الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***
{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)} {فمن بدله بعدما سمعه}: الظاهر أن الضمير يعود على الوصية بمعنى الإيصاء، أي: فمن بدّل الإيصاء عن وجهه إن كان موافقاً للشرع من الأوصياء والشهود بعدما سمعه سماع تحقق وتثبت، وعوده على الإيصاء أولى من عوده على الوصية، لأن تأنيث الوصية غير حقيقي، لأن ذلك لا يراعى في الضمائر المتأخرة عن المؤنث المجازي، بل يستوي المؤنث الحقيقي والمجازي في ذلك تقول: هند خرجت. والشمس طلعت، ولا يجوز طلع إلاَّ في الشعر، والتذكير على مراعاة المعنى وارد في لسانهم، ومنه. كخرعوبة البانة المنفطر *** ذهب إلى المعنى: القضيب، كأنه قال: كقضيب البانة، ومنه في العكس: جاءته كتابي، فاحتقرها على معنى الصحيفة. والضمير في {سمعه} عائد على الإيصاء كما شرحناه، وقيل: يعود على أمر الله تعالى في هذه الآية. وقيل: الهاء، في: {فمن بدله} عائدة إلى الفرض، والحكم، والتقدير: فمن بدل الأمر المقدم ذكره، ومَنْ: الظاهر أنها شرطية، والجواب: {فإنما إثمه} وتكون: مَنْ، عامة في كل مبدل: مَنْ رضي بغير الوصية في كتابة، أو قسمة حقوق، أو شاهد بغير شهادة، أو يكتمها، أو غيرهما ممن يمنع حصول المال ووصوله إلى مستحقه، وقيل: المراد بِمَنْ: متولي الإيصاء دون الموصي والموصى له، فإنه هو الذي بيده العدل والجنف والتبديل والإمضاء، وقيل: المراد: بِمَنْ: هو الموصي، نهي عن تغيير وصيته عن المواضع التي نهى الله عن الوصية إليها، لأنهم كانوا يصرفونها إلى الأجانب، فأمروا بصرفها إلى الأقربين. ويتعين على هذا القول أن يكون الضمير في قوله: {فمن بدّله} وفي قوله: {بعدما سمعه} عائداً على أمر الله تعالى في الآية، وفي قوله: {بعدما سمعه} دليل على أن الإثم لا يترتب إلاَّ بشرط أن يكون المبدل قد علم بذلك، وكنى بالسماع عن العلم لأنه طريق حصوله. {فإنما إثمه}: الضمير عائد على الإيصاء المبدل، أو على المصدر المفهوم من بدله، أي: فإنما إثم التبديل على المبدل، وفي هذا دليل على أن من اقترف ذنباً، فإنما وباله عليه خاصةً، فإن قصر الوصي في شيء مما أوصى به الميت، لم يلحق الميت من ذلك شيء، وراعى المعنى في قوله: {على الذين يبدلونه} إذ لو جرى على نسق اللفظ الأول لكان: فإنما إثمه، أو فإنما إثمه عليه على الذي يبدله، وأتى في جملة الجواب بالظاهر مكان المضمر ليشعر بعلية: الإثم الحاصل، وهو التبديل، وأتى بصلة: الذين، مستقبلة جرياً على الأصل، إذ هو مستقبل. {إن الله سميع عليم} في هاتين الصفتين تهديد ووعيد للمبدلين، فلا يخفى عليه تعالى شيء، فهو يجازيهم على تبديلهم شر الجزاء، وقيل: سميع لقول الموصي، عليم بفعل الموصي، وقيل: سميع لوصاياه، عليم بنياته. والظاهر القول الأول لمجيئه في أثر ذكر التبديل وما يترتب عليه من الإثم. {فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه} الظاهر أن الخوف هو الخشية هنا، جرياً على أصل اللغة في الخوف، فيكون المعنى: بتوقع الجنف أو الإثم من الموصي. قال مجاهد: المعنى: من خشي أن يجنف الموصي، ويقطع ميراث طائفة، ويتعمد الإذاية أو يأتيها دون تعمد، وذلك هو الجنف دون إثم، وإذا تعمد فهو الجنف في إثم، فوعظه في ذلك ورده، فصلح بذلك ما بينه وبين ورثته، فلا إثم عليه. {إن الله غفور} عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الأذية {رحيم} بِه. وقيل: يراد بالخوف هنا: العلم، أي: فمن علم، وخرّج عليه قوله تعالى: {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} وقول أبي محجن. أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها *** والعلقة بين الخوف والعلم حتى أطلق على العلم الخوف، وأن الإنسان لا يخاف شيئاً حتى يعلم أنه مما يخاف منه، فهو من باب التعبير بالمسبب عن السبب، وقال في (المنتخب): الخوف والخشية يستعملان بمعنى العلم، وذلك لأن الخوف عبارة عن حالة مخصوصة متولدة من ظنّ مخصوص، وبين الظنّ والعلم مشابهة في أمور كثيرة، فلذلك صح إطلاق كل واحد منهما على الأخر. انتهى كلامه. وعلى الخوف بمعنى العلم، قال ابن عباس، رضي الله عنهما، وقتادة، والربيع، معنى الآية: من خاف، أي علم بعد موت الموصي أن الموصي حاف وجنف وتعمد إذاية بعض ورثته، فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق، فلا إثم عليه، أي: لا يلحقه إثم التبديل المذكور قبل، وإن كان في فعله تبديلها، ولكنه تبديل لمصلحة، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى. وقال عطاء: المعنى: فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً في عطيته لورثته عند حضور أجله، فأعطى بعضاً دون بعض، فلا إثم عليه أن يصلح بين ورثته في ذلك. وقال طاووس: المعنى: فمن خاف من موصٍ جنفاً أو إثماً في وصيته لغير ورثته بما يرجع بعضه على ورثته، فأصلح بين ورثته فلا إثم عليه. وقال الحسن: هو أن يوصي للأجانب ويترك الأقارب، فيرّد إلى الأقارب، قال: وهذا هو الإصلاح. وقال السدي: المعنى: فمن خاف من موصٍ بآبائه وأقربائه جنفاً على بعضهم لبعض، فأصلح بين الآباء والأقرباء، فلا إثم عليه. وقال علي بن عيسى: هو مشتمل على أمر ماضٍ واقع، وأمر غير واقع، فإن كانت الوصية باقية أمر الموصي بإصلاحه، ورد من الجنف إلى النَّصَف، وإن كانت ماضية أصلحها الموصى إليه بعد موته. وقيل: هو أن يوصي لولد ابنته، يقصد بها نفع ابنته، وهذا راجع إلى قول طاووس المتقدم. وإذا فسرنا الخوف بالخشية، فالخوف إنما يصح في أمر مرتبط والوصية قد وقعت، فكيف يمكن تعليقها بالخوف؟ والجواب: أن المصلح إذا شاهد الموصي يوصي، فظهرت منه إمارات الجنف أو التعدي بزيادة غير مستحق، أو نقص مستحق، أو عدل عن مستحق، فأصلح عند ظهور الأمارات لأنه لم يقطع بالجنف والإثم، فناسب أن يعلق بالخوف، لأن الوصية لم تمض بعد ولم تقع، أو علق بالخوف وإن كانت قد وقعت لأنه له أن ينسخها أو يغيرها بزيادة أو نقصان، فلم يصر الجنف أو الإثم معلومين، لأن تجويز الرجوع يمنع من القطع أو علق بالخوف. وإن كانت الوصية استقرت ومات الموصي، يجوز أن يقع بين الورثة والموصى لهم مصالحة على وجه يزول به الميل والخطأ، فلم يكن الجنف ولا الإثم مستقراً، فعلق بالخوف. والجواب الأول أقوى، ومَنْ: شرطية، والجواب: فلا إثم عليه: و{من موص} متعلق، بخاف، أو بمحذوف تقديره: كائناً من موصٍ، وتكون حالاً، إذ لو تأخر لكان صفة، كقوله: {جنفاً أو إثماً} فلما تقدم صار حالاً، ويكون الخائف في هذين التقديرين، ليس الموصي، ويجوز أن يكون: مَنْ، لتبيين جنس الخائف، فيكون الخائف بعض الموصين على حد، مَنْ جاءك مِنْ رجل فأكرمه، أي: مَن جاءك مِن الرجال فالجائي رجل، والخائف هنا موصٍ. والمعنى: فمن خاف من الموصي جنفاً أو إثماً من ورثته ومَن يوصى له، فأصلح بينهم فلا إثم على الموصي المصلح، وهذا معنى لم يذكره المفسرون، إنما ذكروا أن الموصي مخوف منه لا خائف، وأن الجنف أو الإثم من الموصي لا من ورثته، ولا من يوصي له. وأمال حمزة {خاف} وقرأ هو والكسائي وأبو بكر: موص، من، وص والباقون: موص، من: أوصى، وتقدم أنهما لغتان. وقرأ الجمهور: جنفاً، بالجيم والنون، وقرأ علي: حيفاً، بالحاء والياء. وقال أبو العالية: الجنف الجهالة بموضع الوصية، والإثم: العدول عن موضعها، وقال عطاء، وابن زيد: الجنف: الميل، والإثم أن يكون قد أثم في ايثاره بعض الورثة على بعض، وقال السدي: الجنف: الخطأ، والإثم العمد. وأما الحيف فمعناه: البخس، وذلك بأن يريد أن يعطي بعض الورثة دون بعض قال الفراء: تحيف مال أي: نقصه من حافاته، وروي: من حاف في وصيته ألقي في ألوى، وألوى وادٍ في جهنم. {فأصلح بينهم}: الضمير عائد على الموصي والورثة، أو على الموصى لهما وعلى الورثة والموصى لهم على اختلاف الأقاويل التي سبقت، والظاهر عوده على الموصى لهم، إذ يدل على ذلك لفظ: الموصي، لما ذكر الموصي أفاد مفهوم الخطاب أن هناك موصى