أبهم العذاب الشديد، وفي تعيينه أقوال متعارضة، والأجود أن يجعل أمثلة. فعن ابن عباس، ومجاهد، وابن جريج: نتف ريشه. وقال ابن جريج: ريشه كله. وقال يزيد بن رومان: جناحه. وقال ابن وهب: نصفه ويبقى نصفه. وقيل: يزاد مع نتفه تركه للشمس. وقيل: يحبس في القفص. وقيل: يطلى بالقطران ويشمس. وقيل: ينتف ويلقى للنمل. وقيل: يجمع مع غير جنسه. وقيل: يبعد من خدمة سليمان عليه السلام. وقيل: يفرق بينه وبين إلفه. وقيل: يلزم خدمة امرأته، وكان هذا القول من سليمان غضباً لله، حيث حضرت الصلاة وطلب الماء للوضوء فلم يجده، وأباح الله له ذلك للمصلحة، كما أباح البهائم والطيور للأكل، وكما سخر له الطير، فله أن يؤذّيه إذا لم يأت ما سخر له. وقرأ الجمهور: أو ليأتيني، بنون مشددة بعدها ياء المتكلم، وابن كثير: بنون مشددة بعدها نون الوقاية بعد الياء؛ وعيسى بن عمر: بنون مشددة مفتوحة بغير ياء. والسلطان المبين: الحجة والعذر، وفيه دليل على الإغلاط على العاصين وعقابهم. وبدأ أولاً بأخف العقابين، وهو التعذيب؛ ثم أتبعه بالأشد، وهو إذهاب المهجة بالذبح، وأقسم على هذين لأنهما من فعله، وأقسم على الإتيان بالسلطان وليس من فعله. لما نظم الثلاثة في الحكم بأو، كأنه قال: ليكونن أحد الثلاثة، والمعنى: إن أتى بالسلطان، لم يكن تعذيب ولا ذبح، وإلا كان أحدهما. ولا يدل قسمه على الإتيان على ادعاء دراية، على أنه يجوز أن يتعقب حلفه بالفعلين وحي من الله بأنه يأتيه بسلطان، فيكون قوله: {أو ليأتيني بسلطان مبين} عن دراية وإيقان. وقرأ الجمهور: فمكث، بضم الكاف؛ وعاصم، وأبو عمرو في رواية الجعفي، وسهل، وروح: بضمها. وفي قراءة أبيّ: فيمكث، ثم قال: وفي قراءة عبد الله: فيمكث، فقال: وكلاهما في الحقيقة تفسير لا قراءة، لمخالفة ذلك سواد المصحف، وما روي عنهما بالنقل الثابت. والظاهر أن الضمير في فمكث عائد على الهدهد، أي غير زمن بعيد، أي عن قرب. ووصف مكثه بقصر المدة، للدلالة على إسراعه، خوفاً من سليمان، وليعلم كيف كان الطير مسخراً له، ولبيان ما أعطى من المعجزة الدالة على نبوته وعلى قدرة الله. وقيل: وقف مكاناً غير بعيد من سليمان، وكأنه فيما روي، حين نزل سليمان حلق الهدهد، فرأى هدهداً، فانحط عليه ووصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء، وذكر له صاحبه ملك بلقيس وعظم منه، وذهب معه لينظر، فما رجع إلا بعد العصر. وقيل: الضمير في فمكث لسليمان. وقيل: يحتمل أن يكون لسليمان وللهدهد، وفي الكلام حذف، فإن كان غير بعيد زماناً، فالتقدير: فجاء سليمان، فسأله: ما غيبك؟ فقال: أحطت؛ وإن كان مكاناً، فالتقدير: فجاء فوقف مكاناً قريباً من سليمان، فسأله: ما غيبك؟ وكان فيما روي قد علم بما أقسم عليه سليمان، فبادر إلى جوابه بما يسكن غيظه عليه، وهو أن غيبته كانت لأمر عظيم عرض له، فقال: {أحطت بما لم تحط به}، وفي هذا جسارة من لديه علم، لم يكن عند غيره، وتبجحه بذلك، وإبهام حتى تتشوف النفس إلى معرفة ذلك المبهم ما هو. ومعنى الإحاطة هنا: أنه علم علماً ليس عند نبي الله سليمان. قال الزمخشري: ألهم الله الهدهد، فكافح سليمان بهذا الكلام، على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة، ابتلاء له في علمه، وتنبيهاً على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علماً بما لم يحط به سليمان، لتتحاقر إليه نفسه ويصغر إليه علمه، ويكون لطفاً له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء، وأعظم بها فتنة، والإحاطة بالشيء علماً أن يعلم من جميع جهاته، لا يخفى منه معلوم، قالوا: وفيه دليل على بطلان قول الرافضة إن الإمام لا يخفى عليه شيء، ولا يكون في زمانه أعلم منه. انتهى. ولما أبهم في قوله: {بما لم تحط}، انتقل إلى ما هو أقل منه إبهاماً، وهو قوله: {وجئتك من سبأ بنبأ يقين}، إذ فيه إخبار بالمكان الذي جاء منه، وأنه له علم بخبر مستيقن له. وقرأ الجمهور: من سبأ، مصروفاً، هذا وفي: {لقد كان لسبأ} وابن كثير، وأبو عمرو: بفتح الهمزة، غير مصروف فيهما، وقنبل من طريق النبال: بإسكانها فيهما. فمن صرفه جعله اسماً للحي أو الموضع أو للأب، كما في حديث فروة بن مسيك وغيره، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه اسم رجل ولد عشرة من الولد، تيامن منهم ستة، وتشاءم أربعة. والستة: حمير، وكندة، والأزد، وأشعر، وخثعم، وبجيلة؛ والأربعة: لخم، وجذام، وعاملة، وغسان» وكان سبأ رجلاً من قحطان اسمه عبد شمس. وقيل: عامر، وسمي سبأ لأنه أول من سبا، ومن منعه الصرف جعله اسماً للقبيلة أو البقعة، وأنشدوا على الصرف: الواردون وتيم في ذرى سبأ *** قد عض أعناقهم جلد الجواميس ومن سكن الهمزة، فلتوالي الحركات فيمن منع الصرف، وإجراء للوصل مجرى الوقف. وقال مكي: الإسكان في الوصل بعيد غير مختار ولا قوي. انتهى. وقرأ الأعمش: من سبأ، بكسر الهمزة من غير تنوين، حكاها عنه ابن خالويه وابن عطية، ويبعد توجيهها. وقرأ ابن كثير في رواية: من سبأ، بتنوين الباء على وزن رحى، جعله مقصوراً مصروفاً. وذكر أبو معاذ أنه قرأ من سبأ: بسكون الباء وهمزة مفتوحة غير منونة، بناه على فعلى، فامتنع الصرف للتأنيث اللازم. وروى ابن حبيب، عن اليزيدي: من سبأ، بألف ساكنة، كقولهم: تفرقوا أيدي سبا. وقرأت فرقة: بنبأ، بألف عوض الهمزة، وكأنها قراءة من قرأ: لسبا، بالألف، لتتوازن الكلمتان، كما توازنت في قراءة من قرأهما بالهمز المكسور والتنوين. وقال في التحرير: إن هذا النوع في علم البديع يسمى بالترديد، وفي كتاب التفريع بفنون البديع. إن الترديد رد أعجاز البيوت على صدورها، أو رد كلمة من النصف الأول إلى النصف الثاني، ويسمى أيضاً التصدير، فمثال الأول قوله: سريع إلى ابن العم يجبر كسره *** وليس إلى داعي الخنا بسريع ومثال الثاني قوله: والليالي إذا نأيتم طوال *** والليالي إذا دنوتم قصار وذكر أن مثل: {من سبأ بنبأ}، يسمى تجنيس التصريف، قال: وهو أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف، ومنه قوله تعالى: {ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون}، وما ورد في الحديث: «الخيل معقود في نواصيها الخير» وقال الشاعر: لله ما صنعت بنا *** تلك المعاجر والمحاجر وقال الزمخشري: وقوله: {من سبأ بنبأ}، من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ، بشرط أن يجيء مطبوعاً، أو بصيغة عالم بجوهر الكلام، يحفظ معه صحة المعنى وسداده. ولقد جاء ههنا زائداً على الصحة، فحسن وبدع لفظاً ومعنى. ألا ترى لو وضع مكان بنبأ بخبر لكان المعنى صحيحاً؟ وهو كما جاء أصح، لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال. انتهى. والزيادة التي أشار إليها هي أن النبأ لا يكون إلا الخبر الذي له شأن، ولفظ الخبر مطلق، ينطلق على ما له شأن وما ليس له شأن. ولما أبهم الهدهد أولاً، ثم أبهم ثانياً دون الإبهام، صرح بما كان أبهمه فقال: {إني وجدت امرأة تملكهم}. ولا يدل قوله: {تملكهم} على جواز أن تكون المرأة ملكة، لأن ذلك كان من فعل قوم بلقيس، وهم كفار، فلا حجة في ذلك. وفي صحيح البخاري، من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» ونقل عن محمد بن جرير أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح عنه. ونقل عن أبي حنيفة أنها تقضي فيما تشهد فيه، لا على الإطلاق، ولا أن يكتب لها مسطور بأن فلانة مقدمة على الحكم، وإنما ذلك على سبيل التحكم والاستنابة في القضية الواحدة. ومعنى وجدت هنا: أصبت، والضمير في تملكهم عائد على سبأ، إن كان أريد القبيلة، وإن أريد الموضع، فهو على حذف، أي وجئتك من أهل سبأ. والمرأة بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها ملك اليمن كلها، وقد ولد له أربعون ملكاً، ولم يكن له ولد غيرها، فغلبت على الملك، وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس. واختلف في اسم أبيها اختلافاً كثيراً. قيل: وكانت أمها جنية تسمى ريحانة بنت السكن، تزوجها أبوها، إذ كان من عظمه لم ير أن يتزوج أحداً من ملوك زمانه، فولدت له بلقيس، وقد طولوا في قصصها بما لم يثبت في القرآن، ولا الحديث الصحيح. وبدأ الهدهد بالإخبار عن ملكها، وأنها {أوتيت من كل شيء}، وهذا على سبيل المبالغة، والمعنى: من كل شيء احتاجت إليه، أو من كل شيء في أرضها. وبين قول الهدهد ذلك، وبين قول سليمان: {وأوتينا من كل شيء} فرق، وذلك أن سليمان عطف على قوله: {علمنا منطق الطير}، وهو معجزة، فيرجع أولاً إلى ما أوتي من النبوة