الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)} طمس: متعد ولازم. تقول: طمس المطر الأعلام أي محا آثارها، وطمست الأعلام درست، وطمس الطريق درس وعفت أعلامه قاله: أبو زيد. ومن المتعدّي: {وإذا النجوم طمست} أي استؤصلت. وقال ابن عرفة في قوله: اطمس على أموالهم أي أذهبها كلية، وأعمى مطموس أي: مسدود العينين. وقال كعب: من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت *** عرضتها طامس الأعلام مجهول والطمس والطسم والطلس والدرس كلها متقاربة في المعنى. الفتيل: فعيل بمعنى مفعول. فقيل: هو الخيط الذي في شق نواة التمرة. وقيل: ما خرج من الوسخ من بين كفيك وأصبعيك إذا فتلتهما. الجبت: اسم لصنم ثم صار مستعملاً لكل باطل، ولذلك اختلفت فيه أقاويل المفسرين على ما سيأتي. وقال قطرب: الجبت الجبس، وهو الذي لا خير عنده، قلبت السين تاء. قيل: وإنما قال هذا لأن الجبت مهمل. النقير: النقطة التي على ظهر النواة منها تنبت النخلة قاله: ابن عباس. وقال الضحاك: هو البياض الذي في وسطها. النضج: أخذ الشيء في التهري وتفرق أجزائه، ومنه نضج اللحم، ونضج الثمرة. يقال: نضج الشيء ينضج نضجاً ونضاجاً. الجلد معروف. {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبار اليهود منهم عبد الله بن صوريا إلى الإسلام وقال لهم: «إنكم لتعلمون أن الذي جئت به حق» فقالوا: ما نعرف ذلك، فنزلت. قاله ابن عباس. ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما رجاهم بقوله: {ولو أنهم قالوا} الآية. خاطب من يرجى إيمانه منهم بالأمر بالإيمان، وقرن بالوعيد البالغ على تركه ليكون أدعى لهم إلى الإيمان والتصديق به، ثم أزال خوفهم من سوء الكبائر السابقة بقوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} الآية. وأعلمهم أن تزكيتهم أنفسهم بما لم يزكهم به الله لا ينفع. والذين أوتوا الكتاب هنا اليهود، والكتاب التوراة قاله: الجمهور، أو اليهود والنصارى قاله: الماوردي وابن عطية. والكتاب التوراة والإنجيل، وبما نزلنا هو القرآن بلا خلاف، ولما معكم من شرع وملة لا لما معهم من مبدل ومغير من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدباها. قرأ الجمهور: نطمس بكسر الميم. وقرأ أبو رجاء: بضمها. وهما لغتان، والظاهر أن يراد بالوجوه مدلولها الحقيقي، وأما طمسها فقال ابن عباس وعطية العوفي: هو أن تزال العينان خاصة منها وترد في القفا، فيكون ذلك رداً على الدبر ويمشي القهقرى. وعلى هذا يكون ذلك على حذف مضاف أي: من قبل أن نطمس عيون وجوه، ولا يراد بذلك مطلق وجوه، بل المعنى وجوهكم. وقالت طائفة: طمس الوجوه أن يعفى آثار الحواس منها فترجع كسائر الأعضاء في الخلو من آثار الحواس منها، والرد على الإدبار هو بالمعنى أي: خلوه من الحواس. دثر الوجه لكونه عابراً بها، وحسن هذا القول الزمخشري وجوزه وأوضحه، فقال: إن نطمس وجوهاً أي نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم، فنردها على أدبارها، فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الإقفاء مطموسة مثلها. والفاء للتسبيب، وإن جعلتها للتعقيب على أنهم توعدوا بالعقابين أحدهما عقيب الآخر ردها على أدبارها بعد طمسها، فالمعنى: أن نطمس وجوهاً فننكسها الوجوه إلى خلف، والإقفاء إلى قدام انتهى. والطمس بمعنى المحو الذي ذكره مروي عن ابن عباس، واختاره القتبي. وقال قتادة والضحاك: معناه نعمي أعينها. وذكر الوجوه وأراد العيون، لأن الطمس من نعوت العين. قال تعالى: {فطمسنا أعينهم} ويروى هذا أيضاً عن ابن عباس. وقال الفراء: طمس الوجوه جعلها منابت للشعر كوجوه القردة. وقيل: ردها إلى صورة بشيعة كوجوه الخنازير والقردة. وقال مجاهد والسدّي والحسن. ذلك تجوز، والمراد وجوه الهدى والرشد، وطمسها حتم الإضلال والصد عنها، والرد على الإدبار التصيير إلى الكفر. وقال ابن زيد: الوجوه هي أوطانهم وسكناهم في بلادهم التي خرجوا إليها، وطمسها إخراجهم منها. والرد على الإدبار رجوعهم إلى الشام من حيث أتوا أولاً. وحسّن الزمخشري هذا القول، فقال: ووجه آخر وهو أن يراد بالطمس القلب والتغيير، كما طمس أموال القبط فقلبها حجارة، وبالوجوه رؤوسهم ووجهاؤهم أي: من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم، وتكسوها صغارهم وأدبارهم، أو نردهم إلى حيث جاؤا منه. وهي أذرعات الشام، يريد إجلاء بني النضير انتهى. {أو نلعنهم} هو معطوف على قوله: أن نطمس. وظاهر اللعنة هو المتعارف كما في قوله: {من لعنه الله وغضب عليه} وقال الحسن: معناه نمسخهم كما مسخنا أصحاب السبت. وقال ابن عطية: هم أصحاب ايلة الذين اعتدوا في السبت بالصيد، وكانت لعنتهم إن مسخوا خنازير وقردة. وقيل: معناه نهيمهم في التيه حتى يموت أكثرهم. وظاهر قوله: من قبل أن نطمس أو نلعن، أنَّ ذلك يكون في الدنيا. ولذلك روي أنَّ عبد الله بن سلام لما سمع هذه الآية جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله ويده على وجهه فأسلم وقال: يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يحول وجهي في قفاي. وقال مالك: كان إسلام كعب الأحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية، فوضع كفه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته فأسلم مكانه، وقال: والله لقد خفت أن لا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي. وقيل: الطمس المسخ لليهود قبل يوم القيامة ولا بد. وقيل: المراد أنه يحل بهم في القيامة، فيكون ذلك أنكى لهم لفضيحتهم بين الأوّلين والآخرين، ويكون ذلك أول ما عجل لهم من العذاب. وهذا إذا حمل طمس الوجوه على الحقيقة، وإمّا إن أريد بذلك تغيير أحوال وجهائهم أو وجوه الهدى والرشد، فقد وقع ذلك. وإن كان الطمس غير ذلك فقد حصل اللعن، فإ نهم ملعونون بكل لسان. وتعليق الإيمان بقبلية أحد أمرين لا يلزم منه وقوعهما، بل متى وقع أحدهما صح التعليق، ولا يلزم من ذلك تعيين أحدهما. وقيل: الوعيد مشروط بالإيمان، وقد آمن منهم ناس. ومن قبل: متعلق بآمنوا، وعلى أدبارها متعلق بفنردها. وقال أبو البقاء: على أدبارها حال من ضمير الوجوه، والضمير المنصوب في نلعنهم. قيل: عائد على الوجوه إن أريد به الوجهاء، أو عائد على أصحاب الوجوه، لأن المعنى: من قبل أن نطمس وجوه قوم، أو على الذين أوتوا الكتاب على طريق الالتفات، وهذا عندي أحسن. ومحسن هذا الالتفات هو أنه تعالى لما ناداهم كان ذلك تشريفاً لهم، وهز السماع ما يلقيه إليهم، ثم ألقى إليهم الأمر بالإيمان بما نزل، ثم ذكر أنّ الذي نزل هو مصدق لما معهم من كتاب، فكان ذلك أدعى إلى الإيمان، ثم ذكر هذا الوعيد البالغ فحذف المضاف إليه من قوله: من قبل أن نطمس وجوهاً والمعنى: وجوهكم، ثم عطف عليه قوله: أو نلعنهم، فأتى بضمير الغيبة، لأن الخطاب حين كان الوعيد بطمس الوجوه وباللعنة ليس لهم ليبقى التأنيس والهم والاستدعاء إلى الإيمان غير مشوب بمفاجأة الخطاب الذي يوحش السامع ويروع القلب ويصير أدعى إلى عدم القبول، وهذا من جليل المخاطبة. وبديع المحاورة. {وكان أمر الله مفعولاً} الأمر هنا واحد الأمور، واكتفى به لأنه دال على الجنس، وهو عبارة عن المخلوقات: كالعذاب، واللعنة، والمغفرة. وقيل: المراد به المأمور، مصدر وقع موقع المفعول، والمعنى: الذي أراده أوجده. وقيل: معناه أنَّ كل أمر أخر تكوينه فهو كائن لا محالة والمعنى: أنه تعالى لا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله. وقال: وكان إخباراً عن جريان عادة الله في تهديده الأمم السالفة، وأنَّ ذلك واقع لا محالة، فاحترزوا وكونوا على حذر من هذا الوعيد. ولذلك قال الزمخشري: ولا بد أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا يعني: الطمس واللعنة. {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} قال ابن الكلبي: نزلت في وحشي وأصحابه، وكان جعل له على قتل حمزة رضي الله عنه أن يعتق، فلم يوف له، فقدم مكة وندم على الذي صنعه هو وأصحابه، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قد ندمنا على ما صنعنا، وليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك تقول بمكة: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} الآيات وقد دعونا مع الله إلهاً آخر، وقتلنا النفس التي حرم الله، وزنينا، فلولا هذه الآيات لاتبعناك، فنزلت: {إلا من تاب وآمن وعمل} الآيات، فبعث بها إليهم فكتبوا: إنَّ هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملاً صالحاً، فنزلت إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية، فبعث بها إليهم، فبعثوا إنا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته، فنزلت: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} الآيات فبعث بها إليهم، فدخلوا في الإسلام، فقبل منهم ثم قال لوحشي: «أخبرني كيف قتلت حمزة؟» فلما أخبره قال: «ويحك غيِّب عني وجهك» فلحق وحشي بالشام إلى أن مات. وأجمع المسلمون على تخليد من مات كافراً في النار، وعلى تخليد من مات مؤمناً لم يذنب قط في الجنة. فأما تائب مات على توبته فالجمهور: على أنه لاحق بالمؤمن الذي لم يذنب، وطريقة بعض المتكلمين أنه في المشيئة. وأما مذنب مات قبل توبته فالخوارج تقول: هو مخلد في النار سواء كان صاحب كبيرة أم صاحب صغيرة. والمرجئة تقول: هو في الجنة بإيمانه ولا تضره سيئاته. والمعتزلة تقول: إن كان صاحب كبيرة خلد في النار. وأما أهل السنة فيقولون: هو في المشيئة، فإن شاء غفر له وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء عذبه وأخرجه من النار وأدخله الجنة بعد مخلداً فيها. وسبب هذا الاختلاف تعارض عمومات آيات الوعيد وآيات الوعد، فالخوارج جعلوا آيات الوعيد عامة في العصاة كافرين ومؤمنين غير تائبين. وآيات الوعد مخصوصة في المؤمن الذي لم يذنب قط، أو المذنب التائب. والمرجئة جعلوا آيات الوعيد مخصوصة في الكفار، وآيات الوعد مخصوصة في المؤمن تقيهم وعاصيهم. وأهل السنة خصصوا آيات الوعيد بالكفرة، وبمن سبق في علمه أنه يعذبه من المؤمنين العصاة، وخصصوا آيات الوعد بالمؤمن الذي لم يذنب، وبالتائب، وبمن سبق في علمه العفو عنه من المؤمنين العصاة. والمعتزلة خصصوا آيات الوعد بالمؤمن الذي لم يذنب، وبالتائب. وآيات الوعيد بالكافر وذي الكبيرة الذي لم يتب. وهذه الآية هي الحاكمة بالنص في موضع النزاع، وهي جلت الشك، وردّت على هذه الطوائف الثلاث. فقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به}، والمعنى: أنَّ من مات مشركاً لا يغفر له، هو أصل مجمع عليه من الطوائف الأربع. وقوله: ويغفر ما دون ذلك، راد على الخوارج وعلى المعتزلة، لأن ما دون ذلك عام تدخل فيه الكبائر والصغائر. وقوله: لمن يشاء رادّ على المرجئة، إذ مدلوله أنَّ غفران ما دون الشرك إنما هو لقوم دون قوم على ما شاء تعالى، بخلاف ما زعموه بأن كل مؤمن مغفور له. وأدلة هؤلاء الطوائف مذكورة في علم أصول الدين. وقد رامت المعتزلة والمرجئة ردّ هذه الآية إلى مقالاتهما بتأويلات لا تصح، وهي منافية لما دلت عليه الآية. قال الزمخشري: (فإن قلت): قد ثبت أن الله عزّ وعلا يغفر الشرك لمن تاب منه، وأنه لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة، فما وجه قوله: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء؟ (قلت): الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعاً موجهين إلى قوله: لمن يشاء كأنه قيل: إنّ الله لا يغفر لمن يشاء الشرك، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك. على أن المراد بالأول مَن لم يتب، وبالثاني مَن تاب. ونظيره قولك: إنّ الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يستأهله انتهى كلامه. فتأول الآية على مذهبه. وقوله: قد ثبت أن الله عز وعلا يغفر الشرك لمن تاب عنه، هذا مجمع عليه. وقوله: وإنه لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة. فنقول له: وأين ثبت هذا؟ وإنما يستدلون بعمومات تحتمل التخصيص، كاستدلالهم بقوله: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً} الآية، وقد خصصها ابن عباس بالمستحل ذلك وهو كافر. وقوله: قال: فجزاؤه إن جازاه الله. وقال: الخلود يراد به المكث الطويل لا الديمومة لا إلى نهاية، وكلام العرب شاهد بذلك. وقوله: إن الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعاً موجهين إلى قوله: لمن يشاء، إن عنى أنّ الجار يتعلق بالفعلين، فلا يصح ذلك. وإن عنى أن يقيد الأول بالمشيئة كما قيد الثاني فهو تأويل. والذي يفهم من كلامه أنّ الضمير الفاعل في قوله: يشاء عائد على مِنْ، لا على الله. لأن المعنى عنده: أنّ الله لا يغفر الشرك لمن يشاء أن لا يغفر له بكونه مات على الشرك غير تائب منه، ويغفر ما دون الشرك من الكبائر لمن يشاء أن يغفر له بكونه تاب منها. والذي يدل عليه ظاهر الكلام أنه لا قيد في الفعل الأول بالمشيئة، وإن كانت جميع الكائنات متوقفاً وجودها على مشيئته على مذهبنا. وأنّ الفاعل في يشاء هو عائد على الله تعالى، لا على من، والمعنى: ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء أن يغفر له. وفي قوله تعالى: لمن يشاء، ترجئة عظيمة بكون من مات على ذنب غير الشرك لانقطع عليه بالعذاب، وإن مات مصرّاً. قال عبد الله بن عمر: كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات الرجل على كبيرة شهدنا له أنه من أهل النار، حتى نزلت هذه الآية، فأمسكنا عن الشهادات. وفي حديث عبادة بن الصامت في آخره «ومن أصاب شيئاً من ذلك أي من المعاصي التي تقدّم ذكرها فستره عليه، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه» أخرجه مسلم. ويروى عن علي وغيره من الصحابة: ما في القرآن آية أحب إلينا من هذه الآية. وفي هذه الآية دليل على أن اليهودي يسمى مشركاً في عرف الشرع، وإلا كان مغايراً للمشرك، فوجب أن يكون مغفوراً له. ولأن اتصال هذه الآية بما قبلها إنما كان لأنها تتضمن تهديد اليهود، فاليهود داخلة تحت اسم الشرك. فأما قوله: {إن الذين آمنوا والذين هادوا} ثم قال: {والذين أشركوا} وقوله: {ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين} {ولم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} فالمغايرة وقعت بحسب المفهوم اللغوي، والاتحاد بحسب المفهوم الشرعي. وقد قال الزجاج: كل كافر مشرك، لأنه إذا كفر مثلاً بنبي زعم أنّ هذه الآيات التي أتى بها ليست من عند الله، فيجعل ما لا يكون إلا لله لغير الله، فيصير مشركاً بهذا المعنى. فعلى هذا يكون التقدير: إنّ الله لا يغفر كفر من كفر به، أو بنبي من أنبيائه. والمراد: إذ ألقى الله بذلك، لأن الإيمان يزيل عنه إطلاق الوصف بما تقدمه من الكفر بإجماع، ولقوله عليه السلام: «الإسلام يجبّ ما قبله» {ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً} أي اختلق وافتعل ما لا يمكن. «وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟ قال:» أن تجعل الله نداً وقد خلقك « {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم} قال الجمهور: هم اليهود. وقال الحسن وابن زيد: هم النصارى. قال ابن مسعود: يزكي بعضهم بعضاً لتقبل عليهم الملوك وسفلتهم، ويواصلوهم بالرشا. وقال عطية عن ابن عباس: قالوا آباؤنا الذين ماتوا يزكوننا عند الله ويشفعون لنا. وقال الضحاك والسدي في آخرين: أتى مرحب بن زيد وبحري بن عمرو وجماعة من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعهم أطفالهم فقالوا: هل على هؤلاء من ذنب؟ فقال: لا. فقالوا: نحن كهم ما أذنبنا بالليل يكفر عنا بالنهار، وما أذنبنا بالنهار يكفر عنا بالليل فنزلت. وقيل: هو قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه. وعلى القول بأنهم اليهود والنصارى فتزكيتهم أنفسهم. قال عكرمة، ومجاهد، وأبو مالك: كانوا يقدمون الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم فيصلون بهم ويقولون: ليست لهم ذنوب، فإذا صلى بنا المغفور له غفر لنا. وقال قتادة والحسن: هو قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه {لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى} {كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا} وفي الآية دلالة على الغض ممن يزكي نفسه بلسانه ويصفها بزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله. وقوله صلى الله عليه وسلم:» والله إني لأمين في السماء، أمين في الأرض «حين قال له المنافقون: إعدل في القسمة، أكذاب لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه، وشتان من شهد الله له بالتزكية، ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم. قاله الزمخشري وفيه بعض تلخيص. قال الراغب ما ملخصه: التزكية ضربان: بالفعل، وهو أن يتحرى فعل ما يظهره وبالقول، وهو الإخبار عنه بذلك ومدحه به. وحظر أن يزكي الإنسان نفسه، بل أن يزكي غيره، إلا على وجه مخصوص. فالتزكية إخبار بما ينطوي عليه الإنسان، ولا يعلم ذلك إلا الله تعالى. {بل الله يزكي من يشاء}: بل إضراب عن تزكيتهم أنفسهم، إذ ليسوا أهلاً لذلك. واعلم أنّ المزكي هو الله تعالى، وأنه تعالى هو المعتد بتزكيته، إذ هو العالم ببواطن الأشياء والمطلع على خفياتها. ومعنى يزكي من يشاء أي: من يشاء تزكيته بأن جعله طاهراً مطهراً، فذلك هو الذي يصفه الله تعالى بأنه مزكي. {ولا يظلمون فتيلاً} إشارة إلى أقلّ شيء كقوله: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} فإذا كان تعالى لا يظلم مقدار فتيل، فكيف يظلم ما هو أكبر منه؟ وجوزوا أن يعود الضمير في: ولا يظلمون، إلى الذين يزكون أنفسهم، وأن يعود إلى من على المعنى، إذ لو عاد على اللفظ لكان: ولا يظلم وهو أظهر، لأنه أقرب مذكور، ولقطع بل ما بعدها عن ما قبلها. وقيل: يعود على المذكورين من زكى نفسه، ومن يزكيه الله. ولم يذكر ابن عطية غير هذا القول. وقال الزمخشري: ولا يظلمون أي، الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم حق جزائهم، أو من يشاء يثابون ولا ينقصون من ثوابهم ونحوه، فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى انتهى. وقرأ الجمهور: ألم تر بفتح الراء. وقرأ السلمي: بسكونها إجراء للوصل مجرى الوقف. وقيل: هي لغة قوم لا يكتفون بالجزم بحذف لام الفعل، بل يسكنون بعده عين الفعل. وقرأ الجمهور: ولا يظلمون بالياء. وقرأت طائفة: ولا تظلمون بتاء الخطاب، وانتصاب فتيلاً. قال ابن عطية: على أنه مفعول ثان، ويعني على تضمين تظلمون معنى ما يتعدى لاثنين، والمعنى: مقدار فتيل، وهو كناية عن أحقر شيء، وإلى أنه الخيط الذي في شق النواة ذهب ابن عباس وعطاء ومجاهد، وإلى أنه ما يخرج من بين الأصابع أو الكفين بالفتل ذهب ابن عباس أيضاً. وأبو مالك والسدي، وإلى أنه نفس الشق ذهب الحسن. {انظر كيف يفترون على الله الكذب} هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. ولمّا خاطبه أولاً بقوله: {ألم تر} أي ألا تعجب لهؤلاء الذين يزكون أنفسهم؟ خاطبه ثانياً بالنظر في كيفية افترائهم الكذب على الله، وأتى بصيغة يفترون الدالة على الملابسة والديمومة، ولم يخص الكذب في تزكيتهم أنفسهم، بل عمم في ذلك وفي غيره. وأي ذنب أعظم ممن يفتري على الله الكذب {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً} فمن أظلم ممن كذب على الله. وكيف: سؤال عن حال، وانتصابه على الحال، والعامل فيه يفترون، والجملة في موضع نصب بانظر، لأن انظر معلقة. وقال ابن عطية: وكيف يصح أن يكون في موضع نصب بيفترون؟ ويصح أن يكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر في قوله: يفترون انتهى. أما قوله: يصح أن يكون في موضع نصب بيفترون فصحيح على ما قررناه، وأما قوله ويصح أن يكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر في قوله يفترون، فهذا لم يذهب إليه أحد، لأنّ كيف ليست من الأسماء التي يجوز الابتداء بها، وإنما قوله: كيف يفترون على الله الكذب في التركيب نظير كيف يضرب زيد عمراً، ولو كانت مما يجوز الابتداء بها ما جاز أن يكون مبتدأ في هذا التركيب، لأنه ذكر أنّ الخبر هي الجملة من قوله: يفترون، وليس فيها رابط يربط هذه الجملة بالمبتدأ، وليست الجملة نفس المبتدأ في المعنى، فلا يحتاج إلى رابط. فهذا الذي قال فيه: ويصح، هو فاسد على كل تقدير. {وكفى به إثماً مبيناً} تقدّم الكلام في نظير وكفى به. والضمير في به، عائد على الافتراء، وهو الذي أنكر عليهم. وقيل: على الكذب. وقال الزمخشري: وكفى بزعمهم لأنه قال: {كيف يفترون على الله الكذب} في زعمهم أنهم عند الله أزكياء، وكفى بزعمهم هذا اثماً مبيناً من بين سائر آثامهم انتهى. فجعل افتراءهم الكذب مخصوصاً بالتزكية، وذكرنا نحن أنَّه في هذا وفي غيره، وانتصاب إثماً على التمييز، ومعنى مبيناً أي: بيناً واضحاً لكل أحد. وقال ابن عطية: وكفى به خبر في ضمنه تعجب وتعجيب من الأمر، ولذلك دخلت الباء لتدل على معنى الأمر بالتعجب أن يكتفي لهم بهذا الكذب إثماً، ولا يطلب لهم غيره، إذ هو موبق ومهلك انتهى. وفي ما ذكر من أن الباء دخلت لتدل على معنى الأمر بالتعجب نظر، وقد أمعنا الكلام في قوله. {وكفى بالله ولياً} فيطالع هناك. {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت} أجمعوا أنَّها في اليهود. وسبب نزولها أنَّ كعب بن الأشرف وحيى بن أخطب وجماعة معهما وردوا مكة يحالفون قريشاً على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أنتم أهل كتاب، وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا فلاناً من مكركم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم، ففعلوا. وقال أبو سفيان: أنحن أهدى سبيلاً أم محمد؟ فقال كعب: ماذا يقول محمد؟ قالوا: يأمر بعبادة الله وحده، وينهى عن الشرك. قال: وما دينكم؟ قالوا: نحن ولاة البيت نسقي الحاج، ونقري الضيف، ونفك العانى، وذكروا أفعالهم. فقال: أنتم أهدى سبيلاً. وفي بعض ألفاظ هذا السبب خلاف قاله ابن عباس. وقال عكرمة، خرج كعب في سبعين راكباً من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد، والكتاب هنا التوراة على قول الجمهور، ويحتمل أن يكون التوراة والإنجيل. والجبت والطاغوت صنمان كانا لقريش قاله: عكرمة وغيره. أو الجبت هنا حيي، والطاغوت كعب، قاله: ابن عباس أيضاً. أو الجبت السحر، والطاغوت الشيطان، قاله: مجاهد، والشعبي وروى عن عمر والجبت الساحر، والطاغوت الشيطان قاله: زيد بن أسلم. أو الجبت الساحر، والطاغوت الكاهن، قاله: رفيع وابن جبير. أو الجبت الكاهن، والطاغوت الشيطان، قاله: ابن جبير أيضاً. أو الجبت الكاهن، والطاغوت الساحر، قاله: ابن سيرين. أو الجبت الشيطان، والطاغوت الكاهن قاله: قتادة. أو الجبت كعب، والطاغوت الشيطان كان في صورة انسان، أو الجبت الأصنام وكل ما عبد من دون الله، والطاغوت الشيطان قاله: الزمخشري. أو الجبت والطاغوت كل معبود من دون الله من حجر، أو صورة، أو شيطان قاله: الزجاج، وابن قتيبة. وأورد بعض المفسرين الخلاف مفرقاً فقال: الجبت السحر قاله: عمر، ومجاهد، والشعبي. أو الأصنام رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، والفراء، أو كعب بن الأشرف. رواه الضحاك، عن ابن عباس. وليث، عن مجاهد. أو الكاهن روى عن ابن عباس، وبه قال: مكحول، وابن سيرين. أو الشيطان قاله: ابن جبير في رواية، وقتادة والسدي أو الساحر قاله: أبو العالية وابن زيد. وروى أبو بشر عن ابن جبير قال: الجبت الساحر بلسان الحبشة، وأما الطاغوت فالشيطان قاله: عمر، ومجاهد في رواية الشعبي وابن زيد. أو المترجمون بين يدى الأصنام رواه العوفي عن ابن عباس، أو كعب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال: الضحاك، والفرّاء. أو الكاهن قاله عكرمة أو الساحر، روي عن ابن عباس، وابن سيرين، ومكحول، أو كل ما عبد من دون الله قاله: مالك. وقال قوم: الجبت والطاغوت مترادفان على معنى واحد، والجمهور وأقوال المفسرين على خلاف ذلك، وأنهما اثنان. وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام على المغيبات جبتاً لكون علم الغيب يختص بالله تعالى. خرج أبو داود في سننه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الطرق والطيرة والعيافة من الجبت» الطرق الزجر، والعيافة الخط. فان الجبت والطاغوت الأصنام أو ما عبد من دون الله، فالإيمان بهما التصديق بأنهما آلهة يشركونهما في العبادة مع الله، وان كان حيياً، وكعباً، أو جماعة من اليهود، أو الساحر، أو الكاهن، أو الشيطان، فالإيمان بهم عبارة عن طاعتهم وموافقتهم على ما هم عليه، ويكون من باب اطلاق ثمرة الإيمان وهي الطاعة على الإيمان. {ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً} الضمير في يقولون عائد على الذين أوتوا. وفي سبب النزول ان كعباً هو قائل هذه المقالة، والجملة من يؤمنون حال، ويقولون معطوف على يؤمنون فهي حال. ويحتمل أنْ يكون استئناف أخبار تبين التعجب منهم كأنه قال: ألا تعجب إلى حال الذين أوتوا نصيباً، فكأنه قيل: وما حالهم وهم قد أوتوا نصيباً من كتاب الله؟ فقال: يؤمنون بكذا، يقولون كذا. أي: أن أحوالهم متنافية. فكونهم أوتوا نصيباً من الكتاب يقتضي لهم أن لا يقعوا فيما وقعوا فيه، ولكن الحامل لهم على ذلك هو الحسد. واللام في للذين كفروا للتبليغ متعلقة بيقولون. والذين كفروا هم قريش، والإشارة بهؤلاء إليهم، والذين آمنوا هم النبي وأمته. والظاهر أنهم أطلقوا أفعل التفضيل ولم يلحظوا معنى التشريك فيه، أو قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء لكفرهم. {أولئك الذين لعنهم الله} اشارة إلى مَنْ آمن بالجبت والطاغوت وقال تلك المقالة، أبعدهم الله تعالى ومقتهم. {ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً} أي من ينصره ويمنعه من آثار اللعنة وهو العذاب العظيم. {أم لهم نصيب من الملك} أم هنا منقطعة التقدير: بل ألهم نصيب من الملك انتقل من الكلام إلى كلام تام، واستفهم على الانكار أن يكون لهم نصيب من الملك. وحكى ابن قتيبة أنَّ أم يستفهم بها ابتداء. وقال بعض المفسرين. أم هنا بمعنى بل، وفسروا على سبيل الاخبار أنهم ملوك أهل الدنيا وعتو وتنعم لا يبغون غير ذلك، فهم بخلاء حريصون على أن لا يكون ظهور لغيرهم. والمعنى على القول الأوّل: ألهم نصيب من الملك؟ فلو كان لهم نصيب من الملك لبخلوا به. والملك ملك أهل الدنيا، وهو الظاهر. أو ملك الله لقوله: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الانفاق} وقيل: المال، لأنه به ينال الملك وهو أساسه. وقيل: استحقاق الطاعة. وقيل: النبوة. وقيل: صدق الفراسة ذكره الماوردي. والأفصح إلغاء اذن بعد حرف العطف الواو والفاء، وعليه أكثر القرّاء. وقرأ عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس: لا يؤنوا بحذف النون على إعمال اذن. والناس هنا العرب، أو المؤمنون، أو النبي، أو من اليهود وغيرهم أقوال. والنقير: النقطة في ظهر النواة رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، والسدى، ومقاتل، والفراء، وابن قتيبة في آخرين. وقيل: القشر يكون في وسط النواة، رواه التميمي عن ابن عباس. أو الخيط في وسط النواة، روى عن مجاهد، أو نقر الرجل الشيء بطرف إبهامه رواه أبو العالية عن ابن عباس. أو حبة النواة التي في وسطها رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. وقال الأزهري: الفتيل والنقير، والقطمير، يضرب مثلاً للشيء التافه الحقير، وخصت الأشياء الحقيرة بقوله: «فتيلاً» في قوله: {ولا يظلمون فتيلا} وهنا بقوله نقيراً الوفاق النظير من الفواصل. {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} أم أيضاً منقطعة فتقدّر ببل. والهمزة فبل: للانتقال من كلام إلى كلام، والهمزة للاستفهام الذي يصحبه الانكار. أنكر عليهم أولاً البخل، ثم ثانياً الحسد. فالبخل منع وصول خير من الإنسان إلى غيره، والحسد تمنّي زوال ما أعطى الله الانسان من الخير وايتاؤه له. نعى الله تعالى عليهم تحليهم بهاتين الخصلتين الذميمتين، ولمّا كان الحسد شر الخصلتين ترقى إلى ذكره بعد ذكر البخل. والناس هنا النبي صلى الله عليه وسلم، والفضل النبوة، قاله: ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والسدي، والضحاك، ومقاتل. وقال ابن عباس، والسدي أيضاً: والفضل ما أبيح له من النساء. وسبب نزول الآية عندهم أنّ اليهود قالت لكفار العرب: انظروا إلى هذا الذي يقول أنه بعث بالتواضع، وأنه لا يملأ بطنه طعاماً، ليس همه إلا في النساء ونحو هذا، فنزلت. والمعنى: لم تخصونه بالحسد، ولا تحسدون آل إبراهيم يعني: سليمان وداود في أنهما أعطيا النبوة والكتاب، وأعطيا مع ذلك ملكاً عظيماً في أمر النساء، وهو ما روي أنه كان لسليمان سبعمائة امرأة وثلاثمائة سرية، ولداود مائة امرأة. فالملك في هذه القول إباحة النساء، كأنه المقصود أولاً بالذكر. وقال قتادة: الناس هنا العرب حسدتها بنو إسرائيل ان كان الرسول منها، والفضل هنا الرسول. والمعنى: لم يحسدون العرب على هذا النبي وقد أوتي أسلافهم أنبياء. وكتبا كالتوراة والزبور، وحكمة وهي الفهم في الدين ما لم ينص عليه الكتاب؟ وروى عن ابن عباس أنه قال: نحن الناس يريد قريشاً. {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً} أي ملك سليمان قاله: ابن عباس. وقال مجاهد: هو النبوّة. وقال همام بن الحرث وأبو مسلمة وابن زيد هو التأييد بالملائكة. وقيل: الناس هنا الرسول، وأبو بكر، وعمر. والكتاب: التوراة والإنجيل أو هما، والزبور أقوال، والحكمة النبوّة قاله: السدي ومقاتل. أو الفقه في الدين قاله أبو سليمان الدمشقي. وقيل: الملك العظيم هو الجمع بين سياسة الدنيا وشرع الدين ذكره الماوردي. وقال الزمخشري: أم يحسدونهم على ما آتاهم الله من فضله النصرة والغلبة وازدياد العز والتقدم كل يوم، فقد آتينا الزام لهم بما عرفوه من ايتاء الله الكتاب والحكمة آل إبراهيم الذين أسلاف محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس ببدع أن يؤتيه الله مثل ما أوتي أسلافه. وعن ابن عباس: الملك في آل إبراهيم ملك يوسف، وداود، وسليمان، انتهى كلامه. وهو كلام حسن. {فمنهم من آمن به ومنهم من صدّ عنه} أي: من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم، ومنهم من كفر كقوله: {فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون} قاله السدي: أو فمن آل إبراهيم من آمن بالكتاب، أو فمن اليهود المخاطبين بقوله: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا} من آمن به أي بالقرآن، وهو المأمور بالإيمان به في قوله: بما نزلنا قاله مجاهد، ومقاتل، والفراء، والجمهور ولذلك ارتفع الطمس ولم يقع. أو فمن اليهود من آمن بالفضل الذي أوتيه الرسول صلى الله عليه وسلم أو العرب على ما تقدّم. أو فمن اليهود من آمن به، أي بما ذكر من حديث آل إبراهيم. أو فمن اليهود من آمن برسول الله، ومنهم مَنْ أنكر نبوّته. والظاهر أنه تعالى لما أنكر على اليهود حسدهم الناس على فضل الله الذي آتاهم، أتى بما بعده على سبيل الاستطراد والنظر والاستدلال عليهم بأنه لا ينبغي لكم أن تحسدوا فقد جاز أسلافكم من الشرف ما ينبغي أن لا تحسدوا أحداً. وتضمنت هذه الآية تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم في كونهم يحسدونه ولا يتبعونه، فذكر أنَّهم أيضاً مع أسلافهم وأنبيائهم انقسموا إلى مؤمن وكافر، هذا وهم أسلافهم فكيف بنبي ليس هو منهم؟. وقرأ ابن مسعود وابن عباس، وابن جبير، وعكرمة، وابن يعمر، والجحدري: ومن صد عنه برفع الصاد مبنياً للمفعول. وقرأ أبي وأبو الحوراء وأبو رجاء والحوقي، بكسر الصاد مبنياً للمفعول. والمضاعف المدغم الثلاثي يجوز فيه إذا بني للمفعول ما جاز في باع إذا بني للمفعول، فتقول: حب زيد بالضم، وحب بالكسر. ويجوز الاشمام. والصد ليس مقابلاً للإيمان إلا من حيث المعنى، وكان المعنى والله أعلم: فمنهم من آمن به واتبعه، ومنهم من كذب به وصد عنه. {وكفى بجهنم سعيراً} أي احتراقاً والتهاباً أي لمن صدّ عنه. وسعيراً يميز وهو شدة توقد النار. والتقدير: وكفى بسعير جهنم سعيراً، وهو كناية عن شدة العذاب والعقوبة. {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً} لما ذكر قوله: ومنهم من صد عنه، وكفى بجهنم سعيراً أتبع ذلك بما أعد الله للكافرين بآياته، ثم بعد يتبع بما أعد للمؤمنين، وصار نظير وتسود وجوه، {فأما الذين اسودت وجوههم} وقرأ الجمهور نصليهم من أصلى. وقرأ حميد: نصليهم من صليت. وقرأ سلام ويعقوب: نصليهم بضم الهاء. {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها} انتصاب على كل الظرف لأنه مضاف إلى ما المصدرية الظرفية، والعامل فيه بدلناهم، وهي جملة فيها معنى الشرط، وهي في موضع الحال، والعامل فيها نصليهم. والتبديل على معنيين: تبديل في الصفات مع بقاء العين، وتبديل في الذوات بأن تذهب العين وتجيء مكانها عين أخرى، يقال: هذا بدل هذا. والظاهر في الآية هذا المعنى الثاني. وأنه إذا نضج ذلك الجلد وتهرى وتلاشى جيء بجلد آخر مكانه، ولهذا قال: جلوداً غيرها. قال السدي: إن الجلود تخلق من اللحم، فإذا أحرق جلد بدله الله من لحم الكافر جلداً آخر. وقيل: هي بعينها تعاد بعد إحراقها، كما تعاد الأجساد بعد البلى في القبور، فيكون ذلك عائداً إلى الصفة، لا إلى الذات. وقال الفضيل: يجعل النضيج غير نضيج. وقيل: تبدل كل يوم سبع مرات. وقال الحسن: سبعين. وأبعد من ذهب إلى أن الجلود هي سرابيل من قطران تخالط جلودهم مخالطة لا يمكن إزالتها. فيبدل الله تلك السرابيل كل يوم مائة مرة. أو كما قيل: مائة ألف مرة. وسميت جلوداً لملابستها الجلود. وأبعد أيضاً من ذهب إلى أن هذا استعاره عن الدوام، كلما انتهى فقد ابتدأ من أوله، يعني: كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك أعطيناهم قوة جديدة من الحياة، بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا، فيكون المقصود بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه. وقال ابن عباس: يلبسهم الله جلوداً بيضاء كأنها قراطيس. وقال عبد العزيز بن يحيى: يلبس أهل النار جلوداً تؤلمهم ولا تؤلم هي. {ليذوقوا العذاب} أي ذلك التبديل كلما نضجت الجلود، هو ليذوقوا ألم العذاب. وأتيَ بلفظ الذوق المشعر بالإحساس الأول وهو آلم، فجعل كلما وقع التبديل كان لذوق العذاب بخلاف من تمرن على العذاب. وقال الزمخشري: ليذوقوا العذاب ليدوم لهم دونه ولا ينقطع، كقولك للعزيز: أعزك الله أي أدامك على عزك، وزادك فيه. {إن الله كان عزيزاً حكيماً} أي عزيزاً لا يغالب، حكيماً يضع الأشياء مواضعها. وقال الزمخشري: عزيز لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين، حكيماً لا يعذب إلا بعدل من يستحقه.