له، كما قيل في قوله: {وأداء إليه} أي: إلى العافي، لدلالة من عفى له، ومنه ما أنشده الفراء رحمه الله تعالى: وما أدري إذا يممت أرضاً *** أريد الخير أيهما يليني فقال: أيهما، فأعاد الضمير على الخير والشر، وإن لم يتقدم ذكر الشر، لكنه تقدم الخير وفيه دلالة على الشر. والظاهر أن هذا المصلح هو الوصي، والمشاهد ومن يتولى بعد موته ذلك من والٍ، أو ولي، أو مَن يأمر بالمعروف فكل هؤلاء يدخل تحت قوله: {فمن خاف} إذا ظهرت لهم أمارات الجنف أو الإثم، ولا وجه لتخصيص الخائف بالوصي، وأما كيفية هذا الإصلاح فبالزيادة أو النقصان، أو كف للعدوان {فلا إثم عليه} يعني: في تبديل الوصية إذا فعل ذلك لقصد الإصلاح، والضمير: عليه، عائد على من عاد عليه ضمير: فأصلح، وضمير: خاف، وهو: مَنْ، وهو: الخائف المصلح. وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، لما ذكر المبدل في أول الآية: وكان هذا من التبديل بين مخالفته للأول، وأنه لا إثم عليه، لأنه رد الوصية إلى العدد، ولما كان المصلح ينقص الوصايا، وذلك يصعب على الموصى له، أزال الشبهة بقوله: {فلا إثم عليه} وإن حصل فيه مخالفة لوصية الموصي، وصرف ماله عن من أحب إلى من يكره. انتهى. وهذا يرجع معناه إلى قوله الأول. وقال أيضاً: إن الإصلاح يحتاج إلى الإكثار من القول، وقد يتخلله بعض ما لا ينبغي من قول أو فعل، فبين أن ذلك لا إثم فيه إذا كان لقصد الإصلاح، ودلت الآية على جواز الصلح بين المتنازعين إذا خاف من يريد الصلح إفضاء تلك المنازعة إلى أمر محذور في الشرع. انتهى كلامه. {إن الله غفور رحيم}. قيل: غفور لما كان من الخائف، وقيل: للمصلح رحيم حيث رخص، وقيل: غفور للموصي فيما حدث به نفسه من الجنف والخطأ والعهد والإثم إذ رجع إلى الحق، رحيم للمصلح. وقال الراغب: أي متجاوز عن ما عسى أن يسقط من المصلح ما لم يجر. وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة، أن البر ليس هو تولية الوجوه قِبَلَ المشرق والمغرب، بل البر هو الإتيان بما كلفه الإنسان من تكاليف الشرع، اعتقاداً وفعلاً وقولاً. فمن الاعتقاد: الإيمان بالله، وملائكته الذين هم وسائط بينه وبين أنبيائه، وكتبه التي نزلت على أيدي الملائكة، وأنبيائه المتقين. تلك الكتب من ملائكته. ثم ذكر ما جاءت به الأنبياء عن الله في تلك الكتب، من: إيتاء المال، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيفاء بالعهد، والصبر في الشدائد. ثم أخبر أن من استوفى ذلك فهو الصابر المتقي، ولما كان تعالى قد ذكر قبل ما حلل وما حرم، ثم أتبع ذلك بمن أخذ مالاً من غير حله، وعده بالنار، وأشار بذلك إلى جميع المحرمات من الأموال، ثم ذكر من اتصف بالبر التام وأثنى عليهم بالصفات الحميدة التي انطووا عليها، أخذ تعالى يذكر ما حرم من الدماء، ويستدعي صونها، وكان تقديم ذكر المأكول لعمومِ البلوى بالأكل، فشرع القصاص، ولم يخرج من وقع منه القتل واقتص منه عن الإيمان، ألا تراه قد ناداه باسم الإيمان وفصل شيئاً من المكافأة فقال {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} ، ثم أخبر ذلك أنه إذا وقع عفو من الولي على دية فليتبع الولي بالمعروف، وليؤدي الجاني بالإحسان ليزرع بذلك الود بين القاتل والولي، ويزيل الإحن، لأن مشروعية العفو تستدعيعلى التآلف والتحاب وصفاء البواطن. ثم ذكر أن ذلك تخفيف منه تعالى، إذ فيه صون نفس القاتل بشيء من عرض الدنيا، ثم توعد من اعتدى بعد ذلك، ثم أخبر أن في مشروعية القصاص حياة، إذ من علم أنه مقتول بمن قتل، وكان عاقلاً، منعه ذلك من الإقدام على القتل، إذ في ذلك إتلاف نفس المقتول وإتلاف نفس قاتله، فيصير بمعرفته بالقصاص متحرزاً من أن يقتل فيقتل، فيحيي بذلك من أراد قتله وهو، فكان ذلك سبباً لحياتيهما. ثم ذكر تعالى مشروعية الوصية لمن حضره الموت، وذكر أن الوصية للوالدين والأقربين، وتوعد من بدل الوصية بعد ما علمها، ثم ذكر أنه لا إثم على من أصلح بين الموصى إليهم إذا كان جنفاً أو إثماً من الموصي، وأن ذلك لا يعد من التبديل الذي يترتب عليه الإثم، فجاءت هذه الآيات حاوية لما يطلب من المكلف من بدء حاله وهو: الإيمان بالله، وختم حاله وهو: الوصية عند مفارقة هذا الوجود، وما تخلل بينهما مما يعرض من مبارِّ الطاعات، وهَنَاتِ المعاصي، من غير استيعاب لأفراد ذلك، بل تنبيهاً على أفضل الأعمال بعد الإيمان، وهو: إقامة الصلاة وما بعدها وعلى أكبر الكبائر بعد الشرك، وهو: قتل النفس، فتعالى مَنْ كلامه فصل، وحكمه عدل.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)} الصيام والصوم مصدران لصامَ، والعرب تسمي كل ممسك صائماً، ومنه الصوم في الكلام {إني نذرت للرحمن صوماً} أي سكوتاً في الكلام، وصامت الريح: أمسكت عن الهبوب، والدابة: أمسكت عن الأكل والجري، وقال النابغة الذبياني: خيل صيام وخيل غير صائمة *** تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما أي: ممسكة عن الجري. وتسمى الدابة التي لا تدور: الصائمة، قال الراجز. والبكرات شرهن الصائمة *** وقالوا: صام النهار: ثبت حره في وقت الظهيرة واشتد، وقال. ذمول إذا صام النهار وهجرا *** وقال: حتى إذا صام النهار واعتدل *** ومال للشمس لعابٌ فنزل ومصام النجوم، إمساكها عن اليسر ومنه. كأن الثريا علقت في مصامها *** فهذا مدلول الصوم من اللغة. وأما الحقيقة الشرعية فهو: إمساك عن أشياء مخصوصة في وقت مخصوص ويبين في الفقه. الطاقة، والطوق: القدرة والاستطاعة، ويقال: طاق وأطاق كذا، أي: استطاعه وقدر عليه، قال أبو ذئب. فقلت له احمل فوق طوقك إنها *** مطبعة من يأتها لا يضيرها الشهر مصدر: شهر الشيء يشهره، أظهره ومنه الشهرة، وبه سمي الشهر، وهو: المدة الزمانية التي يكون مبدؤ الهلال فيها خافياً إلى أن يستسر، ثم يطلع خافياً. سمي بذلك لشهرته في حاجة الناس إليه في المعاملات وغيرها من أمورهم وقال الزجاج: الشهر الهلال. قال: والشهر مثل قلامة الظفر *** سمي بذلك لبيانه، وقيل: سمي الشهر شهراً باسم الهلال إذا أهل سمي شهراً، وتقول العرب: رأيت الشهر أي: هلاله. قال ذو الرمة (شعر). ترى الشهر قبل الناس وهو نحيل *** ويقال: أشهرنا، أي: أتى علينا شهر، وقال الفراء: لم أسمع منه فعلاً إلاَّ هذا، وقال الثعلبي: يقال شَهَرَ الهلال إذا طلع، ويجمع الشهر قلة على: أفعل، وكثرة على: فعول، وهما مقيسان فيه. رمضان علم على شهر الصوم، وهو علم جنس، ويجمع على: رمضانات وأرمضة، وعلقة هذا الاسم من مدة كان فيها في الرمضى، وهو: شدة الحرة، كما سمي الشهر ربيعاً من مدّة الربيع، وجمادى من مدّة الجمود، ويقال: رمض الصائم يرمض: احترق جوفه من شدة العطش، ورمضت الفِصال: أحرق الرمضاء أخفافها فبركت من شدّة الحر، وانزوت إلى ظلّ أمهاتها، ويقال: أرمضته الرمضاء: أحرقته، وأرمضني الأمر. وقيل: سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب، أي: يحرقها بالأعمال الصالحة، وقيل: لأن القلوب تحترمَنَّ الموعظة فيه والفكرة في أمر الآخرة، وقيل: من رمضت النصل: رققته بين حجرين ليرق، ومنه: نصل رميض ومرموض، عن ابن السكيت. وكانوا يرمضون أسلحتهم في هذا الشهر ليحاربوا بها في شوّال قبل دخول الأشهر الحرام، وكان هذا الشهر في الجاهلية يسمى: ناتقاً أنشد المفضل. وفي ناتق أحلت لدى حرمة الوغى *** وولت على الأدبار فرسان خثعما وقال الزمخشري: الرمضان، مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء. انتهى. ويحتاج في تحقيق أنه مصدر إلى صحة نقل لأن فعلاناً ليس مصدر فعل اللازم، بل إن جاء فيه ذلك كان شاذاً، والأولى أن يكون مرتجلاً لا منقولاً. وقيل: هو مشتق من الرمض، وهو مطر يأتي قبل الخريف يطهر الأرض من الغبار. القرآن: مصدر قرأ قرآنا. قال حسان، رضي الله عنه. محوا بإسمك عنوان السجود به *** يقطّع الليل تسبيحاً وقرآناً أي: وقراءة وأطلق على ما بين الدفتين من كلام الله عزّ وجلّ، وصار علماً على ذلك، وهو من إطلاق