والحكمة وأسباب الدين، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا، وعطف الهدهد على الملك، فلم يرد إلا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها. {ولها عرش عظيم}، قال ابن زيد: هو مجلسها. وقال سفيان: هو كرسيها، وكان مرصعاً بالجواهر، وعليه سبعة أبواب. وذكروا من وصف عرشها أشياء، الله هو العالم بحقيقة ذلك، واستعظام الهدهد عرشها، إما لاستصغار حالها أن يكون لها مثل هذا العرش، وإما لأن سليمان لم يكن له مثله، وإن كان عظيم المملكة في كل شيء، لأنه قد يوجد لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون للملك الذي هو تحت طاعته. ولما كان سليمان قد آتاه الله من كل شيء، وكان له عرش عظيم، أخبره بهذا النبأ العظيم، حيث كان في الدنيا من يشاركه فيما يقرب من ذلك. ولم يلتفت سليمان لذلك، إذ كان معرضاً عن أمور الدنيا. فانتقل الهدهد إلى الإخبار إلى ما يتعلق بأمور الدين، وما أحسن انتقالات هذه الأخبار بعد تهدد الهدهد وعلمه بذلك، أخبر أولاً باطلاعه على ما لم يطلع عليه سليمان، تحصناً من العقوبة، بزينة العلم الذي حصل له، فتشوف السامع إلى علم ذلك. ثم أخبرنا ثانياً يتعلق ذلك العلم، وهو أنه من سبأ، وأنه أمر متيقن لا شك فيه، فزاد تشوف السامع إلى سماع ذلك النبأ. ثم أخبر ثالثاً عن الملك الذي أوتيته امرأة، وكان سليمان عليه السلام قد سأل الله أن يؤتيه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده. ثم أخبر رابعاً ما ظاهره الإشتراك بينه وبين هذه المرأة التي ليس من شأنها ولا شأن النساء أن تملك فحول الرجال، وهو قوله: {وأوتيت من كل شيء}، وقوله: {ولها عرش عظيم}، وكان سليمان له بساط قد صنع له، وكان عظيماً. ولما لم يتأثر سليمان للإخبار بهذا كله، إذ هو أمر دنياوي، أخبره خامساً بما يهزه لطلب هذه الملكة، ودعائها إلى الإيمان، وإفراده بالعبادة فقال: {وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله}، وقد تقدم القول: إنهم كانوا مجوساً يعبدون الأنوار، وهو قول الحسن. وقيل: كانوا زنادقة. وهذه الإخبارات من الهدهد كانت على سبيل الاعتذار عن غيبته عن سليمان، وعرف أن مقصد سليمان الدعاء إلى توحيد الله والإيمان به، فكان ذلك عذراً واضحاً أزال عنه العقوبة التي كان سليمان قد توعده بها. وقام ذلك الإخبار مقام الإيقان بالسلطان المبين، إذ كان في غيبته مصلحة لإعلام سليمان بما كان خافياً عنه، ومآله إلى إيمان الملكة وقومها. وخفي ملك هذه المرأة ومكانها على سليمان، وإن كانت المسافة بينهما قريبة، كما خفي ملك يوسف على يعقوب، وذلك لأمر أراده الله تعالى. قال الزمخشري: ومن نوكي القصاص من يقف على قوله: {ولها عرش عظيم}، وجدتها يريد أمر عظيم، إن وجدتها فر من استعظام الهدهد عرشها، فوقع في عظيمة وهي نسخ كتاب الله. انتهى. وقال أيضاً فإن قلت: من أين للهدهد الهدى إلى معرفة الله ووجوب السجود له، وإنكار السجود للشمس، وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟ قلت: لا يبعد أن يلهمه الله ذلك، كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوانات المعارف اللطيفة الت لا تكاد العقلاء يهتدون لها. ومن أراد استقراء ذلك فعليه بكتاب الحيوان خصوصاً في زمان نبي سخرت له الطيور وعلم منطقها، وجعل ذلك معجزة له. انتهى. وأسند التزيين إلى الشيطان، إذ كان هو المتسبب في ذلك بأقدار الله تعالى. {فصدهم عن السبيل}، أي الشيطان، أو تزيينه عن السبيل وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة. {فهم لا يهتدون}، أي إلى الحق. وقرأ ابن عباس، وأبو جعفر، والزهري، والسلمي، والحسن، وحميد، والكسائي: ألا، بتخفيف لام الألف، فعلى هذا له أن يقف على: {فهم لا يهتدون}، ويبتدئ على: {ألا يسجدوا}. قال الزمخشري: وإن شاء وقف على ألا يا، ثم ابتدأ اسجدوا، وباقي السبعة: بتشديدها، وعلى هذا يصل قوله: {فهم لا يهتدون} بقوله: {ألا يسجدوا}. وقال الزمخشري: وفي حرف عبد الله، وهي قراءة الأعمش: هلا وهلا، بقلب الهمزتين هاء، وعن عبد الله: هلا يسجدون، بمعنى: ألا تسجدون، على الخطاب. وفي قراءة أبي: ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون، انتهى. وقال بن عطية: وقرأ الأعمش: هلا يسجدون؛ وفي حرف عبد الله: ألا هل تسجدون، بالتاء، وفي قراءة أبي: ألا تسجدون، بالتاء أيضاً؛ فأما قراءة من أثبت النون في يسجدون، وقرأ بالتاء أو الياء، فتخريجها واضح. وأما قراءة باقي السبعة فخرجت على أن قوله: {ألا يسجدوا} في موضع نصب، على أن يكون بدلاً من قوله: {أعمالهم}، أي فزين لهم الشيطان أن لا يسجدوا. وما بين المبدل منه والبدل معترض، أو في موضع جر، على أن يكون بدلاً من السبيل، أي نصدهم عن أن لا يسجدوا. وعلى هذا التخريج تكون لا زائدة، أي فصدهم عن أن يسجدوا لله، ويكون {فهم لا يهتدون} معترضاً بين المبدل منه والبدل، ويكون التقدير: لأن لا يسجدوا. وتتعلق اللام إما بزين، وإما بقصدهم، واللام الداخلة على أن داخلة على مفعول له، أي علة تزيين الشيطان لهم، أو صدهم عن السبيل، هي انتفاء سجودهم لله، أو لخوفه أن يسجدوا لله. وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون لا مزيدة، ويكون المعنى فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا. انتهى. وأما قراءة ابن عباس ومن وافقه، فخرجت على أن تكون ألا حرف استفتاح، ويا حرف نداء، والمنادى محذوف، واسجدوا فعل أمر، وسقطت ألف يا التي للنداء، وألف الوصل في اسجدوا، إذ رسم المصحف يسجدوا بغير ألفين لما سقطا لفظاً سقطا خطاً. ومجيء مثل هذا التركيب موجود في كلام العرب. قال الشاعر: ألا يا اسلمي ذات الدمالج والعقد *** وقال: ألا يا اسقياني قبل غارة سنجال *** وقال: ألا يا اسلمي يا دارميّ على البلى *** وقال: ألا يا اسقياني قبل حبل أبي بكر *** وقال: فقالت ألا يا اسمع أعظك بخطبة *** فقلت سمعنا فانطقي وأصيبي وقال: ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدر *** وإن كان جباناً عدا آخر الدهر وسمع بعض العرب يقول: ألا يا ارحمونا ألا تصدّقوا علينا *** ووقف الكسائي في هذه القراءة على يا، ثم يبتدئ اسجدوا، وهو وقف اختيار لا اختبار، والذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ليست يا فيه للنداء، وحذف المنادى، لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه، لأنه قد حذف الفعل العامل في النداء، وانحذف فاعله لحذفه. ولو حذفنا المنادى، لكان في ذلك حذف جملة النداء، وحذف متعلقه وهو المنادي، فكان ذلك إخلالاً كبيراً. وإذا أبقينا المنادى ولم نحذفه، كان ذلك دليلاً على العامل فيه جملة النداء. وليس حرف النداء حرف جواب، كنعم، ولا، وبلى، وأجل؛ فيجوز حذف الجمل بعدهنّ لدلالة ما سبق من السؤال على الجمل المحذوفة. فـ يا عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به ألا التي للتنبيه، وجاز ذلك لاختلاف الحرفين، ولقصد المبالغة في التوكيد، وإذا كان قد وجد التأكيد في اجتماع الحرفين المختلفي اللفظ العاملين في قوله: فأصبحن لا يسألنني عن بما به *** والمتفقي اللفظ العاملين في قوله: ولا للما بهم أبداً دواء *** وجاز ذلك، وإن عدوه ضرورة أو قليلاً، فاجتماع غير العاملين، وهما مختلفا اللفظ، يكون جائزاً، وليس يا في قوله: يا لعنة الله والأقوام كلهم *** حرف نداء عندي، بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدأ، وليس مما حذف منه المنادى لما ذكرناه. وقال الزمخشري: فإن قلت: أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعاً، أو في واحدة منهما: قلت: هي واجبة فيهما، وإحدى القراءتين أمر بالسجود، والأخرى ذمّ للتارك؛ وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد فغير مرجوع إليه، انتهى. والخبء: مصدر أطلق على المخبوء، وهو المطر والنبات وغيرهما مما خبأه تعالى من غيوبه. وقرأ الجمهور: الخبء، بسكون الباء والهمزة. وقرأ أبيّ، وعيسى: بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة. وقرأ عكرمة: بألف بدل الهمزة، فلزم فتح ما قبلها، وهي قراءة عبد الله، ومالك بن دينار. ويخرج على لغة من يقول في الوقف: هذا الخبو، ومررت بالخبي، ورأيت الخبا، وأجرى الوصل مجرى الوقف. وأجاز الكوفيون أن تقول في المرأة والكمأة: المرأة والكمأة، فيبدل من الهمزة ألفاً، فتفتح ما قبلها، فعلى قولهم هذا يجوز أن يكون الخبأ منه. قيل: وهي لغة ضعيفة، وإجراء الوصل مجرى الوقف أيضاً نادر