{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)} {والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيه أبداً} لما ذكر تعالى وعيد الكفار أعقب بوعد المؤمنين، وجاءت جملة الكفار مؤكدة بأن على سبيل تحقيق الوعيد المؤكد، ولم يحتج إلى ذلك في جملة المؤمنين، وأتى فيها بالسين المشعرة بقصر مدة التنفيس على سبيل تقريب الخير من المؤمن وتبشيره به. {لهم فيها أزواج مطهرة} تقدم تفسير مثل هذا. {وندخلهم ظلاً ظليلاً} قال ابن عطية: أي يقي من الحر والبرد. ويصح أن يريد أنه ظل لا ينتقل، كما يفعل ظل الدنيا فأكده بقوله: ظليلاً لذلك ويصح أن يصفه بظليل لامتداده، فقد قال عليه السلام: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مائة سنة ما يقطعها» انتهى كلامه. وقال أبو مسلم الظليل: هو القوي المتمكن. قال: ونعت الشيء بمثل ما اشتق من لفظه يكون مبالغة كقولهم: ليل أليل، وداهية دهياء. وقال أبو عبد الله الرازي: وإنما قال ظل ظليلاً لأن بلاد العرب في غاية الحرارة، فكان الظل عندهم من أعظم أسباب الراحة، ولهذا المعنى جعل كناية عن الراحة ووصفه بالظليل مبالغة في الراحة. وقال الزمخشري: ظليل صفة مشتقة من لفظ الظل لتأكيد معناه، كما يقال: ليل أليل، ويوم أيوم، وما أشبه ذلك وهو ما كان فينانا لا جوب فيه، ودائماً لا تنسخه الشمس. وسجسجاً لا حرّ فيه ولا برد، وليس ذلك إلا ظل الجنة رزقنا الله بتوفيقه ما يزلف إليه التقيؤ تحت ذلك الظل. وفي قراءة عبد الله: سيدخلهم بالياء انتهى. وقال الحسن: قد يكون ظل ليس بظليل يدخله الحر والشمس، فلذلك وصف ظل الجنة بأنه ظليل. وعن الحسن: ظل أهل الجنة يقي الحر والسموم، وظل أهل النار من يحموم لا بارد ولا كريم. ويقال: إنّ أوقات الجنة كلها سواء اعتدال، لا حر فيها ولا برد. وقرأ النخعي وابن وثاب: سيدخلهم بالياء، وكذا ويدخلهم ظلاً، فمن قرأ بالنون وهم الجمهور فلاحظ قوله في وعيد الكفار: {سوف نصليهم} ومن قرأ بالياء لاحظ قوله: {إن الله كان عزيزاً حكيماً} فأجراه على الغيبة. وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أنواعاً من الفصاحة والبيان والبديع. الاستفهام الذي يراد به التعجب في: ألم تر في الموضعين. والخطاب العام ويراد به الخاص في: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا وهو دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ابن صوريا وكعباً وغيرهما من الأحبار إلى الإيمان حسب ما في سبب النزول. والاستعارة في قوله: من قبل أن نطمس وجوهاً، في قول من قال: هو الصرف عن الحق، وفي: ليذوقوا العذاب، أطلق اسم الذوق الذي هو مختص بحاسة اللسان وسقف الحلق على وصول الألم للقلب. والطباق في: فنردّها على أدبارها، والوجه ضد القفا، وفي للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا، وفي: إن الذين كفروا والذين آمنوا، وفي: من آمن ومن صدّ، وهذا طباق معنوي. والاستطراد في: أو نلعنهم كما لعن أصحاب السبت. والتكرار في: يغفر، وفي: لفظ الجلالة، وفي: لفظ الناس، وفي: آتينا وآتيناهم، وفي: فمنهم ومنهم، وفي: جلودهم وجلوداً، وفي: سندخلهم وندخلهم. والتجنيس المماثل في: نلعنهم كما لعنا وفي: لا يغفر ويغفر، وفي: لعنهم الله ومن يلعن الله، وفي: لا يؤتون ما آتاهم آتينا وآتيناهم وفي: يؤمنون بالجبت وآمنوا أهدى. والتعجب: بلفظ الأمر في قوله: انظر كيف يفترون. وتلوين الخطاب في: يفترون أقام المضارع مقام الماضي إعلاماً أنهم مستمرون على ذلك. والاستفهام الذي معناه التوبيخ والتقريع في: أم لهم نصيب وفي: أم يحسدون. والإشارة في: أولئك الذين. والتقسيم في: فمنهم من آمن به ومنهم من صدّ عنه. والتعريض في: فإذن لا يؤتون الناس نقيراً عرض بشدة بخلهم. وإطلاق الجمع على الواحد في: أم يحسدون الناس إذا فسر بالرسول، وإقامة المنكر مقام المعرف لملاحظة الشيوع. والكثرة في: سوف نصليهم ناراً. والاختصاص في: عزيزاً حكيماً. والحذف في: مواضع.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)} الزعم: قول يقترن به الاعتقاد الظني. وهو بضم الزاي وفتحها وكسرها. قال الشاعر وهو أبو ذؤيب الهذلي: فإن تزعميني كنت أجهل فيكم *** فإني شريت الحلم بعدك بالجهل وقال ابن دريد: أكثر ما يقع على الباطل. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مطية الرجل زعموا» وقال الأعشى: ونبئت قيساً ولم أبله *** كما زعموا خير أهل اليمن فقال الممدوح وما هو إلا الزعم وحرمه. وإذا قال سيبويه: زعم الخليل، فإنما يستعملها فيما انفرد الخليل به، وكان أقوى. وذكر صاحب العين: أنَّ الأحسن في زعم أنْ توقع على أنْ قال، قال. وقد توقع في الشعر على الاسم. وأنشد بيت أبي ذؤيب هذا وقول الآخر: زعمتني شيخاً ولست بشيخ *** إنما الشيخ من يدب دبيبا ويقال: زعم بمعنى كفل، وبمعنى رأس، فيتعدى إلى مفعول واحد مرة، وبحرف جر أخرى. ويقال: زعمت الشاة أي سمنت، وبمعنى هزلت، ولا يتعدى. التوفيق: مصدر وفق، والوفاق والوفق ضد المخالفة. {إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} سبب نزولها فيما رواه أبو صالح عن ابن عباس، وقاله: مجاهد والزهري وابن جريج ومقاتل ما ذكروا في قصة مطولة مضمونها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ مفتاح الكعبة من سادنيها عثمان بن طلحة، وابن عمه شيبة بن عثمان بعد تأب من عثمان ولم يكن أسلم، فسأل العباس الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجمع له بين السقاية والسدانة، فنزلت. فرد المفتاح إليهما وأسلم عثمان. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة لا يأخذها منكم إلا ظالم» وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وقاله: زيد بن أسلم، ومكحول، واختاره أبو سليمان الدمشقي: نزلت في الأمراء أن يؤدوا الأمانة فيما ائتمنهم الله من أمر رعيته. وقيل: نزلت عامة، وهو مروي عن: أبي، وابن عباس، والحسن، وقتادة. ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر وعد المؤمنين، وذكر عمل الصالحات، نبه على هذين العملين الشريفين اللذين من اتصف بهما كان أحرى أن يتصف بغيرهما من الأعمال الصالحة، فأحدهما ما يختص به الإنسان فيما بينه وبين غيره وهو أداء الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، والثاني ما يكون بين اثنين من الفصل بينهما بالحكم العدل الخالي عن الهوى، وهو من الأعمال العظيمة التي أمر الله بها رسله وأنبياءه والمؤمنين. ولما كان الترتيب الصحيح أنْ يبدأ الإنسان بنفسه في جلب المنافع ودفع المضار، ثم يشتغل بحال غيره، أمر بأداء الأمانة أولاً ثم بعده بالأمر بالحكم بالحق. والظاهر في: يأمركم أنّ الخطاب عام لكل أحد في كل أمانة. وقال ابن جريج: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن مفتاح الكعبة. وقال علي، وابن أسلم، وشهر، وابن زيد: خطاب لولاة المسلمين خاصة، فهو للنبي صلى الله عليه وسلم وأمرائه، ثم يتناول مَن بعدهم. وقال ابن عباس: في الولاة أن يعظوا النساء في النشوز ونحوه، ويردوهنّ إلى الأزواج. وقيل: خطاب لليهود أمروا برد ما عندهم من الأمانة، من نعتِ الرسول أنْ يظهروه لأهله، إذ الخطاب معهم قبل هذه الآية. ونقل التبريزي: أنها خطاب لأمراء السرايا بحفظ الغنائم ووضعها في أهلها. وقيل: ذلك عام فيما كلفه العبد من العبادات. والأظهر ما قدمناه من أنّ الخطاب عام يتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال، ورد الظلامات، وعدل الحكومات. ومنه دونهم من الناس في الودائع، والعواري، والشهادات، والرجل يحكم في نازلة. قال ابن عباس: لم يرخص الله لموسر ولا معسر أنْ يمسك الأمانة. وقرئ: أن تؤدّوا الأمانة على التوحيد، وأن تحكموا، ظاهره: أن يكون معطوفاً على أن تؤدّوا، وفصل بين حرف العطف والمعطوف بإذا. وقد ذهب إلى ذلك بعض أصحابنا وجعله كقوله: {ربنا آتنا في الدنيا وفي الآخرة حسنة} {وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً} {سبع سموات ومن الأرض مثلهن} ففصل في هذه الآية بين الواو والمعطوف بالمجرور. وأبو عليّ يخص هذا بالشعر، وليس بصواب. فإن كان المعطوف مجروراً أعيد الجار نحو: امرر بزيد وغداً بعمرو. ولكنَّ قوله: وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا، ليس من هذه الآيات، لأن حرف الجر يتعلق في هذه الآيات بالعامل في المعطوف، والظرف هنا ظاهره أنه منصوب بأن تحكموا، ولا يمكن ذلك لأن الفعل في صلة، ولا يمكن أن ينتصب بالناصب لأنْ تحكموا لأنّ الأمر ليس واقعاً وقت الحكم. وقد خرجه على هذا بعضهم. والذي يظهر أنّ إذاً معمولة لأنْ تحكموا مقدرة، وأنْ تحكموا المذكورة مفسرة لتلك المقدرة، هذا إذا فرغنا على قول الجمهور. وأما إذا قلنا بمذهب الفرّاء فإذا منصوبة بأن تحكموا هذه الملفوظ بها، لأنه يجيز: يعجبني العسل أن يشرب، فتقدم معمول صلة أنْ عليها. {إن الله نعماً يعظكم به} أصله: نعم ما، وما معرفة تامة على مذهب سيبويه والكسائي. كأنه قال: نعم الشيء يعظكم به، أي شيء يعظكم به. ويعظكم صفة لشيء، وشيء هو المخصوص بالمدح وموصولة على مذهب الفارسي في أحد قوليه. والمخصوص محذوف التقدير: نعم الذي يعظكم به تأدية الأمانة والحكم بالعدل، ونكرة في موضع نصب على التمييز ويعظكم صفة له على مذهب الفارسي في أحد قوليه، والمخصوص محذوف تقديره كتقدير ما قبله. وقد تأولت ما هنا على كل هذه الأقوال، وتحقيق ذلك في علم النحو. وقال ابن عطية: وما المردفة على نعم إنما هي مهيئة لاتصال الفعل بها كما هي في ربما، ومما في قوله: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يحرك شفتيه وكقول الشاعر: وإنا لمما نضرب الكبشر ضربة *** على رأسه تلقى اللسان من الفم ونحوه. وفي هذا هي بمنزلة ربما، وهي لها مخالفة في المعنى: لأنّ ربما معناها التقليل، ومما معناها التكثير. ومع أن ما موطئه، فهي بمعنى الذي. وما وطأت إلا وهي اسم، ولكنّ القصد إنما هو لما يليها من المعنى الذي في الفعل انتهى كلامه. وهو كلام متهافت، لأنه من حيث جعلها موطئة مهيئة لا تكون اسماً، ومن حيث جعلها بمعنى الذي لا تكون مهيئة موطئة فتدافعا. وقرأ الجمهور: نعماً بكسر العين اتباعاً لحركة العين. وقرأ بعض القراء: نعماً بفتح النون على الأصل، إذ الأصل نعم على وزن شهد. ونسب إلى أبي عمرو سكون العين، فيكون جمعاً بين ساكنين. {إن الله كان سميعاً} أي لأقوالكم الصادرة منكم في الأحكام. {بصيراً} بردّ الأمانات إلى أهلها. {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} قيل: نزلت في أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكروا قصةً طويلة مضمونها: أنَّ عماراً أجار رجلاً قد أسلم، وفر أصحابه حين أنذروا بالسرة فهربوا، وأقام الرجل وإنّ أميرها خالداً أخذ الرجل وماله، فأخبره عمار بإسلامه وإجارته إياه فقال خالد: وأنت تجيز؟ فاستبا وارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجاز أمان عمار، ونهاه أن يجير على أمير. ومناسبتها لما قبلها أنه لما أمر الولاة أن يحكموا بالعدل أمر الرعية بطاعتهم، قال عطاء: أطيعوا الله في فريضته، والرسول في سنته. وقال ابن زيد: في أوامره ونواهيه، والرسول ما دام حياً، وسنته بعد وفاته. وقيل: فيما شرع، والرسول فيما شرح. وقال ابن عباس، وأبو هريرة، والسدي، وابن زيد: أولو الأمر هم الأمراء. وقال مجاهد: أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال التبريزي: المهاجرون والأنصار. وقيل: الصحابة والتابعون. وقيل: الخلفاء الأربع. وقال عكرمة: أبو بكر وعمر. وقال جابر، والحسن، وعطاء، وأبو العالية، ومجاهد أيضاً: العلماء، واختاره مالك. وقال ميمون، ومقاتل، والكلبي، أمراء السرايا، أو الأئمة من أهل البيت قاله: الشيعة. أو عليّ وحده قالوه أيضاً. والظاهر أنه كل مَن ولي أمر شيء ولاية صحيحة. قالوا: حتى المرأة يجب عليها طاعة زوجها، والعبد مع سيده، والولد مع والديه، واليتيم مع وصية فيما يرضى الله وله فيه مصلحة. وقال الزمخشري: والمراد، بأولي الأمر منكم، أمراء الحق، لأن أمراء الجور الله ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على الله ورسوله. وكان أول الخلفاء يقول: أطيعوني ما عدلت فيكم، فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم. وعن أبي حازم: أن مسلمة بن عبد الملك قال له: ألستم أمرتم بطاعتنا في قوله وأولي الأمر منكم؟ قال: أليس قد نزعت منكم إذ خالفتم الحق بقوله: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}. وقيل: هم أمراء السرايا. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع أميري فقد أطاعني، ومن يعص أميري فقد عصاني» وقيل: هم العلماء الدّينون الذين يعلمون الناس الدّين، يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر انتهى. وقال سهل التستري: أطيعوا السلطان في سبعة: ضرب الدنانير، والدراهم، والمكاييل، والأوزان، والأحكام، والحج، والجمعة، والعيدين، والجهاد. وإذا نهى السلطان العالم أن يفتى فليس له أن يفتي، فإنْ أفتى فهو عاص وإنْ كان أميراً جائراً. قيل: ويحمل قول سهل على أنه يترك الفتيا إذا خاف منه على نفسه. وقال ابن خويز منداد: وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان فيه طاعة، ولا تجب فيما كان فيه معصية. قال: ولذلك قلنا: أن أمراء زماننا لا تجوز طاعتهم، ولا معاونتهم، ولا تعظيمهم، ويجب الغزو معهم متى غزوا، والحكم من قبلهم، وتولية الإمامة والحسبة، وإقامة ذلك على وجه الشريعة. فإن صلوا بنا وكانوا فسقة من جهة المعاصي جازت الصلاة معهم، وإن كانوا مبتدعة لم تجز الصلاة معهم إلا أنْ يخافوا فتصلى معهم تقية، وتعاد الصلاة فيما بعد. انتهى. واستدل بعض أهل العلم على إبطال قول من قال: بإمام معصوم بقوله: وأولي الأمر منكم. فإنّ الأمراء والفقهاء يجوز عليهم الغلط والسهو، وقد أمرنا بطاعتهم. ومَن شرط الإمام العصمة فلا يجوز ذلك عليه، ولا يجوز أن يكون المراد الإمام لأنه قال في نسق الخطاب: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول، فلو كان هناك إمام مفروض الطاعة لكان الرد إليه واجباً، وكان هو يقطع التنازع، فلما أمر برد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة دون الإمام، دلّ على بطلان الإمامة. وتأويلهم: أنّ أولى الأمر عليّ رضي الله عنه فاسد، لأنّ أولي الأمر جمع، وعليّ واحد. وكان الناس مأمورين بطاعة أولي الأمر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعليّ لم يكن إماماً في حياته، فثبت أنهم كانوا أمراء، وعلى المولى عليهم طاعتهم ما لم يأمروا بمعصية. فكذلك بعد موتهم في لزوم اتباعهم طاعتهم ما لم تكن معصية. وقال أبو عبد الله الرازي: وأولي الأمر منكم إشارة إلى الإجماع، والدليل عليه أنه أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر بطاعته على الجزم والقطع لا بد أن يكون معصوماً عن الخطأ، وإلاّ لكان بتقدير إقدامه على الخطأ مأموراً باتباعه، والخطأ منهى عنه، فيؤدّي إلى اجتماع الأمر والنهي في فعل واحد باعتبار واحد، وأنه محال. وليس أحد معصوماً بعد الرسول إلا جمع الأمة أهل العقد والحلّ، وموجب ذلك أنّ إجماع الأمة حجة. {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} قال مجاهد، وقتادة، والسدي، والأعمش، وميمون بن مهران: فردوه إلى كتاب الله، وسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وإلى سنته بعد وفاته. وقال قوم منهم الأصم: معناه قولوا: الله ورسوله أعلم. وقال الزمخشري: فإن اختلفتم أنتم وأولوا الأمر في شيء من أمور الذين فردوه ارجعوا فيه إلى الكتاب والسنة انتهى. وقد استدل نفاة القياس ومثبتوه بقوله: فردوه إلى الله ورسوله، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الفقه. {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} شرط وجوابه محذوف، أي: فردوه إلى الله والرسول. وهو شرط يراد به الحض على اتباع الحق، لأنه ناداهم أولاً بيا أيها الذين آمنوا، فصار نصير: إن كنت ابني فأطعني. وفيه إشعار بوعيد من لم يرد إلى الله والرسول. {ذلك خير وأحسن تأويلاً} ذلك الرد إلى الكتاب والسنة، أو إلى أن تقولوا: الله ورسوله أعلم. وقال قتادة، والسدي، وابن زيد: أحسن عاقبة. وقال مجاهد: أحسن جزاء. وقيل: أحسن تأويلاً من تأويلكم أنتم. وقالت فرقة: المعنى: أن الله ورسوله أحسن نظراً وتأويلاً منكم إذا انفردتم بتأويلكم. {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً} ذكر في سبب نزولها قصص طويل ملخصه: أنّ أبا بردة الأسلمي كان كاهناً يقضي بين اليهود، فتنافر إليه نفر من أسلم، أو أنّ قيساً الأنصاري أحد مَن يدعي الإسلام ورجلاً من اليهود تداعيا إلى الكاهن وتركا الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما دعا اليهودي إلى الرسول، والأنصاري يأبى إلا الكاهن. أو أنّ منافقاً ويهودياً اختصما، فاختار اليهودي الرسول صلى الله عليه وسلم، واختار المنافق كعب بن الأشرف، فأبى اليهودي، وتحاكما إلى الرسول، فقضى لليهودي، فخرجا ولزمه المنافق، وقال: ننطلق إلى عمر، فانطلقا إليه فقال اليهودي: قد تحاكمنا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يرض بقضائه، فأقرّ المنافق بذلك عند عمر، فقتله عمر وقال: هكذا أقضي فيمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله. ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لأنه تعالى لما أمر المؤمنين بطاعة الله ورسوله وأولي الأمر، ذكر أنه يعجب بعد ورود هذا الأمر من حال مَن يدَّعي الإيمان ويريد أن يتحاكم إلى الطاغوت ويترك الرسول. وظاهر الآية يقتضي أن تكون نزلت في المنافقين، لأنه قال: يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، فلو كانت في يهود أو في مؤمن ويهودي كان ذلك بعيداً من لفظ الآية، إلا إنْ حمل على التوزيع، فيجعل بما أنزل إليك في منافق، وما أنزل من قبلك في يهودي، وشملوا في ضمير يزعمون فيمكن. وقال السدي: نزلت في المنافقين من قريظة والنضير، تفاخروا بسبب تكافؤ دمائهم، إذ كانت النضير في الجاهلية تدي من قتلت وتستقيه إذا قتلت قريظة منهم، فأبت قريظة لما جاء الإسلام، وطلبوا المنافرة، فدعا المؤمنون منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا المنافقون إلى بردة الكاهن، فنزلت. وقال الحسن: احتكم المنافقون بالقداح التي يضرب بها عند الأوثان فنزلت. أو لسبب اختلافهم في أسباب النزول اختلفوا في الطاغوت. فقيل: كعب بن الأشرف. وقيل: الأوثان. وقيل: ما عبد من دون الله. وقيل: الكهان. {وقد أمروا أن يكفروا به} جملة حالية من قوله: يريدون، ويريدون حال، فهي حال متداخل. وأعاد الضمير هنا مذكراً، وأعاده مؤنثاً في قوله: اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها. وقرأ بها هنا عباس بن الفضل على التأنيث، وأعاد الضمير كضمير جمع العقلاء في قوله: {أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم} {ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً} ضلالاً ليس جارياً على يضلهم، فيحتمل أن يكون جعل مكان إضلال، ويحتمل أن يكون مصدر المطاوع يضلهم، أي: فيضلون ضلالاً بعيداً. وقرأ الجمهور: بما أنزل إليك وما أنزل مبنياً للمفعول فيهما. وقرئ: مبنياً للفاعل فيهما. {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً} قرأ الحسن: تعالوا بضم اللام. قال أبو الفتح: وجهها أنَّ لام الفعل من تعاليت حذفت تخفيفاً، وضمت اللام التي هي عين الفعل لوقوع واو الجمع بعدها. ولظهر الزمخشري حذف لام الكلمة هنا بحذفها في قولهم: ما باليت به بالة، وأصله: بالية كعافية. وكمذهب الكسائي في آية، أن أصلها أيلة فحذفت اللام. قال: ومنه قول أهل مكة: تعالي بكسر اللام للمرأة. وفي شعر الحمداني: تعالي أقاسمك الهموم تعالي *** والوجه: فتح اللام انتهى. وقول الزمخشري: قول أهل مكة تعالي يحتمل أن تكون عربية قديمة، ويحتمل أن يكون ذلك مما غيرته عن وجهه العربي فلا يكون عربياً. وأما قوله في شعر الحمداني فقد صرّح بعضهم بأنه أبو فراس، وطالعت ديوانه جمع الحسين بن خالويه فلم أجد ذلك فيه. وبنو حمدان كثيرون، وفيهم عدة من الشعراء، وعلى تقدير ثبوت ذلك في شعرهم لا حجة فيه، لأنه لا يستشهد بكلام المولدين. والظاهر من قوله: رأيت المنافقين أنها من رؤية العين، صدوا مجاهرة وتصريحاً، ويحتمل أن يكون من رؤية القلب أي: علمت. ويكون صدهم مكراً وتخابثاً ومسارقة حتى لا يعلم ذلك منه إلا بالتأويل عليه. وصدوداً: مصدر لصد، وهو هنا متعد بحرف الجر، وقد يتعدى بنفسه نحو: {فصدهم عن السبيل} وقياس صدّ في المصدر فعل نحو: صده صدّاً. وحكى ابن عطية: أن صدوداً هنا ليس مصدراً، والمصدر عنده صد. {فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً} قال الزجاج: كيف في موضع نصب تقديره: كيف تراهم، أو في موضع رفع أي: فكيف صنيعهم والمصيبة. قال الزجاج: قتل عمر الذي ردّ حكم الرسول صلى الله عليه وسلم. وقيل: كل مصيبة تصيب المنافقين في الدنيا والآخرة، ثم عاد الكلام إلى ما سبق يخبر عن فعلهم فقال: ثم جاؤك يحلفون بالله. وقيل: هي هدم مسجد الضرار، وفيه نزلت الآية، حلفوا دفاعاً عن أنفسهم ما أردنا ببناء المسجد إلا طاعة وموافقة الكتاب. وقيل: ترك الاستعانة بهم وما يلحقهم من الذل من قوله: فقل إن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً، والذي قدّمت أيديهم ردهم حكم الرسول أو معاصيهم المتقدّمة أو نفاقهم واستهزاؤهم ثلاثة أقوال. وقيل في قوله: إلا إحساناً وتوفيقاً أي: ما أردنا بطلب دم صاحبنا الذي قتله عمر إلا إحساناً إلينا، وما يوافق الحق في أمرنا. وقيل: ما أردنا بالرفع إلى عمر إلا إحساناً إلى صاحبنا بحكومة العدل، وتوفيقاً بينه وبين خصمه. وقيل: جاؤوا يعتذرون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من محاكمتهم إلى غيره ما أردنا في عدولنا عنك إلا إحساناً بالتقريب في الحكم، وتوفيقاً بين الخصوم، دون الحمل على الحق. وفي قوله: فكيف إذا أصابتهم مصيبة، وعيد لهم على فعلهم، وأنهم سيندمون عليه عند حلول بأس الله تعالى حين لا ينفعهم الندم، ولا يغني عنهم الاعتذار. {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً} أي: يعلم ما في قلوبهم من النفاق. والمعنى: يعلمه فيجازيهم عليه، أو يجازيهم على ما أسرّوه من الكفر، وأظهروه من الحلف الكاذب. وعبر بالعلم عن المجازاة. فأعرض عنهم: أي عن معاتبتهم وشغل البال بهم، وقبول إيمانهم وأعذارهم. وقيل: المعنى بالإعراض معاملتهم بالرفق والإناة، ففي ذلك تأديب لهم، وهو عتابهم. ولا يراد بالإعراض الهجر والقطيعة، فإنّ قوله: وعظهم يمنع من ذلك. وعظهم: أي خوفهم بعذاب الله وازجرهم، وأنكر عليهم أن يعودوا لمثل ما فعلوا. والقول البليغ هو الزجر والردع. قال الحسن: هو التوعد بالقتل إن استداموا حالة النفاق. ويتعلق قوله: في أنفسهم بقوله: قل على أحد معنيين، أي: قل لهم خالياً بهم لا يكون معهم أحد من غيرهم مساراً لأنّ النصح إذا كان في السرّ كان أنجح، وكان بصدد أن يقبل سريعاً. ومعنى بليغاً: أي مؤثراً فيهم. أو قلْ لهم في معنى أنفسهم النجسة المنطوية على النفاق قولاً يبلغ منهم ما يزجرهم عن العود إلى ما فعلوا. وقال الزمخشري: (فإن قلت): ثم تعلق قوله: في أنفسهم؟ (قلت): بقوله: بليغاً أي: قلْ لهم قولاً بليغاً في أنفسهم، مؤثراً في قلوبهم يغتمون به اغتماماً، ويستشعرون منه الخوف استشعاراً، وهو التوعد بالقتل والاستئصال إنْ نجم منهم النفاق، وأطلع قرنه، وأخبرهن أنَّ ما في نفوسهم من الدغل والنفاق معلوم عند الله، وأنه لا فرق بينكم وبين المشركين. وما هذه المكافة إلا لإظهاركم الإيمان، وإسراركم الكفر وإضماره، فإن فعلتم ما تكشفون به غطاءكم لم يبق إلا السيت انتهى كلامه. وتعليقه في أنفسهم بقوله: بليغاً لا يجوز على مذهب البصريين، لأن معمول الصفة لا يتقدّم عندهم على الموصوف. لو قلت: هذا رجل ضارب زيداً لم يجز أن تقول: هذا زيداً رجل ضارب، لأن حق المعمول ألا يحل إلا في موضع يحل فيه العامل، ومعلوم أن النعت لا يتقدّم على المنعوت، لأنه تابع، والتابع في ذلك بمذهب الكوفيين. وأما ما ذكره الزمخشري بعد ذلك من الكلام المسهب فهو من نوع الخطابة، وتحميل لفظ القرآن ما لا يحتمله، وتقويل الله تعالى ما لم يقله، وتلك عادته في تفسيره وهو تكثير الألفاظ. ونسبة أشياء إلى الله تعالى لم يقلها الله تعالى، ولا دل عليها اللفظ دلالة واضحة، والتفسير في الحقيقة إنما هو شرح اللفظ المستغلق عند السامع مما هو واضح عنده مما يرادفه أو يقاربه، أو له دلالة عليه بإحدى طرق الدلالات. وحكي عن مجاهد أن قوله: في أنفسهم متعلق بقوله: مصيبة، وهو مؤخر بمعنى التقديم، وهذا ينزه مجاهد أن يقوله، فإنه في غاية الفساد.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)} شجر الأمر: التبس، يشجر شجوراً وشجراً، وشاجر الرجل غيره في الأمر نازعه فيه، وتشاجروا. وخشبات الهودج يقال لها شجار لتداخل بعضها ببعض. ورمح شاجر، والشجير الذي امتزجت مودته بمودّة غيره، وهو من الشجر شبه بالتفاف الأغصان. وقد تقدّم ذكر هذه المادّة في البقرة وأعيدت لمزيد الفائدة. نفر الرجل ينفر نفيراً، خرج مجداً بكسر الفاء في المضارع وضمها، وأصله الفزع، يقال: نفر إليه إذا فزع إليه، أي طلب إزالة الفزع. والنفير النافور، والنفر الجماعة. ونفرت الدابة تفرُ بضم الفاء نفوراً أي هربت باستعجال. الثبة: الجماعة الإثنان والثلاثة في كلام العرب قاله: الماتريدي. وقيل: هي فوق العشرة من الرجال، وزنها فعلة. ولامها قيل: واو، وقيل: ياء، مشتقة من تثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه، كأنك جمعت محاسنه. ومن قال: إن لامها واو، جعلها من ثبا يثبو مثل حلا يحلو. وتجمع بالألف والتاء وبالواو والنون فتضم في هذا الجمع تاؤها، أو تكسر وثبة الحوض وسطه الذي يثوب الماء إليه، المحذوف منه عينه، لأنه من ثاب يثوب، وتصغيره ثويبة كما تقول في سه سييهة، وتصغير تلك ثبية. البطء التثبط عن الشيء. يقال: أبطأ وبطؤ مثل أسرع وسرع مقابله، وبطآن اسم فعل بمعنى بطؤ. {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} نبه تعالى على جلالة الرسل، وأنّ العالم يلزمهم طاعتهم، والرسول منهم تجب طاعته. ولام ليطاع لام كي، وهو استثناء مفرّغ من المفعول من أجله أي: وما أرسلنا من رسول بشيء من الأشياء إلا لأجل الطاعة. وبإذن الله أي بأمره، قاله: ابن عباس. أو بعلمه وتوفيقه وإرشاده. وحقيقة الإذن التمكين مع العلم بقدر ما مكن فيه. والظاهر أن بإذن الله متعلق بقوله: ليطاع. وقيل: بأرسلنا أي: وما أرسلنا بأمر الله أي: بشريعته، ودينه وعبادته من رسول إلا ليطاع. قال ابن عطية: وعلى التعليقين فالكلام عام اللفظ، خاص المعنى، لأنّا نقطع أنَّ الله تبارك وتعالى قد أراد من بعض خلقه أن لا يطيعوه، ولذلك خرجت طائفة معنى الإذن إلى العلم، وطائفة خرجته إلى الإرشاد لقوم دون قوم، وهو تخريج حسن. لأن الله إذا علم من أحد أنه يؤمن وفقه لذلك، فكأنه أذن له انتهى. ولا يلزم ما ذكره من أن الكلام عام اللفظ خاص المعنى، لأن قوله: ليطاع مبني للمفعول الذي لم يسم فاعله، ولا يلزم من الفاعل المحذوف أن يكون عاماً، فيكون التقدير: ليطيعه العالم، بل المحذوف ينبعي أن يكون خاصاً ليوافق الموجود، فيكون أصله: إلا ليطيعه من أردنا طاعته. وقال عبد الله الرازي: والآية دالة على أنه لا رسول إلا ومعه شريعة ليكون مطاعاً في تلك الشريعة، ومتبوعاً فيها، إذ لو كان لا يدعو إلا إلى شرع مَن قبله لم يكن هو في الحقيقة مطاعاً، بل المطاع هو الرسول المتقدم الذي هو الواضع لتلك الشريعة، والله تعالى حكم على كل رسول بأنه مطاع انتهى. ولا يعجبني قوله: الواضع لتلك الشريعة، والأحسن أن يقال: الذي جاء بتلك الشريعة من عند الله. {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً} ظلموا أنفسهم بسخطهم لقضائك أو بتحاكمهم إلى الطاغوت، أو بجميع ما صدر عنهم من المعاصي. جاؤوك فاستغفروا الله بالإخلاص، واعتذروا إليك. واستغفر لهم الرسول أي: شفع لهم الرسول في غفران ذنوبهم. والعامل في إذ جاؤوك، والتفت في قوله: واستغفر لهم الرسول، ولم يجئ على ضمير الخطاب في جاؤوك تفخيماً لشأن الرسول، وتعظيماً لاستغفاره، وتنبيهاً على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله تعالى بمكان، وعلى أنَّ هذا الوصف الشريف وهو إرسال الله إياه موجب لطاعته، وعلى أنه مندرج في عموم قوله: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} ومعنى وجدوا: علموا، أي: بإخباره أنه قبل توبتهم ورحمهم. وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه: فائدة ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم بأنهم بتحاكمهم إلى الطاغوت خالفوا حكم الله، وأساءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فوجب عليهم أن يعتذروا ويطلبوا من الرسول الاستغفار، أو لمّا لم يرضوا بحكم الرسول ظهر منهم التمرد، فإذا تابوا وجب أن يظهر منهم ما يزيد التمرد بأن يذهبوا إلى الرسول ويطلبوا منه الاستغفار، أو إذا تابوا بالتوبة أتوا بها على وجه من الخلل، فإذا انضم إليها استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم صارت مستحقة. والآية تدل على قبول توبة التائب لأنه قال بعدها: {لوجدوا الله} وهذا لا ينطبق على ذلك الكلام إلا إذا كان المراد من قوله: {تواباً رحيماً} قبول توبته انتهى. وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: قدم علينا أعرابي بعدما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبره وحثا من ترابه على رأسه ثم قال: يا خير من دفنت في الترب أعظمه *** فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه *** فيه العفاف وفيه الجود والكرم ثم قال: قد قلت: يا رسول الله فسمعنا قولك، ووعيت عن الله فوعينا عنك، وكان فيما أنزل الله عليك ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك الآية، وقد ظلمت نفسي وجئت أستغفر الله ذنبي، فاستغفر لي من ربي، فنودي من القبر أنه قد غفر لك. {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} قال مجاهد وغيره: نزلت فيمن أراد التحاكم إلى الطاغوت. ورجحه الطبري لأنه أشبه بنسف الآيات. وقيل: في شأن الرجل الذي خاصم الزبير في السقي بماء الحرة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك» فغضب وقال: «إن كان ابن عمتك، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم واستوعب للزبير حقه فقال: احبس يا زبير الماء حتى يبلغ الجدر، ثم أرسل الماء» والرجل هو من الأنصار بدري. وقيل: هو حاطب بن أبي بلتعة. وقيل: نزلت نافية لإيمان الرجل الذي قتله عمر، لكونه رد حكم النبي صلى الله عليه وسلم، ومقيمة عذر عمر في قتله، إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما كنت أظن أنّ عمر يجترئ على قتل رجل مؤمن» وأقسم بإضافة الرب إلى كاف الخطاب تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو التفات راجع إلى قوله: {جاؤوك} ولا في قوله: فلا. قال الطبري: هي رد على ما تقدم تقديره: فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ثم استأنف القسم بقوله: وربك لا يؤمنون. وقال غيره: قدم لا على القسم اهتماماً بالنفي، ثم كررها بعد توكيداً للتهم بالنفي، وكان يصح إسقاط لا الثانية، ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي، ويذهب معنى الاهتمام. وقيل: الثانية زائدة، والقسم معترض بين حرف النفي والمنفي. وقال الزمخشري: لا مزيدة لتأكيد معنى القسم، كما زيدت في لئلا يعلم لتأكيد وجوب العلم. ولا يؤمنون جواب القسم. (فإن قلت): هلا زعمت أنها زيدت لتظاهر لا في. لا يؤمنون. (قلت): يأبى ذلك استواء النفي والإثبات فيه، وذلك قوله: {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم} انتهى كلامه. ومثل الآية قول الشاعر: ولا والله لا يلقى لما بي *** ولا للما بهم أبداً دواء وحتى هنا غاية، أي: ينتفي عنهم الإيمان إلى هذه الغاية، فإذا وجد ما بعد الغاية كانوا مؤمنين. وفيما شجر بينهم عام في كل أمر وقع بينهم فيه نزاع وتجاذب. ومعنى يحكموك، يجعلوك حكماً. وفي الكلام حذف التقدير: فتقضي بينهم. {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} أي ضيقاً من حكمك. وقال مجاهد: شكا لأن الشاك في ضيق من أمره حتى يلوح له البيان. وقال الضحاك: إثماً أي: سبب إثم. والمعنى: لا يخطر ببالهم ما يأثمون به من عدم الرضا. وقيل: هماً وحزناً، ويسلموا أي ينقادوا ويذعنوا لقضائك، لا يعارضون فيه بشيء قاله: ابن عباس والجمهور. وقيل: معناه ويسلموا ما تنازعوا فيه لحكمك، ذكره الماوردي، وأكد الفعل بالمصدر على سبيل صدور التسليم حقيقة، وحسَّنه كونه فاصلة. وقرأ أبو السمال: فيما شجر بسكون الجيم، وكأنه فرَّ من توالي الحركات، وليس بقوي لخفة الفتحة بخلاف الضمة والكسرة، فإن