المصدر على اسم المفعول في الأصل، ومعنى: قرآن، بالهمز: الجمع لأنه يجمع السور، كما قيل في القرء، وهو: إجماع الدّم في الرحم أولاً، لأن القارئ يلقيه عند القراءة من قول العرب: ما قرأت هذه الناقة سلا قط: أي: ما رمت به، ومن لم يهمز فالأظهر أن يكون ذلك من باب النقل والحذف، أو تكون النون أصلية من: قرنت الشيء إلى الشيء: ضممته، لأن ما فيه من السور والآيات والحروف مقترن بعضها إلى بعض. أو لأن ما فيه من الحكم والشرائع كذلك، أو ما فيه من الدلائل ومن القرائن، لأن آياته يصدّق بعضها بعضاً، ومن زعم من: قريت الماء في الحوض، أي: جمعته، فقوله فاسد لاختلاف المادتين. السفر: مأخوذ من قولهم: سفرت المرأة إذا ألقت خمارها، والمصدر السفور. قال الشاعر. وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت *** فقد رابني منها الغداة سفورها وتقول: سفر الرجل ألقى عمامته، وأسفر الوجه، والصبح أضاء. الأزهري سمي مسافراً لكشف قناع الكنّ عن وجهه، وبروزه للأرض الفضاء، والسفْر، بسكون الفاء: المسافرون، وهو اسم جمع: كالصحْب والركْب، والسِفر من الكتب: واحد الأسفار لأنه يكشف عما تضمنة. اليسر: السهولة، يسَّر: سهّل، ويسُر: سهُل، وأيسر: استغنى، ويسر، من الميسر، وهو: قمار، معروف. وقال علقمة:. لا ييسرون بخيل قد يسرت بها *** وكل ما يسر الأقوام مغروم وسميت اليد اليسرى تفاؤلاً، أو لأنه يسهل بها الأمر لمعاونتها اليمنى. العسر: الصعوبة والضيق، ومنه أعسر اعساراً، وذو عسرة، أي: ضيق. الإكمال: الإتمام. والإجابة: قد يراد بها السماع، وفي الحديث أن أعرابياً قال: يا محمد. قال: قد أجبتك. وقالوا: دعاء من لا يجيب، أي: من لا يسمع، كما أن السماع قد يراد به الإجابة، ومنه: سمع الله لمن حمده. وأنشد ابن الاعرابي حيث قال: دعوت الله حتى خفت أن لا *** يكون الله يسمع ما أقول وجهة المجاز بينهما ظاهرة لأن الإجابة مترتبة على السماع، والإجابة حقيقة إبلاغ السائل ما دعا به، وأجاب واستجاب بمعنى، وألفه منقلبة عن واو، يقال: جاب يجوب: قطع، فكأن المجيب اقتطع للسائل ما سأل أن يعطاه، ويقال: أجابت السماء بالمطر، وأجابت الأرض بالنبات، كأن كلاَّ منهما سأل صاحبه فأجابه بما سأل. قال زهير. وغيث من الوسمي حلو بلاغه *** أجابت روابيه النجا وهواطل الرشد. ضد الغي، يقال: رشد بالفتح، رشداً، ورشِد بالكسر رِشداً، وأرشدت فلاناً: هديته، وطريق أرشد، أي: قاصد، والمراشد: مقاصد الطريق، وهو لرشدة، أي: هو لحلال، وهو خلاف هو لزينة، وأم راشد: المفازة، وبنو رشدان: بطن من العرب، وبنو راشد قبيلة كبيرة من البربر. الرفث: مصدر رفث، ويقال: أرفث: تكلم بالفحش. قال العجاج: وربّ أسراب حجيج كظم *** عن اللغا ورفث التكلم وقال ابن عباس، والزجاج، وغيرهما: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة. وأنشد ابن عباس: وهنّ يمشين بنا هميساً *** إن تصدق الطيرننك لميسا فقيل له: أترفث وأنت محرم، فقال: إنما الرفث عند النساء، وفي الحديث: «من حج هذا البنية فلم يرفث ولم يفسق خرج منها كيوم ولدته أمه». وقيل: الرفث: الجماع، واستدل على ذلك بقول الشاعر: ويرين من أنس الحديث زوانيا *** ولهنّ عن رفث الرجال نفار وبقول الآخر. فيأتوا يرفثون وباتِ منّا *** رجال في سلاحهم ركوبا وبقول الآخر: فظلنا هناك في نعمة *** وكل اللذاذة غير الرفث ولا دلالة في ذلك، إذ يحتمل أن يكون أراد المقدمات: كالقبلة والنظرة والملاعبة. أختان: من الخيانة، يقال: خان خوناً وخيانةً، إذا لم يف، وذلك ضد الأمانة، وتخونت الشيء: نقصته، ومنه الخيانة، وهو ينقص المؤتمن. وقال زهير: بارزة الفقارة لم يخنها *** قطاف في الركاب ولا خلاء وتخوّنه وتخوّله: تعهده. الخيط: معروف، ويجمع على فعول وهو فيه مقيس، أعني في فعل الاسم الياء العين نحو: بيت وبيوت، وجيب وجيوب، وغيب وغيوب، وعين وعيون، والخيط، بكسر الخاء: الجماعة من النعام، قال الشاعر: فقال ألا هذا صوار وعانة *** وخِيطُ نعام يرتقي متفرق البياض والسواد: لونان معروفان، يقال منهما: بيض وسود. فهو أبيض وأسود، ولم يعل العين بالنقل والقلب لأنها في معنى ما يصح وهما: أبيض وأسود. العكوف: الإقامة، عكف بالمكان: أقام به، قال تعالى: {يعكفون على أصنام لهم} وقال الفرزدق يصف الجفان: ترى حولهنّ المعتفين كأنهم *** على صنم في الجاهلية عكّف وقال الطرماح: باتت بنات الليل حولي عكّفا *** عكوف البواكي بينهن صريع وفي الشرع عبارة عن عكوف مخصوف، وقد بين في كتب الفقه. الحد، قال الليث: حدّ الشيء: منتهاه ومنقطعه، والمراد بحدود الله مقدّراته بمقادير مخصوصة وصفات مخصوصة. الإدلاء: الإرسال للدلو، اشتق منه فعل، فقالوا: أدلى دلوه، أي: أرسلها ليملأها، وقيل: أدلى فلان بماله إلى الحاكم: رفعه. قال: وقد جعلت إذا ما حاجة عرضت *** بباب دارك أدلوها بأقوامِ ويقال: أدلى فلان بحجته: قام بها، وتدلى من كذا أي: هبط. قال: كتيس الظباء الأعفر انضرجت له *** عقاب تدلت من شماريخ ثهلان {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام}: مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه أخبر تعالى: أولاً: بكتب القصاص وهو: إتلاف النفوس، وهو من أشق التكاليف، فيجب على القاتل إسلام نفسه للقتل، ثم أخبر ثانياً بكتب الوصية وهو: إخراج المال الذي هو عديل الروح، ثم انتقل ثالثاً إلى كتب الصيام، وهو: منهك للبدن، مضعف له، مانع وقاطع ما ألفه الإنسان من الغذاء بالنهار، فابتداء بالأشق ثم بالأشق بعده، ثم بالشاق فبهذا انتقال فيما كتبه الله على عباده في هذه الآية، وكان فيما قبل ذلك قد ذكر أركان الإسلام ثلاثة: الإيمان، والصلاة، والزكاة، فأتى بهذا الركن الرابع، وهو: الصوم. وبناء {كُتب} للمفعول في هذه المكتوبات الثلاثة، وحذف الفاعل للعلم به، إذ هو: الله تعالى، لأنها مشاق صعبة على المكلف، فناسب أن لا تنسب إلى الله تعالى، وإن كان الله تعالى هو الذي كتبها، وحين يكون المكتوب للمكلف فيه راحة واستبشار يبني الفعل للفاعل، كما قال تعالى: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} وهذا من لطيف علم البيان. أما بناء الفعل للفاعل في قوله: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} فناسب لاستعصاء اليهود وكثرة مخالفاتهم لأنبيائهم بخلاف هذه الأمة المحمدية، ففرق بين الخطابين لافتراق المخاطبين، ونادى المؤمنين عند إعلامهم بهذا المكتوب الثالث الذي هو الصيام لينبههم على استماع ما يلقي إليهم من هذا التكليف، ولم يحتج إلى نداء في المكتوب الثاني لانسلاكه مع الأول في نظام واحد، وهو: حضور الموت بقصاص أو غيره، وتباين هذا التكليف الثالث منها، وقدم الجار والمجرور على المفعول به الصريح وإن كان أكثر الترتيب العربي بعكس ذلك، نحو: ضُرب زيد بسوط، لأن ما أحتيج في تعدي الفعل إليه إلى واسطة دون ما تعدى إليه بغير واسطة، لأن البداءة بذكر المكتوب عليه أكثر من ذكر المكتوب لتعلق الكتب لمن نودي، فتعلم نفسه أولاً أن المنادى هو المكلف، فيرتقب بعد ذلك لما كلف به. والألف واللام في: الصيام، للعهد إن كانت قد سبقت تعبداتهم به، أو للجنس إن كانت لم تسبق. وجاء هذا المصدر على فعال، وهو أحد البنائين الكثيرين في مصدر هذا النوع من الفعل، وهو فعل الواوي العين، الصحيح الآخر، والبناآن هما فعول وفعال، وعدل عن الفعول وإن كان الأصل لاستثقال الواوين، وقد جاء منه شيء على الأصل: كالفؤور، ولثقل اجتماع الواوين همز بعضهم فقال: الفؤور. {كما كتب} الظاهر أن هذا المجرور في موضع الصفة لمصدر محذوف، أو في موضع الحال على مذهب سيبويه على ما سبق، أي: كتباً مثل ما كتب أو كتبه، أي: الكتب منها كتب، وتكون السببية قد وقع في مطلق الكتب وهو الإيجاب، وإن كان متعلقه مختلفاً بالعدد أو بغيره، وروي هذا المعنى عن معاذ بن جبل، وعطاء، وتكون إذ ذاك ما مصدرية. وقيل: الكاف في موضع نصب على الحال من الصيام، أي: مشبهاً ما كتب على الذين من