قليل، فيعادل التخريجان. ونقل الحركة إلى الباء، وحذف الهمزة، حكاه سيبويه، عن قوم من بني تميم وبني أسد. وقراءة الخبا بالألف، طعن فيها أبو حاتم وقال: لا يجوز في العربية، قال: لأنه إن حذف الهمزة ألقى حركتها على الباء فقال: الخب، وإن حولها قال: الخبي، بسكون الباء وياء بعدها. قال المبرد: كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو، ولم يلحق بهم، إلا أنه إذا خرج من بلدتهم لم يلق أعلم منه. والظاهر أن {في السموات} متعلق بالخبء، أي المخبوء في السموات. وقال الفراء في ومن يتعاقبان بقول العرب: لأستخرجن العلم فيكم، يريد منكم. انتهى. فعلى هذا يتعلق بيخرج، أي من في السموات. ولما كان الهدهد قد أوتي من معرفة الماء تحت الأرض ما لم يؤت غيره، وألهمه الله تعالى ذلك، كان وصفه ربه تعالى بهذا الوصف الذي هو قوله: {الذي يخرج الخبء}، إذ كل مختص بوصف من علم أو صناعة، يظهر عليه مخايل ذلك الوصف في روائه ومنطقه وشمائله، ولذلك ورد «ما عمل عبد عملاً إلا ألقى الله عليه رداء عمله» وقرأ الحرميان والجمهور: ما يخفون وما يعلنون، بياء الغيبة، والضمير عائد على المرأة وقومها. وقرأ الكسائي وحفص: بتاء الخطاب، فاحتمل أن يكون خطاباً لسليمان عليه السلام والحاضرين معه، إذ يبعد أن تكون محاورة الهدهد لسليمان، وهما ليس معهما أحد. وكما جاز له أن يخاطبه بقوله: {أحطت بما لم تحط به}، جاز أن يخاطبه والحاضرين معه بقوله: {ما تخفون وما تعلنون}، بل خطابه بهذا ليس فيه ظهور شغوف بخلاف ذلك الخطاب. والظاهر أن قوله: {ألا يسجدوا} إلى العظيم من كلام الهدهد. وقيل: من كلام الله تعالى لأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عطية: القراءة بياء الغيبة تعطي أن الأية من كلام الهدهد، وبتاء الخطاب تعطي أنها من خطاب الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال صاحب الغنيان: لما ذكر الهدهد عرش بلقيس ووصفه بالعظم، رد الله عز وجل عليه وبين أن عرشه تعالى هو الموصوف بهذه الصفة على الحقيقة، إذ لا يستحق عرش دونه أن يوصف بالعظمة. وقيل: إنه من تمام كلام الهدهد، كأنه استدرك ورد العظمة من عرش بلقيس إلى عرش الله. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف سوى الهدهد بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظم؟ قلت: بين الوصفين فرق، لأن وصف عرشها بالعظم تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك، ووصف عرش الله بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض. انتهى. وقرأ ابن محيصن وجماعة: العظيم بالرفع، فاحتمل أن تكون صفة للعرش، وقطع على إضمار هو على سبيل المدح، فتستوي قراءته وقراءة الجمهور في المعنى. واحتمل أن تكون صفة للرب، وخص العرش بالذكر، لأنه أعظم المخلوقات، وما عداه في ضمنه. ولما فرغ الهدهد من كلامه، وأبدى عذره في غيبته، أخر سليمان أمره إلى أن يتبين له صدقه من كذبه فقال: {سننظر أصدقت} في أخبارك أم كذبت. والنظر هنا: التأمل والتصفح، وأصدقت: جملة معلق عنها سننظر، وهي في موضع نصب على إسقاط حرف الجر، لأن نظر، بمعنى التأمل والتفكر، إنما يتعدى بحرف الجر الذي هو في. وعادل بين الجملتين بأم، ولم يكن التركيب أم كذبت، لأن قوله: {أم كنت من الكاذبين} أبلغ في نسبة الكذب إليه، لأن كونه من الكاذبين يدل على أنه معروف بالكذب، سابق له هذا الوصف قبل الإخبار بما أخبر به. وإذا كان قد سبق له الوصف بالكذب، كان متهماً فيما أخبر به، بخلاف من يظن ابتداء كذبه فيما أخبر به. وفي الكلام حذف تقديره: فأمر بكتابة كتاب إليهم، وبذهاب الهدهد رسولاً إليهم بالكتاب، فقال: {اذهب بكتابي هذا}: أي الحاضر المكتوب الآن. {فألقه إليهم ثم تول عنهم}: أي تنح عنهم إلى مكان قريب، بحيث تسمع ما يصدر منهم وما يرجع به بعضهم إلى بعض من القول. وفي قوله: {اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم} دليل على إرسال الكتب إلى المشركين من الإمام، يبلغهم الدعوة ويدعوهم إلى الإسلام. وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وغيرهما ملوك العرب. وقال وهب: أمره بالتولي حسن أدب ليتنحى حسب ما يتأدّب به الملوك، بمعنى: وكن قريباً بحيث تسمع مراجعاتهم. وقال ابن زيد: أمره بالتولي بمعنى الرجوع إليه، أي ألقه وارجع. قال: وقوله: {فانظر ماذا يرجعون} في معنى التقديم على قوله: {ثم تولى عنهم}. انتهى. وقاله أبو علي، ولا ضرورة تدعو إلى التقديم والتأخير، بل الظاهر أن النظر معتقب التولي عنهم. وقرئ في السبعة: فألقه، بكسر الهاء وياء بعدها، وباختلاس الكسرة وبسكون الهاء. وقرأ مسلم بن جندب: بضم الهاء وواو بعدها، وجمع في قوله: {إليهم} الهدهد قال: {وجدتها وقومها}. وفي الكتاب أيضاً ضمير الجمع في قوله: {أن لا تعلوا عليّ} والكتاب كان فيه الدعاء إلى الإسلام لبلقيس وقومها. ومعنى: {فانظر ماذا يرجعون}: أي تأمل واستحضره في ذهنك. وقيل معناه: فانتظر. ماذا: إن كان معنى فانظر معنى التأمل بالفكر، كان انظر معلقاً، وماذا: إما كلمة استفهام في موضع نصب، وإما أن تكون ما استفهاماً وذا موصول بمعنى الذي. فعلى الأول يكون يرجعون خبراً عن ماذا، وعلى الثاني يكون ذا هو الخبر ويرجعون صلة ذا. وإن كان معنى فانظر: فانتظر، فليس فعل قلب فيعلق، بل يكون ماذا كله موصولاً بمعنى الذي، أي فانتظر الذي يرجعون، والمعنى: فانظر ماذا يرجعون حتى ترد إلى ما يرجعون من القول.
{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)} في الكلام حذف تقديره: فأخذ الهدهد الكتاب وذهب به إلى بلقيس وقومها وألقاه إليهم، كما أمره سليمان. فقيل: أخذه بمنقاره. وقيل: علقه في عنقه، فجاءها حتى وقف على رأسها، وحولها جنودها، فرفرف بجناحيه، والناس ينظرون إليه، حتى رفعت رأسها، فألقى الكتاب في حجرها. وقيل: كانت في قصرها قد غلقت الأبواب واستلقت على فراشها نائمة، فألقي الكتاب على نحرها. وقيل: كانت في البيت كوة تقع الشمس فيها كل يوم، فإذا نظرت إليها سجدت، فجاء الهدهد فسدها بجناحه، فرأت ذلك وقامت إليه، فألقى الكتاب إليها، وكانت قارئة عربية من قوم تبع. وقيل: ألقاه من كوة وتوارى فيها. فأخذت الكتاب ونادت أشراف قومها: {قالت يا أيها الملأ}. وكرم الكتاب لطبعه بالخاتم، وفي الحديث: «كرم الكتاب ختمه» أو لكونه من سليمان، وكانت عالمة بملكه، أو لكون الرسول به الطير، فظنته كتاباً سماوياً؛ أو لكونه تضمن لطفاً وليناً، لا سباً ولا ما يغير النفس، أو لبداءته باسم الله، أقوال. ثم أخبرتهم فقالت: {إنه من سليمان}، كأنها قيل لها: ممن الكتاب وما هو؟ فقالت: {إنه من سليمان}، وإنه كيت وكيت. أبهمت أولاً ثم فسرت، وفي بنائها ألقي للمفعول دلالة على جهلها بالملقي، حيث حذفته، أو تحقيراً له، حيث كان طائراً، إن كانت شاهدته. والظاهر أن بداءة الكتاب من سليمان باسم الله الرحمن الرحيم، إلى آخر ما قص الله منه خاصة، فاحتمل أن يكون من سليمان مقدماً على بسم الله، وهو الظاهر، وقدمه لاحتمال أن يندر منها ما لا يليق، إذ كانت كافرة، فيكون اسمه وقاية لاسم الله تعالى. أو كان عنواناً في ظاهر الكتاب، وباطنه فيه بسم الله إلى آخره. واحتمل أن يكون مؤخراً في الكتابة عن بسم الله، وإن ابتدأ الكتاب باسم الله، وحين قرأته عليهم بعد قراءتها له في نفسها، قدمته في الحكاية، وإن لم يكن مقدماً في الكتابة. وقال أبو بكر بن العربي: كانت رسل المتقدمين إذا كتبوا كتاباً بدأوا بأنفسهم، من فلان إلى فلان، وكذلك جاءت الإشارة. وعن أنس: ما كان أحد أعظم حرمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أصحابه إذا كتبوا إليه كتاباً بدأوا بأنفسهم. وقال أبو الليث في (كتاب البستان) له: ولو بدأ بالمكتوب إليه جاز، لأن الأمة قد أجمعت عليه وفعلوه. وقرأ الجمهور: إنه من سليمان، وإنه بكسر الهمزة فيهما. وقرأ عبد الله: وإنه من سليمان، بزيادة واو عطفاً على {إني ألقي}. وقرأ عكرمة، وابن أبي عبلة: بفتحهما، وخرج على البدل من كتاب، أي ألقى إليّ أنه، أو على أن يكون التقدير لأنه كأنها. عللت كرم الكتاب لكونه من سليمان وتصديره ببسم الله. وقرأ أبي: أن من سليمان وأن بسم الله، بفتح الهمزة ونون ساكنة، فخرج على أن أن هي المفسرة، لأنه قد تقدمت جملة فيها معنى القول، وعلى أنها أن المخففة من الثقيلة، وحذفت الهاء وبسم الله الرحمن الرحيم، استفتاح شريف بارع المعنى مبدوء به في الكتب في كل لغة وكل شرع. وأن في قوله: {أن لا تعلوا}، قيل: في موضع رفع