السكون بدلهما مطرد على لغة تميم. {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم} قالت اليهود لما لم يرض المنافق بحكم الرسول: ما رأينا أسخف من هؤلاء لا يؤمنون بمحمد ويتبعونه، ويطؤن عقبه، ثم لا يرضون بحكمه، ونحن قد أمرنا بقتل أنفسنا ففعلنا، وبلغ القتل فينا سبعين ألفاً. فقال ثابت بن قيس: لو كتب ذلك علينا لفعلنا فنزلت. وروي هذا السبب بألفاظ متغايرة والمعنى قريب. ومعنى الآية: أنه تعالى لو فرض عليهم أنْ يقتلوا أنفسهم، إمّا أن يقتل نفسه بيده، أو يقتل بعضهم بعضاً، أو أن يخرجوا من ديارهم كما فرض ذلك على بني إسرائيل حين استتيبوا من عبادة العجل لم يطع منهم إلا القليل، وهذا فيه توبيخ عظيم حيث لا يمتثل أمر الله إلا القليل. وقال السبيعي: لما نزلت قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنّ من أمتي رجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي» قال ابن وهب: الرجل القائل ذلك هو أبو بكر. وروي عنه أنه قال: لو كتب علينا ذلك لبدأت بنفسي وأهل بيتي. وذكر النقاش: أنه عمر. وذكر أبو الليث السمرقندي: أن القائل منهم عمار، وابن مسعود، وثابت بن قيس. والضمير في عليهم قيل: يعود على المنافقين، أي: ما فعله إلا قليل منهم رياء وسمعة، وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم. وقيل: يعود على الناس مؤمنهم ومنافقهم. وكسر النون مِن أن، وضم الواو من أو، أبو عمرو. وكسرهما حمزة وعاصم، وضمهما باقي السبعة. وأن هنا يحتمل أن تكون تفسيرية، وأن تكون مصدرية على ما قرروا أنَّ أنْ توصل بفعل الأمر. وفي الآية دليل على صعوبة الخروج من الديار، إذ قرنه الله تعالى بقتل الأنفس، وقد خرج الصحابة المهاجرون من ديارهم وفارقوا أهاليهم حين أمرهم الله تعالى بالهجرة، وارتفع قليل، على البدل من الواو في فعلوه على مذهب البصريين، وعلى العطف على الضمير على قول الكوفيين، وبالرفع قرأ الجمهور. وقرأ أبيّ، وابن أي إسحاق، وابن عامر، وعيسى بن عمر: إلا قليلاً بالنصب، ونص النحويون على أن الاختيار في مثل هذا التركيب اتباع ما بعد إلا لما قبلها في الإعراب على طريقة البدل أو العطف، باعتبار المذهبين اللذين ذكرناهما. وقال الزمخشري: وقرئ إلا قليلاً بالنصب على أصل الاستثناء، أو على إلا فعلاً قليلاً انتهى. إلا ما النصب على أصل الاستثناء فهو الذي وجه الناس عليه هذه القراءة. وأما قوله: على إلا فعلا قليلاً فهو ضعيف لمخالفة مفهوم التأويل قراءة الرفع، ولقوله منهم فإنه تعلق على هذا التركيب: لو قلت ما ضربوا زيداً إلا ضرباً قليلاً منهم لم يحسن أن يكون منهم لا فائدة في ذكره. وضمير النصب في فعلوه عائد على أحد المصدرين المفهومين من قوله: أن اقتلوا أو اخرجوا. وقال أبو عبد الله الرازي: الكناية في قوله ما فعلوه عائد على القتل والخروج معاً، وذلك لأن الفعل جنس واحد، وإن اختلفت صورته انتهى. وهو كلام غير نحوي. {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً} الضمير في: ولو أنهم مختص بالمنافقين، ولا يبعد أن يكون أول الآية عاماً وآخرها خاصاً. قال الزمخشري: ما يوعظون به من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته، والانقياد لما يراه ويحكم به، لأنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، لكان خيراً لهم في عاجلهم وآجلهم، وأشد تثبيتاً لإيمانهم، وأبعد من الاضطراب فيه. وقال ابن عطية: ولو أن هؤلاء المنافقين اتعظوا وأنابوا لكان خيراً لهم، وتثبيتاً معناه يقيناً وتصديقاً انتهى. وكلاهما شرح ما يوعظون به بخلاف ما يدل عليه الظاهر. لأنّ الذي يوعظ به ليس هو اتباع الرسول وطاعته، وليس مدلول ما يوعظون به اتعظوا وأنابوا، وقيل: الوعظ هنا بمعنى الأمر أي: ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به فانتهوا عما نهوا عنه. وقال في ري الظمآن: ما يوعظون به أي: ما يوصون ويؤمرون به من الإخلاص والتسليم. وقال الراغب: أخبر أنهم لو قبلوا الموعظة لكان خيراً لهم. وقال أبو عبد الله الرازي: المراد أنهم لو فعلوا ما كلفوا به وأمروا، وسمي هذا التكليف والأمر وعظاً، لأن تكاليف الله تعالى مقرونة بالوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، والثواب والعقاب، وما كان كذلك فإنه يسمى وعظاً. وقال الماتريدي: وقيل ما يوعظون به من الأمر من القرآن. وهذه كلها تفاسير تخالف الظاهر، لأن الوعظ هو التذكار بما يحل بمن خالف أمر الله تعالى من العقاب، فلموعظ به هي الجمل الدالة على ذلك، ولا يمكن حمله على هذا الظاهر، لأنهم لم يؤمروا بأنْ يفعلوا الموعظ به، وإنما عرض لهم شرح ذلك بما خالف الظاهر، لأنهم علقوا به بقوله: ما يوعظون، على طريقة ما يفهم من قولك: وعظتك بكذا، فتكون الباء قد دخلت على الشيء الموعظ به وهي الجملة الدالة على الوعظ. أما إذا كان المعنى على أنّ الباء للسببية فيحمل إذ ذاك اللفظ على الظاهر، ويصح المعنى، ويكون التقدير: ولو أنهم فعلوا الشيء الذي يوعظون بسببه أي: بسبب تركه. ودلّ على حذف تركه قوله: ولو أنهم فعلوا. ويبقى لفظ يوعظون على ظاهره، ولا يحتاج إلى ما تأولوه. لكان خيراً لهم: أي يحصل لهم خير الدارين، فلا يكون أفعل التفضيل. ويحتمل أن يكونه أي: لكان أنفع لهم من غيره: وأشد تثبيتاً، لأنه حق، فهو أبقى وأثبت. أو لأنّ الطاعة تدعو إلى أمثالها، أو لأنّ الإنسان يطلب أولاً تحصيل الخير، فإذا حصله طلب بقاءه. فقوله: لكان خيراً لهم إشارة إلى الحالة الأولى. وقوله: وأشد تثبيتاً إشارة إلى الحالة الثانية. قاله: أبو عبد الله الرازي. {وإذاً لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً ولهديناهم صراطاً مستقيماً} قال الزمخشري: وإذا جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: وماذا يكون لهم أيضاً بعد التثبيت؟ فقيل: وإذا لو ثبتوا لآتيناهم. لأنّ إذا جواب وجزاء انتهى. وظاهر قول الزمخشري: لأن إذا جواب وجزاء يفهم منه أنها تكون للمعنيين في حال واحد على كل حال، وهذه مسألة خلاف. ذهب الفارسي إلى أنها قد تكون جواباً فقط في موضع، وجواباً وجزاء في موضع نفي، مثل: إذن أظنك صادقاً لمن قال: أزورك، هي جواب خاصة. وفي مثل: إذن أكرمك لمن قال: أزورك، هي جواب وجزاء. وذهب الأستاذ أبو عليّ إلى أنها تتقدر بالجواب والجزاء في كل موضع وقوفاً مع ظاهر كلام سيبويه. والصحيح قول الفارسي، وهي مسألة يبحث عنها في علم النحو. والأجر كناية عن الثواب على الطاعة، ووصفه بالعظم باعتبار الكثرة، أو باعتبار الشرف. والصراط المستقيم هو الإيمان المؤدّي إلى الجنة قاله: ابن عطية. وقيل: هو الطريق إلى الجنة. وقيل: الأعمال الصالحة. ولما فسر ابن عطية الصراط المستقيم بالإيمان قال: وجاء ترتيب هذه الآية كذا. ومعلوم أنَّ الهداية قبل إعطاء الأجر، لأن المقصد إنما هو تعديد ما كان الله ينعم به عليهم دون ترتيب، فالمعنى: وكهديناهم قبل حتى يكونوا ممن يؤتى الأجر انتهى. وأمّا إذا فسرت الهداية إلى الصراط هنا بأنه طريق الجنة، أو الأعمال الصالحة، فإنه يظهر الترتيب. {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين} قال الكلبي: نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه فقال: «يا ثوبان ما غير لونك؟» فقال: يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك، واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك هناك، لأني أعرف أنك ترفع مع النبيين، وإنِّي وإن كنت أدخل الجنة كنت في منزل أدنى من منزلك، وإنْ لم أدخل الجنة فذلك حين لا أراك أبداً. انتهى قول الكلبي. وحكي مثل قول ثوبان عن جماعة من الصحابة منهم: عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري، وهو الذي أري الأذان قال: يا رسول الله، إذا مت ومتنا، كنتَ في عليين فلا نراك ولا نجتمع بك، وذكر حزنه على ذلك، فنزلت. وحكى مكي عن عبد الله هذا أنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم اعمني حتى لا أرى شيئاً بعده، فعمي. والمعنى في مع النبيين: إنه معهم في دار واحدة، وكل من فيها رزق الرضا بحاله، وهم بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر، وإنْ بعد مكانه. وقيل: المعية هنا كونهم يرفعون إلى منازل الأنبياء متى شاؤوا تكرمة لهم، ثم يعودون إلى منازلهم. وقيل: إنّ الأنبياء والصدّيقين والشهداء ينحدرون إلى من أسفل منهم ليتذاكروا نعمة الله، ذكره المهدوي في تفسيره الكبير. قال أبو عبد الله الرازي: هذه الآية تنبيه على أمرين من أحوال المعاد: الأول: إشراق الأرواح بأنوار المعرفة. والثاني: كونهم مع النبيين. وليس المراد بهذه المعية في الدرجة، فإنّ ذلك ممتنع، بل معناه: إن الأرواح الناقصة إذا استكملت علائقها مع الأرواح الكاملة في الدنيا بقيت بعد المفارقة تلك العلائق، فينعكس الشعاع من بعضها على بعض، فتصير أنوارها في غاية القوة، فهذا ما خطر لي انتهى كلامه. وهو شبيه بما قالته الفلاسفة في الأرواح إذا فارقت الأجساد. وأهل الإسلام يأبون هذه الألفاظ ومدلولاتها، ولكن من غلب عليه شيء وحبه جرى في كلامه. وقوله: مع الذين أنعم الله عليهم، تفسير لقوله: {صراط الذين أنعمت عليهم} وهم من ذكر في هذه الآية. والظاهر أن قوله: من النبيين، تفسير للذين أنعم الله عليهم. فكأنه قيل: من يطع الله ورسوله منكم ألحقه الله بالذين تقدمهم ممن أنعم عليهم. قال الراغب: ممن أنعم عليهم من الفرق الأربع في المنزلة والثواب: النبي بالنبي، والصديق بالصديق، والشهيد بالشهيد، والصالح بالصالح. وأجاز الراغب أن يتعلق من النبيين بقوله: ومن يطع الله والرسول. أي: من النبيين ومن بعدهم، ويكون قوله: فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم إشارة إلى الملأ الأعلى. ثم قال: {وحسن أولئك رفيقاً} ويبين ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم حين الموت «اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى» وهذا ظاهر انتهى. وهذا الوجه الذي هو عنده ظاهر فاسد من جهة المعنى، ومن جهة النحو. أما من جهة المعنى فإنّ الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم، أخبر الله تعالى أنْ من يطيعه ويطيع رسوله فهو مع من ذكر، ولو كان من النبيين معلقاً بقوله: ومن يطع الله والرسول، لكان قوله: من النبيين تفسيراً لمن في قوله: ومن يطع. فيلزم أن يكون في زمان الرسول أو بعده أنبياء يطيعونه، وهذا غير ممكن، لأنه قد أخبر تعالى أنّ محمداً هو خاتم النبيين. وقال هو صلى الله عليه وسلم: «لا نبي بعدي» وأما من جهة النحو فما قبل فاء الجزاء لا يعمل فيما بعدها، لو قلت: إنْ تقم هند فعمرو ذاهب ضاحكة، لم يجز. واختلفوا في الأوصاف الثلاثة التي بعد النبيين. فقال بعضهم: كلها أوصاف لموصوف واحد، وهي صفات متداخلة، فإنه لا يمتنع في الشخص الواحد أنْ يكون صديقاً وشهيداً وصالحاً. وقيل: المراد بكل وصف صنف من الناس. فأما الصديق فهو فعيل للمبالغة كشريب. فقيل: هو الكثير الصدق، وقيل: هو الكثير الصدقة. وللمفسرين في تفسيره وجوه: الأول: أنّ كل من صدق بكل الذي لا يتخالجه فيه شك فهو صديق لقوله تعالى: {والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون} الثاني: أفاضل أصحاب الرسول. الثالث: السابق إلى تصديق الرسول. فصار في ذلك قدوة لسائر الناس. وأما الشهيد: فهو المقتول في سبيل الله، المخصوص بفضل الميتة. وفرق الشرع حكمهم في ترك الغسل والصلاة، لأنهم أكرم من أن يشفع فيهم. وقد تقدم الكلام في كونهم سموا شهداء، ولكن لفظ الشهداء في الآية يعم أنواع الشهداء الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو عبد الله الرازي: لا يجوز أن تكون الشهادة مفسرة بكون الإنسان مقتول الكافر، بل نقول: الشهيد فعيل بمعنى فاعل، وهو الذي يشهد لدين الله تارة بالحجة بالبيان، وتارة بالسيف والسنان. فالشهداء هم القائمون بالقسط، وهم الذين ذكرهم الله في قوله: {شهد الله أنه لا إله إلا هو} والصالح: هو الذي يكون صالحاً في اعتقاده وعمله. وجاء هذا التركيب على هذا القول على حسب التنزل من الأعلى إلى الأدنى، إلى أدنى منه. وفي هذا الترغيب للمؤمنين في طاعة الله وطاعة رسوله، حيث وعدوا بمرافقة أقرب عباد الله إلى الله، وأرفعهم درجات عنده. وقال الراغب: قسم الله المؤمنين في هذه الآية أربعة أقسام، وجعل لهم أربعة منازل بعضها دون بعض، وحث كافة الناس أنْ يتأخروا عن منزل واحد منهم: الأول: الأنبياء الذين تمدهم قوة الإلهية، ومثلهم كمن يرى الشيء عياناً من قريب. ولذلك قال تعالى: {أفتمارونه على ما يرى} الثاني: الصديقون وهم الذين يزاحمون الأنبياء في المعرفة، ومثلهم كمن يرى الشيء عياناً من بعيد وإياه عني أمير المؤمنين حين قيل له: هل رأيت الله؟ فقال: ما كنت لأعبد شيئاً لم أره ثم قال: «لم تره العيون بشواهد الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان. الثالث: الشهداء وهم الذين يعرفون الشيء بالبراهين. ومثلهم كمن يرى الشيء في المرآة من مكان قريب، كحال حارثة حيث قال: كأني أنظر إلى عرش ربي، وإياه قصد النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:» اعبد الله كأنك تراه «الرابع: الصالحون، وهم الذين يعرفون الشيء باتباعات وتقليدات الراسخين في العلم، ومثلهم كمن يرى الشيء من بعيد في مرآة. وإياه قصد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:» اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك «انتهى كلامه. وهو شبيه بكلام المتصوفة. وقال عكرمة: النبيون محمد صلى الله عليه وسلم، والصديقون أبو بكر، والشهداء عمر وعثمان وعلي، والصالحون صالحو أمّة محمد صلى الله عليه وسلم انتهى. وينبغي أن يكون ذلك على طريق التمثيل، وأما على طريق الحصر فلا، ولا يفهم من قوله: ومن يطع الله والرسول ظاهر اللفظ من الاكتفاء بالطاعة الواحدة، إذ اللفظ الدال على الصفة يكفي في العمل في جانب الثبوت حصول ذلك المسمى مرة واحدة لدخول المنافقين فيه، لأنهم قد يأتون بالطاعة الواحدة، بل يحمل على غير الظاهر بأن تحمل الطاعة على فعل جميع المأمورات، وترك جميع المنهيات. {وحسن أولئك رفيقاً} أولئك: إشارة إلى النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. لم يكتف بالمعية حتى جعلهم رفقاء لهم، فالمطيع لله ولرسوله يوافقونه ويصحبونه، والرفيق الصاحب، سمي بذلك للارتفاق به. وعلى هذا يجوز أن ينتصب رفيقاً على الحال من أولئك، أو على التمييز. وإذا انتصب على التمييز فيحتمل أن لا يكون منقولاً، فيجوز دخول من عليه، ويكون هو المميز. وجاء مفرداً إمّا لأن الرفيق مثل الخليط والصديق، يكون للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد. وأمّا لإطلاق المفرد في باب التمييز اكتفاء ويراد به الجمع، ويحسن ذلك هنا كونه فاصلة، ويحتمل أن يكون منقولاً من الفاعل، فلا يكون هو المميز والتقدير: وحسن رفيق أولئك، فلا تدخل عليه مَن ويجوز أن يكون أولئك إشارة إلى مَن يطع الله والرسول، وجمع على معنى من ويجوز في انتصاب رفيقاً إلا وجه السابقة. وقرأ الجمهور: وحسُن بضم السين، وهي الأصل، ولغة الحجاز. وقرأ أبو السمال: وحسْن بسكون السين وهي لغة تميم. ويجوز: وحُسْن بسكون السين وضم الحاء على تقدير نقل حركة السين إليها، وهي لغة بعض بني قيس. قال الزمخشري: وحسن أولئك رفيقاً فيه معنى التعجب، كأنه قيل: وما أحسن أولئك رفيقاً. ولاستقلاله بمعنى التعجب وقرئ: وحسْن بسكون السين. يقول المتعجب. وحسْنُ الوجه وجهك بالفتح والضم مع التسكين انتهى كلامه. وهو تخليط، وتركيب مذهب على مذهب. فنقول: اختلفوا في فعل المراد به المدح والذم، فذهب الفارسي وأكثر النحويين إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس فقط، فلا يكون فاعلاً إلا بما يكون فاعلاً لهما. وذهب الأخفش والمبرد إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس، فيجعل فاعلها كفاعلهما، وذلك إذا لم يدخله معنى التعجب. وإلى جواز إلحاقه بفعل التعجب فلا يجري مجرى نعم وبئس في الفاعل، ولا في بقية أحكامهما، بل يكون فاعله ما يكون مفعولاً لفعل التعجب، فيقول: لضربت يدك ولضربت اليد. والكلام على هذين المذهبين تصحيحاً وإبطالاً مذكور في علم النحو. والزمخشري لم يتبع واحداً من هذين المذهبين، بل خلط وركب، فأخذ التعجب من مذهب الأخفش، وأخذ التمثيل بقوله: وحسن الوجه وجهك، وحسن الوجه وجهك من مذهب الفارسي. وأما قوله: ولاستقلاله بمعنى التعجب، قرئ: وحسْن بسكون السين، وذكر أن المتعجب يقول: وحسن وحسن، فهذا ليس بشيء، لأن الفرّاء ذكر أن تلك لغات للعرب، فلا يكون التسكين، ولا هو والنقل لأجل التعجب. {ذلك الفضل من الله} الظاهر أن الإشارة إلى كينونة المطيع من النبيين، ومن عطف عليهم، لأنه هو المحكوم به في قوله: {فأولئك مع الذين} وكأنه على تقدير سؤال أي: وما الموجب لهم استواؤهم مع النبيين في الآخرة، مع أن الفرق بينهم في الدنيا بيِّن؟ فذكر أنَّ ذلك بفضله، لا بوجوب عليه. ومع استوائهم معهم في الجنة فهم متباينون في المنازل. وقيل: الإشارة إلى الثواب في قوله أجراً عظيماً. وقيل: إلى الطاعة. وقيل: إلى المرافقة. وقال الزمخشري: إنّ ما أعطى المطيعون من الأجر العظيم ومرافقة المنعم عليهم من الله، لأنه تفضل به عليهم تبعاً لثوابهم، وذلك مبتدأ والفضل خبره، ومِن الله حال، ويجوز أن يكونَ الفضل صفةً، والخبر من الله، ويجوز أن يكونا خبرين على مذهب من يجيز ذلك. {وكفى بالله عليماً} لما ذكر الطاعة وذكر جزاء من يطيع أتى بصفة العلم التي تتضمن الجزاء أي: وكفى به مجازياً لمن أطاع. قال ابن عطية: فيه معنى أن تقول: فشملوا فعل الله وتفضله من الاعتراض عليه، واكتفوا بعلمه في ذلك وغيره، ولذلك دخلت الباء على اسم الله تعالى لتدل على الأمر الذي في قوله: وكفى، انتهى. وقد بينا فساد قولَ مَن يدّعي أنَّ قولك: كفى بزيد معناه اكتف بزيد عند الكلام على قوله: {وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً} وقال الزمخشري: وكفى بالله عليماً، بجزاء من أطاعه. أو أراد فصل المنعم عليهم، ومزيتهم من الله لأنهم اكتسبوه بتمكينه وتوفيقه، وكفى بالله عليماً بعباده، فهو يوفقهم على حسب أحوالهم انتهى. وهي ألفاظ المعتزلة. {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً} مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر طاعته وطاعة رسوله، وكان من أهم الطاعات إحياء دين الله، أمر بالقيام بإحياء دينه، وإعلاء دعوته، وأمرهم أن لا يقتحموا على عدوهم على جهالة فقال: خذوا حذركم. فعلمهم مباشرة الحروب. ولما تقدم ذكر المنافقين، ذكر في هذه الآية تحذير المؤمنين من قبول مقالاتهم وتثبيطهم عن الجهاد، فنادى أولاً باسم الإيمان على عادته تعالى إذا أراد أن يأمر المؤمنين أو ينهاهم، والحذر والحذر بمعنى واحد. قالوا: ولم يسمع في هذا التركيب الأخذ حذرك لأخذ حذرك. ومعنى خذ حذرك: أي استعد بأنواع ما يستعد به للقاء من تلقاه، فيدخل فيه أخذ السلاح وغيره. ويقال: أخذ حذره إذا احترز من المخوف، كأنه جعل الحذر آلته التي يتقي بها ويعتصم، والمعنى: احترزوا من العدو. ثم أمر تعالى بالخروج إلى الجهاد جماعة جماعة، وسرية بعد سرية، أو كتيبة واحدة مجتمعة. وقرأ الجمهور: فانفِروا بكسر الفاء فبهما. وقرأ الأعمش: بضمها فيهما، وانتصاب ثبات وجميعاً على الحال، ولم يقرأ ثبات فيما علمناه إلا بكسر التاء. وقال الفراء: العرب تخفض هذه التاء في النصب وتنصبها. أنشدني بعضهم: فلما جلاها بالأيام تحيزت *** ثباتاً عليها ذلها واكتئابها ينشد بكسر التاء وفتحها انتهى. وأوفى أو انفروا للتخيير. وقال ابن عباس: هذه الآية نسختها. {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} قيل: وإنما عنى بذلك التخصيص إذ ليس يلزم النفر جماعتهم. {وإن منكم لمن ليبطئنّ} الخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن جريج وابن زيد في آخرين: لمن ليبطئن هم المنافقون، وجعلوا من المؤمنين باعتبار الجنس، أو النسب، أو الانتماء إلى الإيمان ظاهراً. وقال الكلبي: نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه. وقيل: هم ضعفة المؤمنين. ويبعد هذا القول قوله: عند مصيبة المؤمنين {قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً} وقوله: {كأن لم تكن بينكم وبينه مودة} ومثل هذا لا يصدر عن مؤمن، إنما يصدر عن منافق. واللام في ليبطئن لام قسم محذوف التقدير: للذي والله ليبطئن. والجملتان من القسم وجوابه صلة لمن، والعائد الضمير المستكن في ليبطئن. قالوا: وفي هذه الآية رد على من زعم من قدماء النحاة أنه لا يجوز وصل الموصول بالقسم وجوابه إذا كانت جملة القسم قد عريت من ضمير، فلا يجوز جاءني الذي أقسم بالله لقد قام أبوه، ولا حجة فيها لأنّ جملة القسم محذوفة، فاحتمل أن يكون فيها ضمير يعود على الموصول، واحتمل أنْ لا يكون. وما كان يحتمل وجهين لا حجة فيه على تعيين أحدهما، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم} في قراءة من نصب كلا وخفف ميم لما أي: وأن كلا للذي ليوفينهم على أحسن التخاريج. وقال ابن عطية: اللام في ليبطئن لام قسم عند الجمهور. وقيل: هي لام تأكيد بعد تأكيد انتهى. وهذا القول الثاني خطأ. وقرأ الجمهور: ليبطئن، بالتشديد. وقرأ مجاهد: ليبطئن بالتخفيف. والقراءتان يحتمل أن يكون الفعل فيهما لازماً، لأنهم يقولون: أبطأ وبطأ في معنى بطؤ، ويحتمل أن يكون متعدياً بالهمزة أو التضعيف من بطؤ، فعل اللزوم المعنى أنه يتثاقل ويثبط عن الخروج للجهاد، وعلى التعدّي يكون قد ثبط غيره وأشار له بالقعود، وعلى التعدي أكثر المفسرين. {فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله عليّّ إذ لم أكن معهم شهيداً} المصيبة: الهزيمة. سميت بذلك لما يلحق الإنسان من العتب بتولية الإدبار وعدم الثبات. ومن العرب من يختار الموت على الهزيمة وقد قال الشاعر: إن كنت صادقة كما حدثتني *** فنجوت منجى الحارث بن هشام ترك الأحبة أن يقاتل عنهم *** ونجا برأس طمره ولجام عيره بالانهزام وبالفرار عن الأحبة. وقال آخر في المدح على الثبات في الحرب والقتل فيه: وقد كان فوت الموت سهلاً فرده *** إليه الحفاظ المرء والخلق الوعر فأثبت في مستنقع الموت رجله *** وقال لها من تحت أخمصك الحشر وقيل: المصيبة القتل في سبيل الله، سموا ذلك مصيبة على اعتقادهم الفاسد، أو على أن الموت كله مصيبة كما سماه الله تعالى. وقيل: المصيبة الهزيمة والقتل. والشهيد هنا الحاضر معهم في معترك الحرب، أو المقتول في سبيل الله، يقوله المنافق استهزاء، لأنه لا يعتقد حقيقة المشهادة في سبيل الله.
|