قبلكم، وتكون ما موصولة أي: مشبهاً الذي كتب عليكم، وذو الحال هو: الصيام، والعامل فيها العامل فيه، وهو: كتب عليكم. وأجاز ابن عطية أن تكون الكاف في موضع صفة لصوم محذوف، التقدير: صوماً كما، وهذا فيه بُعد، لأن تشبيه الصوم بالكتابة لا يصح، هذا إن كانت ما مصدرية، وأما إن كانت موصولة ففيه أيضاً بُعد، لأن تشبيه الصوم بالمصوم لا يصح إلاَّ على تأويل بعيد. وأجاز بعض النحاة أن تكون الكاف في موضع رفع على أنها نعت لقوله: الصيام، قال: إذ ليس تعريفه بمستحسن لمكان الإجمال الذي فيه مما فسرته الشريعة، فلذلك جاز نعته بكما، إذ لا ينعت بها إلاَّ النكرات، فهي بمنزلة: {كتب عليكم الصيام} انتهى كلامه، وهو هدم للقاعدة النحوية من وجوب توافق النعت والمنعوت في التعريف والتنكير، وقد ذهب بعضهم إلى نحو من هذا، وأن الألف واللام إذا كانت جنسية جاز أن يوصف مصحوبها بالجملة، وجعل من ذلك قوله تعالى: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} ولا يقوم دليل على إثبات هدم ما ذهب إليه النحويون، وتلخص في: ما، من قوله: كما وجهان أحدهما: أن تكون مصدرية، وهو الظاهر، والآخر: أن تكون موصولة، بمعنى. الذي. {على الذين من قبلكم}: ظاهره عموم الذين من قبلنا من الأنبياء وأممهم من آدم إلى زماننا. وقال عليّ: أولهم آدم، فلم يفترضها عليكم، يعني: أن الصوم عبادة قديمة أصلية ما أخلى الله أمة من افتراضها عليهم، فلم يفترضها عليكم خاصة، وقيل: الذين من قبلنا هم النصارى. قال الشعبي وغيره: والمصوم معين وهو رمضان فرض على الذين من قبلنا وهم النصارى، احتاطوا له بزيادة يوم قبله ويوم بعده قرناً بعد قرن حتى بلغوه خمسين يوماً، فصعب عليهم في الحر، فنقلوه إلى الفصل الشمسي. قال النقاش: وفي ذلك حديث عن دغفل، والحسن، والسدي. وقيل: بل مرض ملك من ملوكهم، فنذر أن برئ أن يزيد فيه عشرة أيام، ثم أخرّ سبعة، ثم آخر ثلاثة، ورأوا أن الزيادة فيه حسنة بإزاء الخطأ في نقله. وقيل: كان النصارى أولاً يصومون، فإذا أفطروا فلا يأكلون ولا يشربون ولا يطؤون إذا ناموا، ثم انتبهوا في الليل، وكان ذلك في أول الإسلام، ثم نسخ بسبب عمر، وقيس بن صرمة. قال السدي أيضاً، والربيع وأبو العالية. قيل: وكذا كان صوم اليهود، فيكون المراد: بالذين من قبلنا، اليهود والنصارى، وقيل: الذين من قبلنا: هم اليهود خاصة، فرض علينا كما فرض عليهم، ثم نسخه الله بصوم رمضان. قال الراغب: للصوم فائدتان رياضة الإنسان نفسه عن ما تدعوه إليه من الشهوات، والاقتداء بالملأ الأعلى على قدر الوسع. انتهى. وحكمة التشبيه أن الصوم عبادة شاقة، فإذا ذكر أنه كان مفروضاً على من تقدّم من الأمم سهلت هذه العبادة. {تتقون} الظاهر: تعلق، لعل بكتب، أي: سبب فرضية الصوم هو رجاء حصول التقوى لكم، فقيل: المعنى تدخلون في زمرة المتقين، لأن الصوم شعارهم، وقيل: تجعلون بينكم وبين النار وقاية بترك المعاصي، فإن الصوم لإضعاف الشهوة وردعها، كما قال عليه السلام «فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء» وقيل: تتقون الأكل والشرب والجماع في وقت وجوب الصوم، قاله السدي. وقيل: تتقون المعاصي، لأن الصوم يكف عن كثير مما تشوق إليه النفس، قاله الزجاج. وقيل: تتقون محظورات الصوم، وهذا راجع لقول السدي. {أياماً معدودات} إن كان ما فرض صومه هنا هو رمضان، فيكون قوله أياماً معدودات عنى به رمضان، وهو قول ابن أبي ليلى وجمهور المفسرين، ووصفها بقوله: معدودات، تسهيلاً على المكلف بأن هذه الأيام يحصرها العد ليست بالكثيرة التي تفوّت العد، ولهذا وقع الاستعمال بالمعدود كناية على القلائل، كقوله: {في أيام معدودات} {لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} {وشروه بثمن بخس دراهم معدودة} وإن كان ما فرض صومه هو ثلاثة أيام من كل شهر، وقيل: هذه الثلاثة ويوم عاشوراء، كما كان ذلك مفروضاً على الذين من قبلنا، فيكون قوله: {أياماً معدودات} عنى بها هذه الأيام، وإلى هذا ذهب ابن عباس، وعطاء. قال ابن عباس، وعطاء، وقتادة: هي الأيام البيض، وقيل: وهي: الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر، وقيل: الثالث عشر ويومان بعده، وروي في ذلك حديث. «إن البيض هي الثالث عشر ويومان بعده» فإن صح لم يمكن خلافه. وروى المفسرون أنه كان في ابتداء الإسلام صوم ثلاثة أيام من كل شهر واجباً، وصوم يوم عاشوراء، فصاموا كذلك في سبعة عشر شهراً، ثم نسخ بصوم رمضان. قال ابن عباس: أول ما نسخ بعد الهجرة أمر القبلة، والصوم، ويقال: نزل صوم شهر رمضان قبل بدر بشهر وأيام، وقيل: كان صوم تلك الأيام تطوعاً، ثم فرض، ثم نسخ. قال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في (ري الظمآن): احتج من قال إنها غير رمضان بقوله صلى الله عليه وسلم: «صوم رمضان نسخ كل صوم»، فدل على أن صوماً آخر كان قبله، ولأنه تعالى ذكر المريض والمسافر في هذه الآية ثم ذكر حكمها في الآية الآتية بعده، فإن كان هذا الصوم هو صوم رمضان لكان هذا تكريراً، ولأن قوله تعالى: {فدية} يدل على التخيير، وصوم رمضان واجب على التعيين، فكان غيره، وأكثر المحققين على أن المراد بالأيام: شهر رمضان، لأن قوله: {كتب عليكم الصيام} يحتمل يوماً ويومين وأكثر، ثم بينه بقوله: {شهر رمضان} وإذا أمكن حمله على رمضان فلا وجه لحمله على غيره، وإثبات النسخ؛ وأما الخبر فيمكن أن يحمل على نسخ كل صوم وجب في الشرائع المتقدمة، أو يكون ناسخاً لصيام وجب لهذه الامة، وأما ما ذكر من التكرار فيحتمل أن يكون لبيان إفطار المسافر والمريض في رمضان في الحكم، بخلاف التخيير في المقيم، فإنه يجب عليهما القضاء، فلما نسخ عن المقيم الصحيح وألزم الصوم، كان من الجائز أن نظن أن حكم الصوم، لما انتقل إلى التخيير عن التضييق، يعم الكل حتى يكون المريض والمسافر فيه بمنزلة المقيم من حيث تغير الحكم في الصوم، لما بين أن حال المريض والمسافر في رخصة الإفطار ووجوب القضاء كحالهما أولاً، فهذه فائدة الإعادة، وهذا هو الجواب عن الثالث، وهو قولهم: لأن قوله تعالى: {فدية} يدل على التخيير إلى آخره، لأن صوم رمضان كان واجباً مخيراً، ثم صار معيناً. وعلى كلا القولين لا بد من النسخ في الآية، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن هذه الآية تقتضي أن يكون صوم رمضان واجباً مخيراً، والآية التي بعد تدل على التضييق، فكانت ناسخة لها، والاتصال في التلاوة لا يوجب الاتصال في النزول. انتهى كلامه. وانتصاب قوله: {أياماً} على إضمار فعل يدل عليه ما قبله، وتقديره: صوموا أياماً معدودات، وجوزوا أن يكون منصوباً بقوله: الصيام، وهو اختيار الزمخشري، إذ لم يذكره غيره، قال: وانتصاب أياماً بالصيام كقولك: نويت الخروج يوم الجمعة انتهى كلامه وهو خطأ، لأن معمول المصدر من صلته، وقد فصل بينهما بأجنبي وهو قوله: {كما كتب} فكما كتب ليس لمعمول المصدر، وإنما هو معمول لغيره على أي تقدير قدرته من كونه نعتاً لمصدر محذوف، أو في موضع الحال، ولو فرعت على أنه صفة للصيام على تقدير: أن تعريف الصيام جنس، فيوصف بالنكرة، لم يجز أيضاً، لأن المصدر إذا وصف قبل ذكر معموله لم يجز إعماله، فإن قدَّرت الكاف نعتاً لمصدر من الصيام، كما قد قال به بعضهم، وضعَّفناه قبل، فيكون التقدير: صوماً كما كتب، جاز أن يعمل في: أياماً، الصيام، لأنه إذ ذاك العامل في صوماً، هو المصدر، فلا يقع الفصل بينهما، بما ليس لمعمول للمصدر، وأجازوا أيضاً انتصاب: أياماً، على الظرف، والعامل فيه كتب، وأن يكون مفعولاً على السعة ثانياً، والعامل فيه كتب، وإلى هذا ذهب الفراء، والحوفي، وكلا القولين خطأ. أما النصب على الظرف فإنه محل للفعل، والكتابة ليست واقعة في الأيام، لكن متعلقها هو الواقع في الأيام، فلو قال الإنسان لوالده وكان ولد يوم الجمعة: سرني ولادتك يوم الجمعة، لم يكن أن يكون يوم الجمعة معمولاً لسرني، لأن، السرور يستحيل أن يكون يوم الجمعة، إذ ليس بمحل للسرور