على البدل من كتاب. وقيل: في موضع نصب على معنى بأن لا تعلوا، وعلى هذين التقديرين تكون أن ناصبة للفعل. وقال الزمخشري: وأن في {أن لا تعلوا عليّ} مفسرة، فعلى هذا تكون لا في لا تعلوا للنهي، وهو حسن لمشاكلة عطف الأمر عليه. وجوز أبو البقاء أن يكون التقدير هو أن لا تعلوا، فيكون خبر مبتدأ محذوف. ومعنى لا تعلوا: لا تتكبروا، كما يفعل الملوك. وقرأ ابن عباس، في رواية وهب بن منبه والأشهب العقيلي: أن لا تغلوا، بالغين المعجمة، أي ألا تتجاوزوا الحد، وهو من الغلو. والظاهر أنه طلب منهم أن يأتوه وقد أسلموا، وتركوا الكفر وعبادة الشمس. وقيل: معناه مذعنين مستسلمين من الانقياد والدخول في الطاعة، وما كتبه سليمان في غاية الإيجاز والبلاغة، وكذلك كتب الأنبياء. والظاهر أن الكتاب هو ما نص الله عليه فقط. واحتمل أن يكون مكتوباً بالعربي، إذ الملوك يكون عندهم من يترجم بعدة ألسن، فكتب بالخط العربي واللفظ العربي، لأنها كانت عربية من نسل تبع بن شراحيل الحميري. واحتمل أن يكون باللسان الذي كان سليمان يتكلم به، وكان عندها من يترجم لها، إذ كانت هي عارفة بذلك اللسان. وروي أن نسخة الكتاب من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ: السلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فلا تعلوا عليّ وائتوني مسلمين. وكانت كتب الأنبياء جملاً لا يطيلون ولا يكثرون، وطبع الكتاب بالمسك، وختمه بخاتمة. وروي أنه لم يكتب أحد بسم الله الرحمن الرحيم قبل سليمان، ولما قرأت على الملأ الكتاب، ورأت ما فيه من الانتقال إلى سليمان، استشارتهم في أمرها. قال قتادة: وكان أولو مشورتها ثلاثمائة واثني عشر، وعنه: وثلاثة عشر، كل رجل منهم على عشرة آلاف، وكانت بأرض مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام، وذكر عن عسكرها ما هو أعظم وأكثر من هذا، والله أعلم بذلك. وتقدم الكلام في الفتوى في سورة يوسف، والمراد هنا: أشيروا عليّ بما عندكم في ما حدث لها من الرأي السديد والتدبير. وقصدت بإشارتهم: استطلاع آرائهم واستعطافهم وتطييب أنفسهم ليمالئوها ويقوموا. {ما كنت قاطعة أمراً}: أي مبرمة وفاصلة أمراً، {حتى تشهدون}: أي تحضروا عندي، فلا أستبد بأمر، بل تكونون حاضرين معي. وفي قراءة عبد الله: ما كنت قاضية أمراً، أي لا أبت إلا وأنتم حاضرون معي. وما كنت قاطعة أمراً، عام في كل أمر، أي إذا كانت عادتي هذه معكم، فكيف لا أستشيركم في هذه الحادثة الكبرى التي هي الخروج من الملك والانسلاك في طاعة غيري والصيرورة تبعاً؟ فراجعها الملأ بما أقرعينها من قولهم: إنهم {أولوا}، أي قوة بالعدد والعدد، {وأولوا بأس شديد}: أي أصحاب شجاعة ونجدة. أظهروا القوة العرضية، ثم القوة الذاتية، أي نحن متهيؤون للحرب ودفع هذا الحادث. ثم قالوا: {والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين}، وذلك من حسن محاورتهم، إذ وكلوا الأمر إليها، وهو دليل على الطاعة المفرطة، أي نحن ذكرنا ما نحن عليه، ومع ذلك فالأمر موكول إليك، كأنهم أشاروا أولاً عليها بالحرب، أو أرادوا: نحن أبناء الحرب لا أبناء الاستشارة، وأنت ذات الرأي والتدبير الحسن. فانظري ماذا تأمرين به، نرجع إليك ونتبع رأيك، وفانظري من التأمل والتفكر، وماذا هو المفعول الثاني لتأمرين، والمفعول الأول محذوف لفهم المعنى، أي تأمريننا. والجملة معلق عنها انظري، فهي في موضع مفعول لأنظري بعد إسقاط الحرف من اسم الاستفهام. ولما وصل إليها كتاب سليمان، لا على يد رجل بل على طائر، استعظمت ملك سليمان، وعلمت أن من سخر له الطير حتى يرسله بأمر خاص إلى شخص خاص مغلق عليه الأبواب، غير ممتنع عليه تدويخ الأرض وملوكها، فأخبرت بحال الملوك ومالت إلى المهاداة والصلح فقالت: {إن الملوك إذا دخلوا قرية}: أي تغلبوا عليها، {أفسدوها}: أي خربوها بالهدم والحرق والقطع، وأذلوا أعزة أهلها بالقتل والنهب والأسر، وقولها فيه تزييف لآرائهم في الحرب، وخوف عليهم وحياطة لهم، واستعظام لملك سليمان. والظاهر أن {وكذلك يفعلون} هو من قولها، أي عادة الملوك المستمرة تلك من الإفساد والتذليل، وكانت ناشئة في بيت الملك، فرأت ذلك وسمعت. ذكرت ذلك تأكيداً لما ذكرت من حال الملوك. وقيل: هو من كلام الله إعلاماً لرسوله صلى الله عليه وسلم وأمته، وتصديقاً لإخبارها عن الملوك إذا تغلبوا. ولما كانت عادة الملوك قبول الهدايا، وأن قبولها يدل على الرضا والإلفة، قالت: {وإني مرسلة إليهم}، أي إلى سليمان ومن معه، رسلاً {بهدية}، وجاء لفظ الهدية مبهماً. وقد ذكروا في تعيينها أقوالاً مضطربة متعارضة، وذكروا من حيلها ومن حال سليمان حين وصلت إليه الهدية، وكلامه مع رسلها ما الله أعلم به. و{فناظرة} معطوف على {مرسلة}. و{بم} متعلق بيرجع. ووقع للحوفي أن الباء متعلقة بناظرة، وهو وهم فاحش، والنظر هنا معلق أيضاً. والجملة في موضع مفعول به، وفيه دلالة على أنها لم تثق بقبول الهدية، بل جوزت الرد، وأرادت بذلك أن ينكشف لها غرض سليمان. والهدية: اسم لما يهدى، كالعطية هي اسم لما يعطى. وروي أنها قالت لقومها: إن كان ملكاً دنياوياً، أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك، وإن كان نبياً، لم يرضه المال وينبغي أن نتبعه على دينه، وفي الكلام حذف تقديره: فأرسلت الهدية، فلما جاء، أي الرسول سليمان، والمراد بالرسول الجنس لا حقيقة المفرد، وكذلك الضمير في ارجع والرسول يقع على الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث. وقرأ عبد الله: فلما جاءوا، وقرأ: ارجعوا، جعله عائداً على قوله: {المرسلون}. و{أتمدونني بمال}: استفهام إنكار واستقلال، وفي ذلك دلالة على عزوفه عن الدنيا، وعدم تعلق قلبه عليه الصلاة والسلام بها. ثم ذكر نعمة الله عليه، وإن ما آتاه الله من النبوة وسعة الملك خير مما آتاكم، بل أنتم بما يهدى إليكم تفرحون بحبكم الدنيا، والهدية تصح إضافتها إلى المهدي وإلى المهدى إليه، وهي هنا مضافة للمهدى إليه، وهذا هو الظاهر. ويجوز أن تكون مضافة إلى المهدي، أي بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون فرح افتخار على الملوك، فإنكم قدرتم على إهداء مثلها. ويجوز أن تكون عبارة عن الرد، كأنه قال: بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها. وقرأ جمهور السبعة: أتمدونني، بنونين، وأثبت بعض الياء. وقرأ حمزة: بإدغام نون الرفع في نون الوقاية وإثبات ياء المتكلم. وقرأ المسيبي، عن نافع: بنون واحدة خفيفة. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما الفرق بين قولك: أتمدونني بمال وأنا أغني منكم، وبين أن يقوله بالفاء؟ قلت: إذا قلته بالواو، فقد جعلت مخاطبي عالماً بزيادتي عليه في الغنى، وهو مع ذلك يمدني بالمال، وإذا قلته بالفاء، فقد جعلته ممن خفيت عنه حالي، وأنا أخبره الساعة بما لا أحتاج معه إلى إمداده، كأني أقول له: أنكر عليك ما فعلت، فإني غني عنه. وعليه ورد قوله: {فما آتاني الله}. فإن قلت: فما وجه الإضراب؟ قلت: لما أنكر عليهم الإمداد وعلل إنكاره، أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه، وهو أنهم لا يعرفون سبب رضاً ولا فرح إلا أن يهدى إليهم حظ من الدنيا التي لا يعلمون غيرها. انتهى. {ارجع إليهم}: هو خطاب للرسول الذي جاء بالهدية، وهو المنذر بن عمرو أمير الوفد، والمعنى: ارجع إليهم بهديتهم، وتقدمت قراءة عبد الله: ارجعوا إليهم، وارجعوا هنا لا تتعدى، أي انقلبوا وانصرفوا إليهم. وقيل: الخطاب بقوله: ارجع، للهدهد محملاً كتاباً آخر. ثم أقسم سليمان فقال: {فلنأتينهم بجنود}، متوعداً لهم، وفيه حذف، أي إن لم يأتوني مسلمين. ودل هذا التوعد على أنهم كانوا كفاراً باقين على الكفر إذ ذاك. والضمير في {بها} عائد على الجنود، وهو جمع تكسير، فيجوز أن يعود الضمير عليه، كما يعود على الواحدة، كما قالت العرب: الرجال وأعضادها. وقرأ عبد الله: بهم. ومعنى {لا قبل}: لا طاقة، وحقيقة القبل المقاومة والمقابلة، أي لا تقدرون أن تقابلوهم. والضمير في منها عائد على سبأ، وهي أرض بلقيس وقومها. وانتصب {أذلة} على الحال. {وهم صاغرون}: حال أخرى. والذل: ذهاب ما كانوا فيه من العز، والصغار: وقوعهم في أسر واستعباد، ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكاً. وفي مجيء هاتين الحالتين دليل على جواز أن يقضي العامل حالين الذي حال واحد، وهي مسألة خلاف، ويمكن أن يقال: إن الثانية هنا جاءت توكيداً لقوله: {أذلة}، فكأنهما حال واحدة.
{قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)} في الكلام حذف تقديره: فرجع المرسل إليها بالهدية، وأخبرها بما أقسم عليه سليمان، فتجهزت للمسير إليه، إذ علمت أنه نبي ولا طاقة لها بقتال نبي. فروي أنها أمرت عند خروجها إلى سليمان، فجعل عرشها في آخر سبعة أبيات، بعضها في جوف بعض، في آخر قصر من قصورها، وغلقت الأبواب ووكلت به حراساً يحفظونه، وتوجهت إلى سليمان في أقيالها وأتباعهم. قال عبد الله بن شداد: فلما كانت على فرسخ من سليمان، قال: {أيكم يأتيني بعرشها}؟ وقال ابن عباس: كان سليمان مهيباً، لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه. فنظر ذات يوم رهجاً قريباً منه فقال: ما هذا؟ فقالوا: بلقيس، فقال ذلك. واختلفوا في قصد سليمان استدعاء عرشها. فقال قتادة، وابن جريج: لما وصف له عظم عرشها وجودته، أراد أخذه قبل أن يعصمها وقومها الإسلام ويمنع أخذ أموالهم، والإسلام على هذا الدين، وهذا فيه بعد أن يقع ذلك من نبي أوتي ملكاً لم يؤته غيره. وقال ابن عباس، وابن زيد: استدعاه ليريها القدرة التي هي من عند الله، وليغرب عليها سليمان والإسلام على هذا الاستسلام. وأشار الزمخشري لقول فقال: ولعله أوحي إليه عليه السلام باستيثاقها من عرشها، فأراد أن يغرب عليها ويريها بذلك بعض ما خصه به من إجراء العجائب على يده، مع اطلاعها على عظيم قدرة الله تعالى، وعلى ما يشهد لنبوة سليمان ويصدقها. انتهى. وقال الطبري: أراد أن يختبر صدق الهدهد في قوله: {ولها عرش عظيم}، وهذا فيه بعد، لأنه قد ظهر صدقة في حمل الكتاب، وما ترتب على حمله من مشورة بلقيس قومها وبعثها بالهدية. وقيل: أراد أن يؤتي به، فينكر ويغير، ثم ينظر أتثبته أم تنكره، اختباراً لعقلها. والظاهر ترتيب هذه الأخبار على حسب ما وقعت في الوجود، وهو قول الجمهور. وعن ابن عباس أنه قال: {أيكم يأتيني بعرشها}؟ حين ابتدأ النظر في صدق الهدهد من كذبه لما قال: {ولها عرش عظيم}. ففي ترتيب القصص تقديم وتأخير، وفي قوله: {أيكم يأتيني بعرشها} دليل على جواز الاستعانة ببعض الاتباع في مقاصد الملوك، ودليل على أنه قد يخص بعض أتباع الأنبياء بشيء لا يكون لغيرهم، ودليل على مبادرة من طلبه منه الملوك قضاء حاجة، وبداءة الشياطين في التسخير على الإنس، وقدرتهم بأقدار الله على ما يبعد فعله من الإنس. وقرأ الجمهور: عفريت، وأبو حيوة: بفتح العين. وقرأ أبو رجاء، وأبو السماك، وعيسى، ورويت عن أبي بكر الصديق: عفرية، بكسر العين، وسكون الفاء، وكسر الراء، بعدها ياء مفتوحة، بعدها تاء التأنيث. وقال ذو الرمة: كأنه كوكب في إثر عفرية *** مصوّب في سواد الليل مقتضب وقرأت فرقة: عفر، بلا ياء ولا تاء، ويقال في لغة طيئ وتميم: عفراة بالألف وتاء التأنيث، وفيه لغة سادسة عفارية، ويوصف بها الرجل، ولما كان قد يوصف به الإنس خص بقوله من الجن. وعن ابن عباس: اسمه صخر. وقيل: كوري. وقيل: ذكران. و{آتيك}: يحتمل أن يكون مضارعاً واسم فاعل. وقال قتادة، ومجاهد، ووهب: {من مقامك}: أي من مجلس الحكم، وكان يجلس من الصبح إلى الظهر في كل يوم. وقيل: قبل أن تستوي من جلوسك قائماً. {وإني عليه}: أي على الإتيان به لقوي على حمله؛ {أمين}: لا أختلس منه شيئاً. قال الحسن: كان كافراً، لكنه كان مسخراً، والعفريت لا يكون إلا كافراً. {قال الذي عنده علم من الكتاب}، قيل: هو من الملائكة، وهو جبريل، قاله النخعي. والكتاب: اللوح المحفوظ، أو كتاب سليمان إلى بلقيس. وقيل: ملك أيد الله به سليمان. وقيل: هو رجل من الإنس، واسمه آصف بن برخيا، كاتب سليمان، وكان صديقاً عالماً قاله الجمهور. أو اسطوام، أو هود، أو مليخا، قاله قتادة. أو اسطورس، أو الخضر عليه السلام، قاله ابن لهيعة. وقالت جماعة: هو ضبة بن ادجد بني ضبة، من العرب، وكان فاضلاً يخدم سليمان، كان على قطعة من خيله، وهذه أقوال مضطربة، وقد أبهم الله اسمه، فكان ينبغي أن لا يذكر اسمه حتى يخبر به نبي. ومن أغرب الأقوال أنه سليمان عليه السلام، كأنه يقول لنفسه: {أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك}، أو يكون خاطب بذلك العفريت، حكى هذا القول الزمخشري وغيره، كأنه استبطأ ما قال العفريت، فقال له سليمان ذلك على تحقير العفريت. والكتاب: هو المنزل من عند الله، أو اللوح المحفوظ، قولان. والعلم الذي أوتيه، قال: اسم الله الأعظم وهو: يا حي يا قيوم. وقيل: يا ذا الجلال والإكرام. وقيل بالعبرانية: أهيا شراهيا. وقال الحسن: الله ثم الرحمن. والظاهر أن ارتداد الطرف حقيقة، وأنه أقصر في المدة من مدة العفريت، ولذلك روي أن سليمان قال: أريد أسرع من ذلك حين أجابه العفريت، ولما كان الناظر موصوفاً بإرسال البصر، كما قال الشاعر: وكنت متى أرسلت طرفك رائداً *** لقلبك يوماً أتعبتك المناظر وصف برد الطرف، ووصف الطرف بالارتداد. فالمعنى أنك ترسل طرفك، فقبل أن ترده أتيتك به، وصار بين يديك. فروي أن آصف قال لسليمان عليه السلام: مد عينيك حتى ينتهي طرفك، فمد طرفه فنظر نحو اليمن، فدعا آصف فغاب العرش في مكانه بمأرب، ثم نبع عند مجلس سليمان بالشام بقدرة الله، قبل أن يرد طرفه. وقال ابن جبير، وقتادة: قبل أن يصل إليك من يقع طرفك عليه في أبعد ما ترى. وقال مجاهد: قبل أن تحتاج إلى التغميض، أي مدة ما يمكنك أن تمد بصرك دون تغميض، وذلك ارتداده. قال ابن عطية: وهذان القولان يقابلان قول من قال: إن القيام هو من مجلس الحكم، ومن قال: إن القيام هو من الجلوس، فيقول في ارتداد الطرف هو أن تطرف، أي قبل أن تغمض عينيك وتفتحهما، وذلك أن الثاني يعطي الأقصر في المدة ولا بد. انتهى. وقيل: طرفك مطروفك، أي قبل أن يرجع إليك من تنظر إليه من منتهى بصرك، وهذا هو قول ابن جبير وقتادة المتقدم، لأن من يقع طرفك عليه هو مطروفك. وقال الماوردي: قبل أن ينقبض إليك طرفك بالموت، فخبره أنه سيأتيه قبل موته، وهذا تأويل بعيد، بل المعنى آتيك به سريعاً. وقيل: ارتداد الطرف مجاز هنا، وهو من باب مجاز التمثيل، والمراد استقصار مدة الإتيان به، كما تقول لصاحبك: افعل كذا في لحظة، وفي ردة طرف، وفي طرفة عين، تريد به السرعة، أي آتيك به في مدة أسرع من مدة العفريت. {فلما رآه مستقراً} عنده: في الكلام حذف تقديره: فدعا الله فأتاه به، فلما رآه: أي عرش بلقيس. قيل: نزل على سليمان من الهواء. وقيل: نبع من الأرض. وقيل: من تحت عرش سليمان، وانتصب مستقراً على الحال، وعنده معمول له. والظرف إذا وقع في موضع الحال، كان العامل فيه واجب الحذف. فقال ابن عطية: وظهر العامل في الظرف من قوله: {مستقراً}، وهذا هو المقدر أبداً في كل ظرف وقع في موضع الحال. وقال أبو البقاء: ومستقراً، أي ثابتاً غر متقلقل، وليس بمعنى الحضور المطلق، إذ لو كان كذلك لم يذكر. انتهى. فأخذ في مستقراً أمراً زائداً على الاستقرار المطلق، وهو كونه غير متقلقل، حتى يكون مدلوله غير مدلول العندية، وهو توجيه حسن لذكر العامل في الظرف الواقع حالاً؛ وقد قدر ذكر العامل في ما وقع خبراً من الجار والمجرور التام في قول الشاعر: لك العزان مولاك عزوان يهن *** فأنت لدى بحبوحة الهون كائن {قال هذا من فضل ربي}: أي هذا الإتيان بعرشها، وتحصيل ما أردت من ذلك، هو من فضل ربي عليّ وإحسانه، ثم علل ذلك بقوله: {ليبلوني أأشكر أم أكفر}. قال ابن عباس: المعنى أأشكر على السرير وسوقه أم أكفر؟ إذ رأيت من هو دوني في الدنيا أعلم مني. انتهى. وتلقى سليمان النعمة وفضل الله بالشكر، إذ ذاك نعمة متجددة، والشكر قيد للنعم. وأأشكر أم أكفر في موضع نصب ليبلوني، وهو معلق، لأنه في معنى التمييز، والتمييز في معنى العلم، وكثير التعليق في هذا الفعل إجراء له مجرى العلم، وإن لم يكن مرادفاً له، لأن مدلوله الحقيقي هو الاختبار. {ومن شكر فإنما يشكر لنفسه}: أي ذلك الشكر عائد ثوابه إليه، إذ كان قد صان نفسه عن كفران النعمة، وفعل ما هو واجب عليه من شكر نعمة الله عليه. {ومن كفر}: أي فضل الله ونعمته عليه، فإن ربي غني عن شكره، لا يعود منفعتها إلى الله، لأنه هو الغني المطلق الكريم بالإنعام على من كفر نعمته. والظاهر أن قوله: {فإن ربي غني كريم} هو جواب الشرط، ولذلك أضمر فاء في قوله: {غني}، أي عن شكره. ويجوز أن يكون الجواب محذوفاً دل عليه ما قبله من قسيمه، أي ومن كفر فلنفسه، أي ذلك الكفر عائد عقابه إليه. ويجوز أن تكون ما موصولة، ودخلت الفاء في الخبر لتضمنها معنى الشرط. {قال نكروا لها عرشها}. روي أن الجن أحست من سليمان، أو ظنت به أنه ربما تزوج بلقيس، فكرهوا ذلك ورموها عنده بأنها غير عاقلة ولا مميزة، وأن رجلها كحافر دابة، فجرب عقلها وميزها بتنكير العرش، ورجلها بالصرح، لتكشف عن ساقيها عنده. وتنكير عرشها، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: بأن زيد فيه ونقص منه. وقيل: بنزع ما عليه من الفصوص والجواهر. وقيل: بجعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره. والتنكير: جعله متنكراً متغيراً عن شكله وهيئته، كما يتنكر الرجل للناس حتى لا يعرفوه. وقرأ الجمهور: ننظر: بالجزم على جواب الأمر. وقرأ أبو حيوة: بالرفع على الاستئناف. أمر بالتنكير، ثم استأنف الإخبار عن نفسه بأنه ينظر، ومتعلق أتهتدي محذوف. والظاهر أنه أتهتدي لمعرفة عرشها ولا يجعل تنكيره قادحاً في معرفتها له فيظهر بذلك فرط عقلها وأنها لم يخف عليه حال عرشها وإن كانوا قد راموا الإخفاء أو أتهتدي للجواب المصيب إذا سئلت عنه، أو أتهتدي للإيمان بنبوة سليمان عليه السلام إذا رأت هذا المعجز من نقل عرشها من المكان الذي تركته فيه وغلقت الأبواب عليه وجعلت له حراساً. {فلما جاءت}، في الكلام حذف، أي فنكروا عرشها ونظروا ما جوابها إذا سئلت عنه. {فلما جاءت قيل أهكذا عرشك}: أي مثل هذا العرش الذي أنت رأيتيه عرشك الذي تركتيه ببلادك؟ ولم يأت التركيب: أهذا عرشك؟ جاء بأداة التشبيه، لئلا يكون ذلك تلقيناً لها. ولما رأته على هيئة لا تعرفها فيه، وتميزت فيه أشياء من عرشها، لم تجزم بأنه هو، ولا نفته النفي البالغ، بل أبرزت ذلك في صورة تشبيهية فقالت: {كأنه هو}، وذلك من جودة ذهنها، حيث لم تجزم في الصورة المحتملة بأحد الجائزين من كونه إياه أو من كونه ليس إياه، وقابلت تشبيههم بتشبيهها. والظاهر أن قوله: {وأوتينا العلم} إلى قوله: {من قوم كافرين} ليس من كلام بلقيس، وإن كان متصلاً بكلامها. فقيل: من كلام سليمان. وقيل: من كلام قوم سليمان وأتباعه. فإن كان من قول سليمان فقيل: العلم هنا مخصوص، أي وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة. {من قبلها} أي من قبل مجيئها. {وكنا مسلمين}: موحدين خاضعين. وقال ابن عطية: وفي الكلام حذف تقديره كأنه هو، وقال سليمان عند ذلك: {وأوتينا العلم من قبلها} الآية، قال ذلك على جهة تعديد نعم الله تعالى، وإنما قال ذلك بما علمت هي وفهمت، ذكر هو نعمة الله عليه وعلى آبائه. انتهى ملخصاً. وقال الزمخشري: وأوتينا العلم من كلام سليمان وملائه، فإن قلت: علام عطف هذا الكلام وبما اتصل؟ قلت: لما كان المقام الذي سئلت فيه عن عرشها، وأجابت بما أجابت به مقاماً، أجرى فيه سليمان وملأه ما يناسب قولهم: {وأوتينا العلم}، نحو أن يقولوا عند قولها: {كأنه هو}، قد أصابت في جوابها، فطبقت المفصل، وهي عاقلة لبيبة، وقد رزقت الإسلام وعلمت قدرة الله وصحة النبوّة بالآيات التي تقدمت عند وفدة المنذر. وبهذه الآية العجيبة من أمر عرشها عطفوا على ذلك قولهم: وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوّة سليمان ما جاء من عنده قبل علمها، ولم نزل نحن على دين الإسلام، شكروا الله على فضلهم عليها وسبقهم إلى العلم بالله والإسلام قبلها وصدها عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس ونشؤها بين ظهراني الكفرة. ويجوز أن يكون من كلام بلقيس موصولاً بقولها {كأنه هو}، والمعنى: وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة، أو قبل هذه الحالة، يعني ما تبينت من الآيات عند وفدة المنذر ودخلنا في الإسلام. ثم قال الله تعالى: {وصدها} قبل ذلك عما دخلت فيه ضلالها عن سواء السبيل. وقيل: وصدها الله أو سليمان عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار واتصال الفعل. انتهى. أما قوله: ويجوز أن يكون من كلام بلقيس، فهو قول قد تقدم إليه على سبيل التعيين لا الجواز. قيل: والمعنى وأوتينا العلم بصحة نبوته بالآيات المتقدمة من أمر الهدهد والرسل من قبل هذه المعجزة، يعني إحضار العرش. وكنا مسلمين مطيعين لأمرك منقادين لك. والظاهر أن الفاعل بصدّها هو قوله: {ما كانت تعبد}، وكونه الله أو سليمان، وما مفعول صدّها على إسقاط حرف الجر، قاله الطبري، وهو ضعيف لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، نحو قوله: تمرون الديار ولم تعوجوا *** أي عن الديار، وليس من مواضع حذف حرف الجر. وإذا كان الفاعل هو ما كانت بالمصدود عنه، الظاهر أنه الإسلام. وقال الرماني: التقدير التفطن للعرش، لأن المؤمن يقظ والكافر خبيث. والظاهر أن قوله: {وصدها} معطوف على قوله: {وأوتينا}، إذا كان من كلام سليمان، وإن كان يحتمل ابتداء إخبار من الله تعالى لمحمد نبيه ولأمته. وإن كان وأوتينا من كلام بلقيس، فالظاهر أنه يتعين كونه من قول الله تعالى وقول من قال إنه متصل بقوله: {أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون}. والواو في صدها للحال، وقد مضمرة مرغوب عنه لطول الفصل بينهما، ولأن التقديم والتأخير لا يذهب إليه إلا عند الضرورة. وقرأ الجمهور: إنها بكسر الهمزة، وسعيد بن جبير، وابن أبي عبلة: بفتحها، فإما على تقدير حرف الجر، أي لأنها، وإما على أن يكون بدلاً من الفاعل الذي هو ما كانت تعبد. قال محمد بن كعب القرظي وغيره: لما وصلت بلقيس، أمر سليمان الجن فصنعت له صرحاً، وهو السطح في الصحن من غير سقف، وجعلته مبنياً كالصهريج ومليء ماء، وبث فيه السمك والضفادع، وجعل لسليمان في وسطه كرسي. فلما وصلته بلقيس، {قيل لها: ادخلي} إلى النبي عليه السلام، فرأت اللجة وفزعت، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر، فكشفت عن ساقها، فرأى سليمان ساقيها سليمتين مما قالت الجن. فلما بلغت هذا الحد، قال لها سليمان: {إنه صرح ممرد من قوارير}، وعند ذلك استسلمت بلقيس وأدغنت وأسلمت وأقرت على نفسها بالظلم. وفي هذه الحكاية زيادة، وهو أنه وضع سريره في صدره وجلس عليه، وعكفت عليه الطير والجن والإنس. قال الزمخشري: وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاماً لأمره وتحققاً لنبوته وثباتاً على الدين. انتهى. والصرح: كل بناء عال، ومنه: {ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب} وهو من التصريح، وهو الإعلان البالغ. وقال مجاهد: الصرح هنا: البركة. وقال ابن عيسى: الصحن، وصرحة الدار: ساحتها. وقيل: الصرح هنا: القصر من الزجاج؛ وفي الكلام حذف، أي فدخلته امتثالاً للأمر. واللجة: الماء الكثير. وكشف ساقيها عادة من كان لابساً وأراد أن يخوض الماء إلى مقصد له، ولم يكن المقصود من الصرح إلا تهويل الأمر، وحصل كشف الساق على سبيل التبع، إلا أن يصح ما روي عن الجن أن ساقها ساق دابة بحافر، فيمكن أن يكون استعلام ذلك مقصوداً. وقرأ ابن كثير: قيل في رواية الأخريط وهب بن واضح عن سأقيها بالهمز، قال أبو علي: وهي ضعيفة، وكذلك في قراءة قنبل: يكشف عن سأق، وأما همز السؤق وعلى سؤقه فلغة مشهورة في همز الواو التي قبلها ضمة. حكى أبو علي أن أبا حية النميري كان يهمز كل واو قبلها ضمة، وأنشد: أحب المؤقدين إلى موسى *** والظاهر أن الفاعل قال هو سليمان، ويحتمل أن يكون الفاعل هو الذي أمرها بدخول الصرح. وظلمها نفسها، قيل: بالكفر، وقيل: بحسبانها أن سليمان أراد أن يعرفها. وقال ابن عطية: ومع، ظرف بني على الفتح، وأما إذا أسكنت العين فلا خلاف أنه حرف جاء لمعنى. انتهى، والصحيح أنها ظرف، فتحت العين أو سكنت، وليس التسكين مخصوصاً بالشعر، كما زعم بعضهم، بل ذلك لغة لبعض العرب، والظرفية فيها مجاز، وإنما هو اسم يدل على معنى الصحبة.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)} الحديقة: البستان، كان عليه جدار أو لم يكن. الحاجز: الفاصل بين الشيئين. الفوج: الجماعة. الجمود: سكون الشيء وعدم حركته. الإتقان: الإتيان بالشيء على أحسن حالاته من الكمال والإحكام في الخلق، وهو مشتق من قول العرب: تقنوا أرضهم إذا أرسلوا فيها الماء الخاثر بالتراب فتجود، والتقن: ما رمي به الماء في الغدير، وهو الذي يجيء به الماء من الخثورة. كبيت الرجل: ألقيته لوجهه. {ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون، قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون، قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون، وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولنّ لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون، ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون، فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون، وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون}. ثمود هي عاد الأولى، وصالح أخوهم في النسب. للما ذكر قصة موسى وداود وسليمان، وهم من بني إسرائيل، ذكر قصة من هو من العرب، يذكر بها قريشاً والعرب، وينبههم أن من تقدم من الأنبياء من العرب كان يدعو إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، ليعلموا أنهم في عبادة الأصنام على ضلالة، وأن شأن الأنبياء عربهم وعجمهم هو الدعاء إلى عبادة الله، وإن في: {أن اعبدوا} يجوز أن تكون مفسرة، لأن {أرسلنا} تتضمن معنى القول، ويجوز أن تكون مصدرية، أي بأن اعبدوا، فحذف حرف الجر، فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب، وعلى الثاني ففي موضعها خلاف، أهو في موضع نصب أم في موضع جر؟ والظاهر أن الضمير في {فإذا هم} عائد على {ثمود}، وأن قومه انقسموا فريقين: مؤمناً وكافراً، وقد جاء ذلك مفسراً في سورة الأعراف في قوله: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم} وقال الزمخشري: أريد بالفريقين: صالح وقومه قبل أن يؤمن منهم أحد. انتهى. فجعل الفريق الواحد هو صالح، والفريق الآخر قومه، وإذا هنا هي الفجائية، وعطف بالفاء التي تقتضي التعقيب لا المهلة، فكان المعنى: أنهم بادروا بالاختصام، متعقباً دعاء صالح إياهم إلى عبادة الله. وجاء {يختصمون} على المعنى، لأن الفريقين جمع، فإن كان الفريقان من آمن ومن كفر، فالجمعية حاصلة في كل فريق، ويدل على أن فريق المؤمن جمع قوله: {إنا بالذي آمنتم به كافرون} فقال: آمنتم، وهو ضمير الجمع. وإن كان الفريق المؤمن هو صالح وحده، فإنه قد انضم إلى قومه، والمجموع جمع، وأوثر يختصمون على يختصمان، وإن كان من حيث التثنية جائزاً فصيحاً، لأنه مقطع فصل، واختصامهم دعوى كل فريق أن الحق معه، وقد ذكر الله تخاصمهم في سورة الأعراف. ثم تلطف صالح بقومه ورفق بهم في الخطاب فقال منادياً لهم على جهة التحنن عليهم: {لم تستعجلون بالسيئة}، أي بوقوع ما يسوؤكم قبل الحالة الحسنة، وهي رحمة الله. وكان قد قال لهم في حديث الناقة: {ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم} فقالوا له: {ائتنا بعذاب الله} وقيل: لم تستعجلون بوقوع المعاصي منكم قبل الطاعة؟ قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة؟ وإنما يكون ذلك إذا كانتا متوقعتين إحداهما قبل الأخرى؟ قلت: كانوا يقولون بجهلهم: إن العقوبة التي يعدنا صالح، إن وقعت على زعمه، تبنا حينئذ واستغفرنا، مقدرين أن التوبة مقبولة في ذلك الوقت، وإن لم تقع، فنحن على ما نحن عليه، فخاطبهم صالح عليه السلام على حسب قولهم واعتقادهم. انتهى. ثم حضهم على ما فيه درء السيئة عنهم، وهو الإيمان واستغفار الله مما سبق من الكفر، وناط ذلك يترجى الرحمة، ولم يجزم بأنه يترتب على استغفارهم. وكان في التحضيض تنبيه على الخطأ منهم في استعجال العقوبة، وتجهيل لهم في اعتقادهم. ولما لاطفهم في الخطاب أغلظوا له وقالوا: {اطيرنا بك وبمن معك}: أي تشاءمنا بك وبالذين آمنوا معك. ودل هذا العطف على أن الفريقين كانوا مؤمنين وكافرين لقوله: {وَبِمَن مَّعَكَ}، وكانوا قد قحطوا. وتقدم الكلام في معنى التطير في سورة الأعراف، جعلوا سبب قحطهم هو ذات صالح ومن آمن معه، فرد عليهم بقوله: {طائركم عند الله}: أي حظكم في الحقيقة من خير أو شر هو عند الله وبقضائه، إن شاء رزقكم، وإن شاء حرمكم. وقال الزمخشري: ويجوز أن يريد عملكم مكتوب عند الله، فمنه نزل بكم ما نزل عقوبة لكم وفتنة، ومنه طائركم معكم، وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه. وقرئ: تطيرنا بك على الأصل، ومعنى تطير به: تشاءم به، وتطير منه: نفر عنه. انتهى. ثم انتقل إلى الإخبار عنهم بحالهم فقال: {بل أنتم قوم تفتنون}، أي تختبرون، أو تعذبون، أو يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم الطيرة، أو تفتنون بشهواته: أي تشفعون بها، كما يقال: فتن فلان بفلان. وقال الشاعر: داء قديم في بني آدم *** فتنة إنسان بإنسان وهذه أقوال يحتملها لفظ تفتنون، وجاء تفتنون بتاء الخطاب على مراعاة أنتم، وهو الكثير في لسان العرب. ويجوز يفتنون بياء الغيبة على مراعاة لفظ قوم، وهو قليل. تقول العرب: أنت رجل تأمر بالمعروف، بتاء الخطاب وبياء الغيبة. والمدينة مجتمع ثمود وقريتهم، وهي الحجر. وذكر المفسرون أسماء التسعة، وفي بعضها اختلاف، ورأسهم: قدار بن سالف، وأسماؤهم لا تنضبط بشكل ولا تتعين، فلذلك ضربنا صفحاً عن ذكرها، وكانوا عظماء القرية وأغنياءها وفساقها. والرهط: من الثلاثة إلى العشرة، والنفر: من الثلاثة إلى التسعة، واتفق المفسرون على أن المعنى: تسعة رجال. وقال الزمخشري: إنما جاز تمييز التسعة بالرهط لأنه في معنى الجماعة، فكأنه قيل: تسعة أنفس. انتهى. وتقدير غيره: تسعة رجال هو الأولى، لأنه من حيث أضاف إلى أنفس كان ينبغي أن يقول: تسع أنفس، على تأنيث النفس، إذ الفصيح فيها التأنيث. ألا تراهم عدوا من الشذوذ قول الشاعر: ثلاثة أنفس وثلاث ذود *** فأدخل التاء في ثلاثة؛ وكان الفصيح أن يقول: ثلاث أنفس. وقال أبو عبد الله الرازي: الأقرب أن يكون المراد تسعة جمع، إذ الظاهر من الرهط الجماعة لا الواحد، ثم يحتمل أنهم كانوا قبائل، ويحتمل أنهم دخلوا تحت العدد، لاختلاف صفاتهم وأحوالهم، لا لاختلاف أجناسهم. انتهى. قيل: والرهط اسم الجماعة، وكأنهم كانوا رؤساء، مع كل واحد منهم رهط. وقال الكرماني: وأصله من الترهيط، وهو تعظيم اللقم وشدة الأكل. انتهى. ورهط: اسم جمع، واتفقوا على أن فصله بمن هو الفصيح كقوله تعالى: {فخذ أربعة من الطير} واختلفوا في جواز إضافة العدد إليه، فذهب الأخفش إلى أنه لا ينقاس، وما ورد من الإضافة إليه فهو على سبيل الندور. وقد صرح سيبويه أنه لا يقال: ثلاث غنم، وذهب قوم إلى أنه يجوز ذلك وينقاس، وهو مع ذلك قليل، وفصل قوم بين أن يكون اسم الجمع للقليل، كرهط ونفر وذود، فيجوز أن يضاف إليه، أو للتكثير، أو يستعمل لهما، فلا تجوز إضافته إليه، وهو قول المازني، وقد أطلنا الكلام في هذه المسألة في (شرح التسهيل). و {يفسدون}: صفة لتسعة رهط، والمعنى: أنهم يفسدون الفساد العظيم الذي لا يخالطه شيء من الإصلاح، فلذلك قال: {ولا يصلحون}، لأن بعض من يقع منه إفساد قد يقع منه إصلاح في بعض الأحيان. وقرأ الجمهور: تقاسموا، وابن أبي ليلى: تقسموا، بغير ألف وتشديد السين، وكلاهما من القسم والتقاسم والتقسيم، كالتظاهر والتظهير. والظاهر أن قوله {تقاسموا} فعل أمر محكي بالقول، وهو قول الجمهور، أشار بعضهم على بعض بالحلف على تبييت صالح. وأجاز الزمخشري وابن عطية أن يكون تقاسموا فعلاً ماضياً في موضع الحال، أي قالوا متقاسمين. قال الزمخشري: تقاسموا يحتمل أن يكون أمراً وخبراً على محل الحال بإضمار قد، أي قالوا: متقاسمين. انتهى. أما قوله: وخبراً، فلا يصح لأن الخبر هو أحد قسمي الكلام، إذ هو منقسم إلى الخبر والإنشاء، وجميع معانيه إذا حققت راجعة إلى هذين القسمين. وقال بعد ذلك وقرئ لنبيتنه بالياء والتاء والنون، فتقاسموا مع النون والتاء يصح فيه الوجهان، يعني فيه: أي في تقاسموا بالله، والوجهان هما الأمر والخبر عنده. قال: ومع الياء لا يصح إلا أن يكون خبراً. انتهى. والتقييد بالحال ليس إلا من باب نسبة التقييد، لا من نسبة الكلام التي هي الإسناد، فإذا أطلق عليها الخبر، كان ذلك على تقدير أنها لو لم تكن حالاً لجاز أن تستعمل خبراً، وكذلك قولهم في الجملة الواقعة قبله صلة أنها خبرية هو مجاز، والمعنى: أنها لو لم تكن صلة، لجاز أن تستعمل خبراً، وهذا شيء فيه غموض، ولا يحتاج إلى الإضمار، فقد كثر وقوع الماضي حالاً بغير قد كثرة ينبغي القياس عليها. وعلى هذا الإعراب، احتمل أن يكون {بالله} متعلقاً بتقاسموا الذي هو حال، فهو من صلته ليس داخلاً تحت القول. والمقول: {لنبيتنه} وما بعده احتمل أن يكون هو وما بعده هو المقول. وقرأ الجمهور: {لنبيتنه وأهله ثم لنقولن} بالنون فيهما، والحسن، وحمزة، والكسائي: بتاء خطاب الجمع؛ ومجاهد، وابن وثاب، وطلحة، والأعمش: بياء الغيبة، والفعلان مسندان للجمع؛ وحميد بن قيس: بياء الغيبة في الأول مسنداً للجمع، أي ليبيتنه، أي قوم منا، وبالنون في الثاني، أي جميعنا يقول لوليه، والبيات: مباغتة العدو. وعن الإسكندر أنه أشير عليه بالبيات فقال: ليس من عادة الملوك استراق الظفر، ووليه طالب ثأره إذا قتل. وقرأ الجمهور: مهلك، بضم الميم وفتح اللام من أهلك. وقرأ حفص: مهلك، بفتح الميم وكسر اللام، وأبو بكر: بفتحهما. فأما القراءة الأولى فتحتمل المصدر والزمان والمكان، أي ما شهدنا إهلاك أهله، أو زمان إهلاكهم، أو مكان إهلاكهم. ويلزم من هذين أنهم إذا لم يشهدوا الزمان ولا المكان أن لا يشهدوا الإهلاك. وأما القراءة الثانية فالقياس يقتضي أن يكون للزمان والمكان، أي ما شهدنا زمان هلاكهم ولا مكانة. والثالثة: تقتضي القياس أن يكون مصدراً، أي ما شهدنا هلاكه. وقال الزمخشري: وقد ذكروا القراءات الثلاث، قال: ويحتمل المصدر والزمان والمكان. انتهى. والظاهر في الكلام حذف معطوف يدل عليه ما قبله، والتقدير: ما شهدنا مهلك أهله ومهلكه، ودل عليه قولهم: {لنبيتنه وأهله}، وما روي أنهم كانوا عزموا على قتله وقتل أهله، وحذف مثل هذا المعطوف جائز في الفصيح، كقوله: سرابيل تقيكم الحر، أي والبرد، وقال الشاعر: فما كان بين الخير لو جاء سالماً *** أبو حجر إلا ليال قلائل أي بين الخير وبيني، ويكون قولهم: {وإنا لصادقون} كذباً في الإخبار، أوهموا قومهم أنهم إذا قتلوه وأهله سراً، ولم يشعر بهم أحد، وقالوا تلك المقالة، أنهم صادقون وهم كاذبون. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه؟ قلت: كأنهم اعتقدوا إذا بيتوا صالحاً وبيتوا أهله، فجمعوا بين البياتين، ثم قالوا: {ما شهدنا مهلك أهله}، فذكروا أحدهما كانوا صادقين، فإنهم فعلوا البياتين جميعاً لا أحدهما. وفي هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه، ولا يخطر ببالهم. ألا ترى أنهم قصدوا قتل نبي الله، ولم يروا لأنفسهم أن يكونوا كاذبين حتى سوّوا الصدق في أنفسهم حيلة ينقصون بها عن الكذب؟ انتهى. والعجب من هذا الرجل كيف يتخيل هذه الحيل في جعل إخبارهم {وإنا لصادقون} إخباراً بالصدق؟ وهو يعلم أنهم كذبوا صالحاً، وعقروا الناقة التي كانت من أعظم الآيات، وأقدموا على قتل نبي وأهله؟ ولا يجوز عليهم الكذب، وهو يتلو في كتاب الله كذبهم على أنبيائهم. ونص الله ذلك، وكذبهم على من لا تخفى عليه خافية، {يوم تبلى السرائر} وهو قولهم، {والله ربنا ما كنا مشركين} وقول الله تعالى: {أنظر كيف كذبوا على أنفسهم} وإنما هذا منه تحريف لكلام الله تعالى، حتى ينصر مذهبه في قوله: إن الكذب قبيح عند الكفرة، ويتحيل لهم هذا التحيل حتى يجعلهم صادقين في إخبارهم. وهذا الرجل، وإن كان أوتي من علم القرآن، أوفر حظ، وجمع بين اختراع المعنى وبراعة اللفظ. ففي كتابه في التفسير أشياء منتقدة، وكنت قريباً من تسطير هذه الأحرف قد نظمت قصيداً في شغل الإنسان نفسه بكتاب الله، واستطردت إلى مدح كتاب الزمخشري، فذكرت شيئاً من محاسنه، ثم نبهت على ما فيه مما يجب تجنبه، ورأيت إثبات ذلك هنا لينتفع بذلك من يقف على كتابي هذا ويتنبه على ما تضمنه من القبائح، فقلت بعد ذكر ما مدحته به: ولكنه فيه مجال لناقد *** وزلات سوء قد أخذن المخانقا فيثبت موضوع الأحاديث جاهلاً *** ويعزو إلى المعصوم ما ليس لائقا ويشتم أعلام الأئمة ضلة *** ولا سيما إن أولجوه المضايقا ويسهب في المعنى الوجيز دلالة *** بتكثير ألفاظ تسمى الشقاشقا يقول فيها الله ما ليس قائلاً *** وكان محباً في الخطابة وامقا ويخطئ في تركيبه لكلامه *** فليس لما قد ركبوه موافقا وينسب إبداء المعاني لنفسه *** ليوهم أغماراً وإن كان سارقا ويخطئ في فهم القرآن لأنه *** يجوز إعراباً أبى أن يطابقا وكم بين من يؤتى البيان سليقة *** وآخر عاناه فما هو لاحقا ويحتال للألفاظ حتى يديرها *** لمذهب سوء فيه أصبح مارقا فيا خسرة شيخاً تخرق صيته *** مغارب تخريق الصبا ومشارقا لئن لم تداركه من الله رحمة *** لسوف يرى للكافرين مرافقا ومكرهم: ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح وأهله. ومكر الله: إهلاكهم من حيث لا يشعرون، شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة، ومكرهم: أنهاهم أنهم مسافرون واختفاؤهم في غار. قيل: أو شعب، أو عزمهم على قتله وقتل أهله، وحلفهم أنهم ما حضروا ذلك. ومكر الله بهم: إطباق صخرة على فم الغار والشعب وإهلاكهم فيه، أو رمي الملائكة إياهم بالحجارة، يرونها ولا يرون الرامي حين شهروا أسيافهم بالليل ليقتلوه، قولان. وقيل: إن الله أخبر صالحاً بمكرهم فيخرج عنه، فذلك مكر الله في حقهم. وروي أن صالحاً، بعد عقر الناقة، أخبرهم بمجيء العذاب بعد ثلاثة أيام، فاتفق هؤلاء التسعة على قتل صالح وأهله ليلاً وقالوا: إن كان كاذباً في وعيده، كنا قد أوقعنا به ما يستحق؛ وإن كان صادقاً، كنا قد عجلناه قبلنا وشفينا نفوسنا. واختفوا في غار، وأهلكهم الله، كما تقدم ذكره، وأهلك قومهم، ولم يشعر كل فريق بهلاك الآخر. والظاهر أن كيف خبر كان، وعاقبة الاسم، والجملة في موضع نصب بأنظر، وهي معلقة، وقرأ الجمهور: إنا، بكسر الهمزة على الاستئناف. وقرأ الحسن، وابن أبي إسحاق، والكوفيون: بفتحها، فأنا بدل من عاقبة، أو خبر لكان، ويكون في موضع الحال، أو خبر مبتدأ محذوف، أي هي، أي العاقبة تدميرهم. أو يكون التقدير: لأنا وحذف حرف الجر. وعلى كلتا القراءتين يجوز أن يكون {كان} تامة و{عاقبة} فاعل بها، وأن تكون زائدة وعاقبة مبتدأ خبره {كيف}. وقرأ أبي: أن دمّرناهم، وهي أن التي من شأنها أن تنصب المضارع، ويجوز فيها الأوجه الجائزة في أنا، بفتح الهمزة. وحكى أبو البقاء: أن بعضهم أجاز في {أنا دمرناهم} في قراءة من فتح الهمزة أن تكون بدلاً من كيف، قال: وقال آخرون: لا يجوز، لأن البدل من الاستفهام يلزم فيه إعادة حرفه، كقوله: كيف زيد، أصحيح أم مريض؟ ولما أمر تعالى بالنظر فيما جرى لهم من الهلاك في أنفسهم، بين ذلك بالإشارة إلى منازلهم وكيف خلت منهم، وخراب البيوت وخلوها من أهلها، حتى لا يبقى منهم أحد مما يعاقب به الظلمة، إذ يدل ذلك على استئصالهم. وفي التوراة: ابن آدم لا تظلم يخرب بيتك، وهو إشارة إلى هلاك الظالم، إذ خراب بيته متعقب هلاكه، وهذه البيوت هي التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، عام تبوك: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين»، الحديث. وقرأ الجمهور: خاوية، بالنصب على الحال. قال الزمخشري: عمل فيها ما دل عليه تلك. وقرأ عيسى بن عمر: خاوية، بالرفع. قال الزمخشري: على خبر المبتدأ المحذوف، وقاله ابن عطية، أي هي خاوية، قال: أو على الخبر عن تلك، وبيوتهم بدل، أو على خبر ثان، وخاوية خبرية بسبب ظلمهم، وهو الكفر، وهو من خلو البطن. وقال ابن عباس: خاوية، أي ساقط أعلاها على أسفلها. {إن في ذلك}: أي في فعلنا بثمود، وهو استئصالنا لهم بالتدمير، وخلاء مساكنهم منهم، وبيوتهم هي بوادي القرى بين المدينة والشام. {وأنجينا الذين آمنوا}، أي بصالح من العذاب الذي حل بالكفار، وكان الذين آمنوا به أربعة آلاف، خرج بهم صالح إلى حضرموت، وسميت حضرموت لأن صالحاً عليه السلام لما دخلها مات بها، وبنى المؤمنون بها مدينة يقال لها: حاضورا. وأما الهالكون فخرج بأبدانهم خراج مثل الحمص، احمر في اليوم الأول، ثم اصفر في الثاني، ثم اسود في الثالث، وكان عقر الناقة يوم الأربعاء، وهلكوا يوم الأحد. قال مقاتل: تفتقت تلك الخراجات، وصاح جبريل عليه السلام بهم صيحة فخمدوا.
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)} {ولوطاً}: عطف على {صالحاً}، أي وأرسلنا لوطاً، أو على {الذين آمنوا}، أي وأنجينا لوطاً، أو باذكر مضمرة، وإذ بدل منه، أقوال. و{أتأتون}: استفهام إنكار وتوبيخ، وأبهم أولاً في قوله: {الفاحشة}، ثم عينها في قوله: {أئنكم لتأتون الرجال}، وقوله: {وأنتم تبصرون}: أي تعلمون قبح هذا الفعل المنكر الذي أحدثتموه، وأنه من أعظم الخطايا، والعلم بقبح الشيء مع إتيانه أعظم في الذنب، أو آثار العصاة قبلكم، أو ينظر بعضكم إلى بعض لا يستتر ولا يتحاشى من إظهار ذلك مجانة وعدم اكتراث بالمعصية الشنعاء، أقوال ثلاثة. وانتصب {شهوة} على أنه مفعول من أجله، و{تجهلون} غلب فيه الخطاب، كما غلب في {بل أنتم قوم تفتنون}. ومعنى: {تجهلون}، أي عاقبة ما أنتم عليه، أو تفعلون فعل السفهاء المجان، أو فعل من جهل أنها معصية عظيمة مع العلم أقوال. ولما أنكر عليهم ونسب إلى الجهل، ولم تكن لهم حجة فيما يأتونه من الفاحشة، عدلوا إلى المغالبة والإيذاء، وتقدم معنى يتطهرون في الأعراف. وقرأ الجمهور: {جواب} بالنصب؛ والحسن، وابن أبي إسحاق: بالرفع، والجمهور: {قدرناها}، بتشديد الدال؛ وأبو بكر بتخفيفها، وباقي الآية تقدم تفسير نظيره في الأعراف. وساء: بمعنى بئس، والمخصوص بالذم محذوف، أي مطرهم.
|