الذي أسنده إلى نفسه، وأما النصب على المفعول اتساعاً فإن ذلك مبني على جواز وقوعه ظرفاً لكتب، وقد بينا أن ذلك خطأ. والصوم: نفل وواجب، والواجب معين الزمان، وهو: صوم رمضان والنذر المعين، وما هو في الذمة، وهو: قضاء رمضان، والنذر غير المعين، وصوم الكفارة. وأجمعوا على اشتراط النية في الصوم، واختلفوا في زمانها. فمذهب أبي حنيفة: أن رمضان، والنذر المعين، والنفل يصح بنية من الليل، وبنية إلى الزوال، وقضاء رمضان، وصوم الكفارة، ولا يصح إلاَّ بنية من الليل خاصة. ومذهب مالك على المشهور: أن الفرض والنفل لا يصح إلاَّ بنية من الليل. ومذهب الشافعي: أنه لا يصح واجب إلاَّ بنية من الليل. ومذهب مالك: أن نية واحدة تكفي عن شهر رمضان. وروي عن زفر أنه إذا كان صحيحاً مقيماً فأمسك فهو صائم، وإن لم ينو. ومن صام رمضان بمطلق نية الصوم أو بنية واجب آخر، فقال أبو حنيفة: ما تعين زمانه يصح بمطلق النية، وقال مالك، والشافعي: لا يصح إلاَّ بنية الفرض، والمسافر إذا نوى واجباً آخر وقع عما نوى، وقال أبو يوسف، ومحمد: يقع عن رمضان، فلو نوى هو أو المريض التطوع فعن أبي حنيفة: يقع عن الفرض، وعنه أيضاً: يقع التطوع، وإذا صام المسافر بنية قبل الزوال جاز، قال زفر: لا يجوز النفل بنية بعد الزوال، وقال الشافعي: يجوز ولو أوجب صوم وقت معين فصام عن التطوع، فقال أبو يوسف: يقع على المنذور، ولو صام عن واجب آخر في وقت الصوم الذي أوجبه وقع عن ما نوى، ولو نوى التطوع وقضاء رمضان، فقال أبو يوسف: يقع عن القضاء، ومحمد قال: عن التطوع، ولو نوى قضاء رمضان وكفارة الظهار كان على القضاء في قول أبي يوسف، وقال محمد: يقع على النفل، ولو نوى الصائم الفطر فصومه تام، وقال الشافعي: يبطل صومه. ودلائل هذه المسائل تذكر في كتب الفقه. {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} ظاهر اللفظ اعتبار مطلق المرض بحيث يصدق عليه الأسم، وإلى ذلك ذهب ابن سيرين، وعطاء، والبخاري. وقال الجمهور: هو الذي يؤلم، ويؤذي، ويخاف تماديه، وتزيده؛ وسمع من لفظ مالك: أنه المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به التلف إذا صام، وقال مرة: شدة المرض والزيادة فيه؛ وقال الحسن، والنخعي: إذا لم يقدر من المرض على الصيام أفطر. وقال الشافعي: لا يفطر إلاَّ من دعته ضرورة المرض إليه، ومتى احتمل الصوم مع المرض لم يفطر. وقال أبو حنيفة: إن خاف أن تزداد عينه وجعاً أو حمى شديدة أفطر. وظاهر اللفظ اعتبار مطلق السفر زماناً وقصداً. وقد اختلفوا في المسافة التي تبيح الفطر، فقال ابن عمر، وابن عباس، والثوري وأبو حنيفة: ثلاثة أيام. وروى البخاري أن ابن عمر، وابن عباس كانا يفطران ويقصران في أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخاً، وقد روي عن ابن أبي حنيفة: يومان وأكثر ثلاث، والمعتبر السير الوسط لا غيره من الإسراع والإبطاء. وقال مالك: مسافة الفطر مسافة القصر، وهي يوم وليلة، ثم رجع فقال: ثمانية وأربعون ميلاً، وقال مرة: اثنان وأربعون، ومرة ستة وأربعون؛ وفي المذهب: ثلاثون ميلاً، وفي غير المذهب ثلاثة أميال. وأجمعوا على أن سفر الطاعة من جهاد وحج وصلة رحم وطلب معاش ضروري مبيح. فأما سفر التجارة والمباح ففيه خلاف، وقال ابن عطية: والقول بالإجازة أظهر، وكذلك سفر المعاصي مختلف فيه أيضاً، والقول بالمنع أرجح. انتهى كلامه. واتفقوا على أن المسافر في رمضان لا يجوز له أن يبيت الفطر، قالوا: ولا خلاف أنه لا يجوز لمؤمل السفر أن يفطر قبل أن يخرج، فان أفطر فقال أشهب: لا يلزمه شيء سافر، أو لم يسافر. وقال سحنون: عليه الكفارة سافر، أو لم يسافر، وقال عيسى، عن ابن القاسم: لا يلزمه إلاَّ قضاء يومه، وروي عن أنس أنه أفطر وقد أراد السفر، ولبس ثياب السفر، ورجل دابته، فأكل ثم ركب. وقال الحسن يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن يخرج، وقال أحمد: إذا برز عن البيوت، وقال إسحاق: لا بل حتى يضع رجله في الرحل. ومن أصبح صحيحاً ثم اعتل أفطر بقية يومه، ولو أصبح في الحضر ثم سافر فله أن يفطر، وهو قول ابن عمر، والشعبي، وأحمد، وإسحاق، وقيل: لا يفطر يومه ذلك، وإن نهض في سفره وهو قول الزهري، ويحيى الأنصاري، ومالك، والأوزاعي، وابن حنيفة، والشافعي، وأبي ثور، وأصحاب الرأي. واختلفوا إن أفطر، فكل هؤلاء قال: يقضي ولا يكفر. وقال ابن كنانة: يقضي ويكفر، وحكاه الباجي عن الشافعي، وقال به ابن العربي واختاره، وقال أبو عمر بن عبد البر: ليس بشيء، لأن الله أباح له الفطر في الكتاب والسنة، ومن أوجب الكفارة فقد أوجب ما لم يوجبه الله. وظاهر قوله: {أو على سفر} إباحة الفطر للمسافر، ولو كان بيت نية الصوم في السفر فله أن يفطر وإن لم يكن له عذر، ولا كفارة عليه، قاله الثوري، وأبو حنيفة، والأوزاعي، والشافعي وسائر فقهاء الكوفة. وقال مالك: عليه القضاء والكفارة، وروي عنه أيضاً أنه: لا كفارة عليه، وهو قول أكثر أصحابه. وموضع {أو على السفر}، نصب لأنه معطوف على خبر: كان، ومعنى: أو، هنا التنويع، وعدل عن اسم الفاعل وهو: أو مسافر إلى، أو على سفر، إشعاراً بالاستيلاء على السفر لما فيه من الاختيار للمسافر، بخلاف المرض، فإنه يأخذ الإنسان من غير اختيار، فهو قهري، بخلاف السفر؛ فكان السفر مركوب الإنسان يستعلي عليه، ولذلك يقال: فلان على طريق، وراكب طريق إشعاراً بالاختيار، وأن الإنسان مستولٍ على السفر مختارٌ لركوب الطريق فيه. {فعدة من أيام أخر} قراءة الجمهور برفع عدة على أنه مبتدأ محذوف الخبر، وقدر: قبل، أي: فعليه عدة وبعد أي: أمثل له، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: فالواجب، أو: فالحكم عدة. وقرئ: فعدة، بالنصب على إضمار فعل، أي: فليصم عدة، وعدة هنا بمعنى معدود، كالرعي والطحن، وهو على حذف مضاف، أي: فصوم عدة ما أفطر، وبين الشرط وجوابه محذوف به يصح الكلام، التقدير: فافطر فعدة، ونظير في الحذف: {أن أضرب بعصاك البحر فانفلق} أي: فضرب فانفلق. ونكر {عدة} ولم يقل: فعدتها، أي: فعدة الأيام التي أفطرت اجتزاءً، إذ المعلوم أنه لا يجب عليه عدة غير ما أفطر فيه مما صامه، والعدة هي المعدود، فكان التنكير أخصر و{من أيام} في موضع الصفة لقوله فعدة، وأخر: صفة لأيام، وصفة الجمع الذي لا يعقل تارة يعامل معاملة الواحدة المؤنثة وتارة يعامل معاملة جمع الواحدة المؤنثة. فمن الأول: {إلا أياماً معدودة} ومن الثاني: {إلا أياماً معدودات} فمعدودات: جمع لمعدودة. وأنت لا تقول: يوم معدودة، إنما تقول: معدود، لأنه مذكر، لكن جاز ذلك في جمعه، وعدل عن أن يوصف الأيام بوصف الواحدة المؤنث، فكان، يكون: من أيام أخرى، وإن كان جائزاً فصيحاً كالوصف بأخر لأنه كان يلبس أن يكون صفة لقوله {فعدة}، فلا يدرى أهو وصف لعدة، أم لأيام، وذلك لخفاء الإعراب لكونه مقصوراً، بخلاف: {أخر} فإنه نص في أنه صفة لأيام لاختلاف إعرابه مع إعراب فعدة، أفلا ينصرف للعلة التي ذكرت في النحو، وهي جمع أخرى مقابلة أخر؟ وأخر مقابل أخريين؟ لا جمع أخرى لمعنى أخرة، مقابلة الآخر المقابل للأول، فإن أخر تأنيث أخرى لمعنى أخرة مصروفة. وقد اختلفا حكماً ومدلولاً. أما اختلاف الحكم فلأن تلك غير مصروفة، وأما اختلاف المدلول: فلأن مدلول أخرى، التي جمعها أخر التي لا تتصرف، مدلول: غير، ومدلول أخرى التي جمعها ينصرف مدلول: متأخرة، وهي قابلة الأولى. قال تعالى: {قالت أولاهم لاخراهم} فهي بمعنى: الآخرة، كما قال تعالى: {وإن لنا للآخرة والأولى} وأخر الذي مؤنثه: أخرى مفردة آخر التي لا تنصرف بمعنى: غير، لا يجوز أن يكون ما اتصل به إلاَّ مِن جنس ما قبله، تقول: مررت بك وبرجل آخر، ولا يجوز: اشتريت هذا الفرس وحماراً آخر، لأن الحمار ليس من جنس الفرس، فأما قوله: صلى على عزة الرحمان وابنتها *** ليلى، وصلى على جاراتها الآخر فإنه جعل: ابنتها جارة لها، ولولا ذلك لم يجز، وقد أمعنا الكلام على مسألة أخرى في كتابتا (التكميل). قالوا: واتفقت الصحابة ومن بعدهم من التابعين وفقهاء الأمصار على جواز الصوم للمسافر، وأنه لا قضاء عليه إذا صام، لأنهم، كما ذكرنا، قدروا حذفاً في الآية، والأصل: أن لا حذف، فيكون الظاهر أن الله تعالى أوجب على المريض والمسافر عدة من أيام أخر، فلو صاما لم يجزهما، ويجب عليهما صوم عدة ما كانا فيه من الأيام الواجب صومها على غيرهما. قالوا: وروي عن أبي هريرة أنه قال: من صام في السفر فعليه القضاء وتابعه عليه شواذ من الناس، ونقل ذلك ابن عطية عن عمر، وابنه عبد الله، وعن ابن عباس: أن الفطر في السفر عزيمة، ونقل غيره عن عبد الرحمن بن عوف: الصائم في السفر كالمفطر في الحضر، وقال به قوم من أهل الظاهر، وفرق أبو محمد بن حزم بين المريض والمسافر فقال، فيما لخصناه في كتابنا المسمى ب (الأنور الأجلى في اختصار المحلى) ما نصه: ويجب على من سافر ولو عاصياً ميلاً فصاعداً الفطر إذا فارق البيوت في غير رمضان، وليفطر المريض ويقضي بعد، ويكره صومه ويجزى، وحجج هذه الأقوال في كتب الفقه. وثبت بالخبر المستفيض أن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر، وروى ذلك عنه أبو الدرداء، وسلمة بن المحنق، وأبو سعيد، وجابر، وأنس، وابن عباس عنه إباحة الصوم والفطر في السفر، بقوله لحمزة بن عمرو الأسلمي وقد قال: أصوم في السفر؟ قال: «إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر» وعلى قول الجمهور: أن ثم محذوفاً، وتقديره: فأفطر، وأنه يجوز للمسافر أن يفطر وأن يصوم. واختلفوا في الأفضل، فذهب أبو حنيفة، وأصحابه، ومالك، والشافعي في بعض ما روي عنهما: إلى أن الصوم أفضل، وبه قال من الصحابة: عثمان بن أبي العاص الثقفي، وأنس بن مالك. قال ابن عطية: وذهب أنس بن مالك إلى الصوم، وقال: إنما نزلت الرخصة ونحن جياع نروح إلى جوع، وذهب الأوزاعي وأحمد وإسحاق إلى أن الفطر أفضل، وبه قال من الصحابة ابن عمر، وابن عباس. ومن التابعين: ابن المسيب، والشعبي، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، وقتادة. قال ابن عطية: وقال مجاهد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما: أيسرهما أفضلهما. وكره ابن حنبل الصوم في السفر، ولو صام في السفر ثم أفطر من غير عذر فعليه القضاء فقط، قاله الأوزاعي، وأبو حنيفة، وزاد الليث: والكفارة. وعن مالك القولان. ولو أفطر مسافر ثم قدم من يومه، أو حائض ثم طهرت في بعض النهار، فقال جابر بن يزيد، والشافعي، ومالك فيما رواه ابن القاسم: يأكلان ولا يمسكان. وقال أبو حنيفة، والأوزاعي والحسن بن صالح، وعبد الله بن الحسن: يمسكان بقية يومهما. عن ما يمسك عنه الصائم. وقال ابن شبرمة في المسافر: يمسك ويقضي، وفي الحائض: إن طهرت تأكل.. والظاهر من قوله: فعدة، أنه يلزمه عدة ما أفطر فيه، فلو كان الشهر الذي أفطر فيه تسعة وعشرين يوماً، قضى تسعة وعشرين يوماً، وبه قال جمهور العلماء، وذهب الحسن بن صالح إلى أنه يقضي شهراً بشهر من غير مراعاة عدد الإيام. وروي عن مالك أنه يقضي بالأهلة، وروي عن الثوري أنه يقضي شهراً تسعة وعشرين يوماً وإن كان رمضان ثلاثين، وهو خلاف الظاهر، وخلاف ما أجمعوا عليه من أنه: إذا كان ما أفطر فيه بعض رمضان، فإنه يجب القضاء بالعدد، فكذلك يجب أن يكون قضاء جميعه باعتبار العدد. وظاهر قوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} أنه لا يلزم التتابع، وبه قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وروي عن علي ومجاهد وعروة: أنه لا يفرق، وفي قراءة أبيّ: فعدة من أيام أخر متتابعات، وظاهر الآية: أنه لا يتعين الزمان، بل تستحب المبادرة إلى القضاء. وقال داود: يجب عليه القضاء ثاني شوّال، فلو لم يصمه ثم مات أثِمَ، وهو محجوج بظاهر الآية، وبما ثبت في الصحيح عن عائشة قالت: كان يكون عليّ الصوم من رمضان فلا أستطيع أن أقضيه، إلاَّ في شعبان لشغل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو برسول الله صلى الله عليه وسلم. وظاهر الآية أنه: من أخر القضاء حتى دخل رمضان آخر، أنه لا يجب عليه إلاَّ القضاء فقط عن الأول، ويصوم الثاني. وبه قال الحسن، والنخعي، وأبو حنيفة، وداود، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، يجب عليه الفدية مع القضاء. وقال يحيى بن أكثم القاضي روى وجوب الإطعام عن ستة من الصحابة، ولم أجد لهم من الصحابة مخالفاً. وروي عن ابن عمر أنه: لا قضاء عليه إذا فرّط في رمضان الأوّل، ويطعم عن كل يوم منه مدّا من بر، ويصوم رمضان الثاني. ومن أخر قضاء رمضان حتى مات فقال مالك، والثوري، والشافعي: لا يصوم أحد عن أحد لا في رمضان ولا في غيره. وقال الليث، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، وأهل الظاهر: يصام عنه، وخصصوه بالنذر. وقال أحمد، وإسحاق: يطعم عنه في قضاء رمضان. {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} قرأ الجمهور: يطيقونه مضارع أطاق، وقرأ حميد يطوقونه من أطوق، كقولهم أطول في أطال، وهو الأصل. وصحة حرف العلة في هذا النحو شاذة من الواو ومن الياء، والمسموع منه: أجود، وأعول، وأطول. وأغيمت السماء، وأخيلت، وأغيلت المرأة وأطيب، وقد جاء الإعلال في جميعها وهو القياس، والتصحيح كما ذكرنا شاذ عند النحويين، إلاَّ أبا زيد الأنصاري فانه يرى التصحيح في ذلك مقيساً إعتباراً بهذه الإلفاظ النزرة المسموع فيها الإعتلال والنقل على القياس. وقرأ عبد الله بن عباس في المشهور عنه: يطوّقونه، مبنياً للمفعول من طوّق على وزن قطع. وقرأت عائشة، ومجاهد، وطاووس، وعمرو بن دينار: يطوّقونه من أطوّق، وأصله تطوّق على وزن تفعل، ثم أدغموا التاء في الطاء، فاجتلبوا في الماضي والأمر همزة الوصل. قال بعض الناس: هو تفسير لا قراءة، خلافاً لمن أثبتها قراءة، والذي قاله الناس خلاف مقالة هذا القائل، وأوردها قراءة. وقرأت فرقة، منهم عكرمة: يطيقونه، وهي مروية عن مجاهد، وابن عباس، وقرئ أيضاً هكذا لكن بضم ياء المضارع على البناء للمفعول، ورد بعضهم هذه القراءة، وقال: هي باطلة لأنه مأخوذ من الطوق. قالوا: ولازمة فيه، ولا مدخل للياء في هذا المثال. وقال ابن عطية: تشديد الياء في هذه اللفظة ضعيف. انتهى. وإنما ضعف هذا، أو امتنع عند هؤلاء، لأنهم بنوا على أن الفعل على وزن تفعل، فأشكل ذلك عليهم، وليس كما ذهبوا إليه، بل هو على وزن: تفعيل من الطوق، كقولهم: تدير المكان وما بها دّيار، فأصله: تطيوقون، اجتمعت ياء وواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فأبدلت الواو ياء وأدغمت فيها الياء، فقيل: تطيق يتطيق، فهذا توجيه هذه القراءة وهو توجيه نحوي واضح. فهذه ست قرآت يرجع معناها إلى الاستطاعة والقدرة، فالمبني منها للفاعل ظاهر، والمبني منها للمفعول معناه: يجعل مطيقاً لذلك، ويحتمل قراءة تشديد الواو والياء أن يكون لمعنى التكليف، أي: يتكلفونه أو يكلفونه، ومجازه أن يكون من الطوق بمعنى القلادة، فكأنه قيل: مقلدون ذلك، أي: يجعل في أعناقهم، ويكون كناية عن التكليف، أي: يشق عليهم الصوم. وعلى هذين المعنيين حمل المفسرون قوله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه} والضمير عائد على الصوم، فاختلفوا، فقال معاذ بن جبل، وابن عمر، وسلمة بن الأكوع، والحسن البصري، والشعبي، وعكرمة، وابن شهاب، والضحاك: كان الصيام على المقيمين القادرين مخيراً فيه، فمن شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم، ثم نسخ ذلك {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} وهذا قول أكثر المفسرين، وقيل: ثم محذوف معطوف تقديره: يطيقونه، أو الصوم، لكونهم كانوا شباباً ثم عجزوا عنه بالشيخوخة، قاله سعيد بن المسيب والسدي. وقيل: المعنى: وعلى الذين يطيقون الصوم، وهو بصفة المرض الذي يستطيع معه الصوم، فخير هذا بين أن يصوم وبين أن يفطر ويفدي، ثم نسخ ذلك بقوله: {فليصمه} فزالت الرخصة إلاَّ لمن عجز منهم، قاله ابن عباس. وجوّز بعضهم أن تكون: لا، محذوفة، فيكون الفعل منفياً، وقدره: وعلى الذين لا يطيقونه، قال: حذف: لا، وهي مرادة. قال ابن أحمد. آليت أمدح مقرفاً أبدا *** يبقى المديح ويذهب الرفد وقال الآخر: فخالف، فلا والله تهبط تلعة *** من الأرض إلاَّ أنت للذل عارف وقال امرؤ القيس: فقلت يمين الله أبر قاعدا *** ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي وتقدير: لا، خطأ لأنه مكان إلباس. ألا ترى أن الذي يتبادر إليه الفهم، هو: أن الفعل مثبت، ولا يجوز حذف: لا، وإرادتها إلاَّ في القسم، والأبيات التي استدل بها هي من باب القسم، وعلة ذلك مذكورة في النحو. وقيل: {الذين يطيقونه} المراد: الشيخ الهرم، والعجوز، أي: يطيقونه بتكلف شديد، فأباح الله لهم الفطر والفدية، والآية على هذا محكمة، ويؤيده توجيه من وجه: يطوقونه، على معنى: يتكلفون صومه ويتجشمونه، وروي ذلك عن علي، وابن عباس، وأنها نزلت في الشيخ الفاني والعجوز الهرمة وزيد عن علي: والمريض الذي لا يرجى برؤه، والآية عند مالك إنما هي في من يدركه رمضان وعليه صوم رمضان المتقدّم، فقد كان يطيق في تلك المدة الصوم، فتركه، فعليه الفدية. وقال الأصم: يرجع ذلك إلى المريض والمسافر لأن لهما حالين: حال لا يطيقان فيه الصوم، وقد بين الله حكمها في قوله: {فعدّة من أيام أخر}. وحال يطيقان، وهي حالة المرض والسفر الذين لا يلحق بهما جهد شديد لو صاما، فخيرّ بين أن يفطر ويفدي، فكأنه قيل: وعلى المرضى والمسافرين الذين يطيقونه. والظاهر من هذه الأقوال القول الأوّل، وذلك أن الله تعالى لما ذكر فرض الصيام على المؤمنين قسمهم إلى قسمين: متصف بمظنة المشقة، وهو المريض والمسافر، فجعل حكم هذا أنه إذا أفطر لزمه القضاء ومطيق للصوم، فإن صام قضى ما عليه، وإن أفطر فدى: ثم نسخ هذا الثاني، وتقدم أن هذا كان، ثم نسخ. والقائلون بأن الذين يطيقونه هم الشيوخ والعجز، تكون الآية محكمة على قولهم، واختلفوا، فقيل: يختص هذا الحكم بهؤلاء، وقيل: يتناول الحامل والمرضع، وأجمعوا على أن الشيخ الهرم إذا أفطر عليه الفدية، هكذا نقل بعضهم، وليس هذا الإجماع بصحيح، لأن ابن عطية نقل عن مالك أنه قال: لا أرى الفدية على الشيخ الضعيف واجبة، ويستحب لمن قوي عليها. وتقدم قول مالك ورأيه في الآية. وقال الشافعي: على الحامل والمرضع، إذا خافتا على ولديهما، الفدية، لتناول الآية لهما، وقياساً على الشيخ الهرم، والقضاء. وروي في البويطي: لا إطعام عليهما. وقال أبو حنيفة: لا تجب الفدية، وأبطل القياس على الشيخ الهرم، لأنه لا يجب عليه القضاء، ويجب عليهما. قال: فلو أوجبنا الفدية مع القضاء كان جمعاً بين البدلين، وهو غير جائز، وبه قال ابن عمر، والحسن، وأبو يوسف ومحمد وزفر. وقال علي: الفدية بلا قضاء، وذهب ابن عمر، وابن عباس إلى أن الحامل تفطر وتفدي ولا قضاء عليها، وذهب الحسن، وعطاء، والضحاك، والزهري، وربيعة، ومالك، والليث إلى أن الحامل إذا أفطرت تقضي، ولا فدية عليها وذهب مجاهد، وأحمد إلى أنها تقضي وتفدي. وتقدم أن هذا مذهب الشافعي، وأما المرضع فتقدّم قول الشافعي، وأبي حنيفة فيها إذا أفطرت. وقال مالك في المشهور تقضي وتفدي. وقال في مختصر ابن عبد الحكم: لا إطعام على المرضع. واختلفوا في مقدار ما يطعم من وجب عليه الإطعام، فقال إبراهيم، والقاسم بن محمد، ومالك والشافعي فيما حكاه عنه المزني. يطعم عن كل يوم مداً؛ وقال الثوري: نصف صاع من بر، وصاع من تمر أو زبيب، وقال قوم: عشاء وسحور، وقال قوم: قوت يوم، وقال أبو حنيفة وجماعة، يطعم عن كل يوم نصف صاع، من بر، وروي عن ابن عباس، وأبي هريرة، وقيس بن الكاتب الذي كان شريك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وعائشة، وسعيد بن المسيب، في الشيخ الكبير: أنه يطعم عنه كل يوم نصف صاع. وظاهر الآية: أنه يجب مطلق طعام، ويحتاج التقييد إلى دليل. ولو جنّ في رمضان جميعه أو في شيء منه، فقال الشافعي: لا قضاء عليه ولو أفاق قبل أن تغيب الشمس إذ مناط التكليف العقل، وقال مالك وعبيد الله العنبري: يقضي الصوم ولا يقضي الصلاة؛ وقال أبو حنيفة، والثوري ومحمد، وأبو يوسف، وزفر: إذا جنّ في رمضان كله فلا قضاء عليه، وإن أفاق في شيء منه قضاه كله. وقرأ الجمهور: فدية طعام مسكين، بتنوين الفدية، ورفع طعام، وإفراد مسكين، وهشام كذلك إلا أنه قرأ: مساكين بالجمع، وقرأ نافع، وابن ذكوان، بإضافة الفدية والجمع وإفراد الفدية، لأنها مصدر. ومن نوّن كان طعام بدلاً من فدية، وكان في ذلك تبيين للفدية ما هي. ومن لم ينوّن فأضاف كان في ذلك تبيين أيضاً وتخصص بالإضافة، وهي إضافة الشيء إلى جنسه، لأن الفدية اسم للقدر الواجب، والطعام يعم الفدية وغيرها، وفي (المنتخب) أنه يجوز أن تكون هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة. قال: لأن الفدية لها ذات، وصفتها أنها طعام، وهذا ليس بجيد، لأن طعاماً ليس بصفة، وهو هنا إما أن يكون يراد به المصدر كما يراد بعطاء الإعطاء، أو يكون يراد به المفعول كما يراد بالشراب المشروب، وعلى كلا التقديرين لا يحسن به الوصف. أما إذا كان مصدراً فإنه لا يوصف به إلاّ عند إرادة المبالغة، ولا معنى لها هنا، وأما إذا أريد به المفعول فلأنه ليس جارياً على فعلٍ ولا منقاساً، فلا تقول: في مضروب ضراب، ولا في مقتول قتال، وإنما هو شبيه الرعي والطحن والدهن، لا يوصف بشيء منها، ولا يعمل عمل المفعول، ألا ترى أنه لا يجوز فيها، مررت برجل طعام خبزه ولا شراب ماؤه، فيرفع ما بعدها بها؟ وإذا تقرر هذا فهو ضعف أن يكون ذلك من إضافة الموصوف إلى صفته، ومن قرأ مساكين، قابل الجمع بالجمع، ومن أفرد فعلى مراعاة أفراد العموم أي: وعلى كل واحد ممن يطيق الصوم لكل يوم يفطره إطعام مسكين، ونظيره {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} أي: فاجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة. وتبين من أفراد المسكين أن الحكم لكل يوم يفطر فيه مسكين، ولا يفهم ذلك من الجمع. {فمن تطوّع خيراً فهو خير له} أي: من زاد على مقدار الفدية في الطعام للمسكين، قاله مجاهد، وعلى عدد من يلزمه إطعامه، فيطعم مسكينين فصاعداً قاله ابن عباس، وطاووس، وعطاء، والسدي. أو جمع بين الإطعام والصوم، قاله ابن شهاب. وانتصاب {خيراً} على أنه مفعول على إسقاط الحرف، أي: بخير، لأنه تطوّع لا يتعدى بنفسه، ويحتمل أن يكون ضمّن، تطوّع معنى فعل متعد، فانتصب خيراً، على أنه مفعول به، وتقديره، ومن فعل متطوعاً خيراً، ويحتمل أن يكون انتصابه على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: تطوعاً خيراً، ودل وصف المصدر بالخيرية على خيرية المتطوع به، وتقدم ذكر قراءة من قرأ يطوع، فجعله مضارع أطوع، وأصله تطوع فأدغم، واجتلبت همزة الوصل. ويلزم في هذه القراءة أن تكون: مَن شرطية، ويجوز ذلك في قراءة مَن جعله فعلاً ماضياً، والضمير في فهو، عائد على المصدر المفهوم من تطوع، أي: فالتطوع خير له، نحو قوله: {أعدلوا هو أقرب للتقوى} أي: العدل، وخير: خبر: لهو، وهو، هنا أفعل التفضيل، والمعنى: أن الزيادة على الواجب، إذا كان يقبل الزيادة، خير من الاقتصار عليه، وظاهر هذه الآية العموم في كل تطوع بخير، وإن كانت وردت في أمر الفدية في الصوم، وظاهر التطوع: التخيير في أمر الجواز بين الفعل والترك، وأن الفعل أفضل. ولا خلاف في ذلك، فلو شرع فيه ثم أفسده، لزمه القضاء عند أبي حنيفة، ولا قضاء عليه عند الشافعي. {وأن تصوموا خير لكم} وقرأ أُبيُّ: والصوم خير لكم. هكذا نقل عن ابن عطية. ونقل الزمخشري: أن قراءته: والصيام خير لكم، والخطاب للمقيمين المطيقين الصوم، أي: خير لكم من الفطر والفدية، أو للمريض والمسافر، أي: خير لكم من الفطر والقضاء، أو: لمن أبيح له الفطر من الجميع. أقوال ثلاثة. وأبعد من ذهب إلى أنه متعلق بأول الآية، وهو {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} أي: وأن تصوموا ذلك المكتوب خير لكم، والظاهر الأول، وفيه حض على الصوم. {إن كنتم تعلمون} من ذوي العلم والتمييز، ويجوز أن يحذف اختصاراً لدلالة الكلام عليه أي: ما شرعته وبينته لكم من أمر دينكم، أو فضل أعمالكم وثوابها، أو كنى بالعلم عن الخشية أي: تخشون الله، لأن العلم يقتضي خشيته {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء} {شهر رمضان} قرأ الجمهور برفع شهر، وقرأه بالنصب مجاهد، وشهر: دين حوشب وهارون الأعور: عن أبي عمرو، وأبو عمارة: عن حفص عن عاصم. وإعراب شهر يتبين على المراد بقوله: {أياماً معدودات} فإن كان المراد بها غير أيام رمضان فيكون رفع شهر على أنه مبتدأ، وخبره قوله: {الذي أنزل فيه القرآن} ويكون ذكر هذه الجملة تقدمة لفرضية صومه بذكر فضيلته والتنبيه على أن هذا الشهر هو الذي أنزل فيه القرآن هو الذي يفرض عليكم صومه، وجوزوا أن يكون: الذي أنزل، صفة. إما للشهر فيكون مرفوعاً، وإما لرمضان فيكون مجروراً. وخبر المبتدأ والجملة بعد الصفة من قوله: {فمن شهد منكم الشهر} وتكون الفاء في: فمن، زائدة على مذهب أبي الحسن، ولا تكون هي الداخلة في خبر المبتدأ إذا كان منها للشرط، لأن شهر رمضان لا يشبه الشرط، قالوا: ويجوز أن لا تكون الفاء زائدة، بل دخلت هنا كما دخلت في خبر الذي، ومثله: {قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم} وهذا الذي قالوه ليس بشيء، لأن الذي، صفة لعلم، أو لمضاف لعلم، فليس يتخيل فيه شيء ما من العموم، ولمعنى الفعل الذي هو {أنزل فيه القرآن} لفظاً ومعنى، فليس كقوله: {قل إن الموت الذي تفرون منه} لأن الموت هنا ليس معيناً، بل فيه عموم. وصلة الذي مستقبلة، وهي: تفرون، وعلى القول، بأن الجملة من قوله {فمن شهد} هي الخبر، يكون العائد على المبتدأ تكرار المبتدأ بلفظه، أي: فمن شهده منكم فليصمه، فأقام لفظ المبتدأ مقام الضمير، وحصل به الربط كما في قوله: لا أرى الموت يسبق الموت شيء *** وذلك لتفخيمه وتعظيمه وإن كان المراد بقوله: {أياماً معدودات} أيام رمضان، فجوزوا في إعراب شهر وجهين. أحدهما: أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره هو: شهر رمضان، أي: المكتوب شهر رمضان، قاله الأخفش، وقدره الفراء: ذلكم شهر وهو قريب. الثاني: أن يكون بدلاً من قوله: الصيام أي: كتب عليكم شهر رمضان، قاله الكسائي، وفيه بعد لوجهين: أحدهما: كثرة الفصل بين البدل والمبدل منه، والثاني: أنه لا يكون إذ ذاك إلاَّ مِن بدل الإشتمال، لا، وهو عكس بدل الاشتمال، لأن بدل الاشتمال في الغالب يكون بالمصادر كقوله تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} وقول الأعشى: لقد كان في حول ثواء ثويته *** تقضي لبانات ويسأم سائم وهذا الذي ذكره الكسائي بالعكس، فلو كان هذا التركيب: كتب عليكم شهر رمضان صيامه، لكان البدل إذ ذاك صحيحاً. وعكس: ويمكن توجيه قول الكسائي على أن يكون على حذف مضاف، فيكون من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة تقديره: صيام شهر رمضان، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، لكن في ذلك مجاز الحذف والفصل الكثير بالجمل الكثيرة، وهو بعيد، ويجوز على بُعدٍ أن يكون بدلاً من أيام معدودات، على قراءة عبد الله، فإنه قرأ: أيامٌ معدودات، بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: المكتوب صومه أيام معدودات. ذكر هذه القراءة أبو عبد الله الحسين بن خالويه في كتاب (البديع) له في القرآن؛ وانتصاب شهر رمضان على قراءة من قرأ ذلك على إضمار فعل تقديره: صوموا شهر رمضان، وجوزوا فيه أن يكون بدلاً من قوله: {أياماً معدودات} قاله الأخفش، والرماني وفيه بعد لكثرة الفصل، وأن يكون منصوباً على الإغراء تقديره إلزموا شهر رمضان، قاله أبو عبيدة والحوفي، ورد بأنه لم يتقدم للشهر ذكر وإن كان منصوباً بقوله: {وأن تصوموا} حكاه ابن عطية وجوزه الزمخشري قال: وقرئ بالنصب على: صوموا شهر رمضان، أو على الإبدال من: {أياماً معدودات}، أو على أنه مفعول، وأن تصوموا. انتهى. كلامه؛ وهذا لا يجوز، لأن تصوموا صلة لأن، وقد فصلت بين معمول الصلة وبينها بالخبر الذي هو خير، لأن تصوموا في موضع مبتدأ، أي: وصيامكم خير لكم، ولو قلت: أن يضرب زيداً شديد، وأن تضرب شديد زيداً، لم يجز. وأدغمت فرقة شهر رمضان. قال ابن عطية: وذلك لا تقتضيه الأصول لاجتماع الساكنين فيه، يعني بالأصول أصول ما قرره أكثر البصريين، لأن ما قبل الراء في شهر حرف صحيح، فلو كان في حرف علة لجاز بإجماع منهم، نحو: هذا ثوب بكر، لأن فيه لكونه حرف علة مدّا أمّا ولم تقصر لغة العرب على ما نقله أكثر البصريين، ولا على ما اختاروه، بل إذا صح النقل وجب المصير إليه.. {الذي أنزل فيه القرآن}: تقدّم اعرابه، وظاهره أنه ظرف لإنزال القرآن، والقرآن يعم الجميع ظاهراً، ولم يبين محل الإنزال، فعن ابن عباس أنه أنزل جميعه إلى سماء الدنيا ليلة أربع وعشرين من رمضان، ثم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجماً. وقيل: الإنزال هنا هو على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون القرآن مما عبر بكله عن بعضه، والمعنى بدئ بإنزاله فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في الرابع والعشرين من رمضان. أو تكون الألف واللام فيه لتعريف الماهية، كما تقول: أكلت اللحم، لا تريد استغراق الأفراد، إنما تريد تعريف الماهية. وقيل معنى: {أنزل فيه القرآن} أن جبريل كان يعارض رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان بما أنزل الله عليه، فيمحو الله ما يشاء ويثبت ما يشاء قاله الشعبي؛ فيكون الإنزال عبر به عن المعارضة. وقيل: أنزل في فرضية صومه القرآن، وفي شأنه القرآن، كما تقول: أنزل في عائشة قرآن. والقرآن الذي نزل هو قوله: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} قاله مجاهد، والضحاك. وقال سفيان بن عيينة: في فضله، وقيل: المعنى. {أنزل فيه القرآن} أي أنزل من اللوح المحفوظ إلى السفرة في سماء الدنيا في ليلة القدر من عشرين شهراً، ونزل به جبريل في عشرين سنة. قاله مقاتل. وروى واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان، والتوراة لست مضين منه، والإنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين» وفي رواية أبي ذر: «نزلت صحف إبراهيم في ثلاث مضين من رمضان، وإنجيل عيسى في ثمانية عشر»، والجمع بين الروايتين بأن رواية واثلة أخبر فيها عن ابتداء نزول الصحف والإنجيل، ورواية أبي ذر أخبر فيها عن انتهاء النزول. وقرأ ابن كثير القرآن بنقل حركة الهمزة، إلى الراء، وحذف الهمزة، وذلك في جميع القرآن سواء نكر أم عرف بالألف واللام، أو بالإضافة، وهذا المختار من توجيه قراءته، وقد تقدّم قول من قال: إن النون فيه مع عدم الهمز أصلية من قرنت الشيء في الشيء ضممته. {هدى للناس وبينات} انتصاب: هدىً، على الحال وهو مصدر وضع موضع أسم الفاعل، أي: هادياً للناس، فيكون: للناس، متعلقاً بلفظ. هدىً، لما وقع موقع هادٍ، وذو الحال القرآن، والعامل: أنزل، وهي حال لازمة، لأن كون القرآن هدىً هو لازم له، وعطف قوله: وبينات، على: هدىً، فهو حال أيضاً، وهي لازمة، لأن كون القرآن آياتٍ جليات واضحات وصف ثابت له، وهو من عطف الخاص على العام، لأن الهدى: منه خفي ومنه جلي، فنص بالبينات على الجلي من الهدى، لأن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، فذكر عليه أشرف أنواعه، وهو الذي يتبين الحلال والحرام والموعظة. {من الهدى والفرقان} هذا في موضع الصفة لقوله: هدى وبينات، أي: أن كون القرآن هدى وبينات هو من جملة هدى الله وبيناته، والهدى والفرقان يشمل الكتب الإلهية، فهذا القرآن بعضها، وعبر عن البينات بالفرقان، ولم يأت من الهدى والبينات فيطابق العجز الصدر لأن فيه مزيد معنى لازم للبينات، وهو كونه يفرق به بين الحق والباطل، فمتى كان الشيء جلياً واضحاً حصل به الفرق، ولأن في لفظ: الفرقان، مؤاخاة للفاصلة قبله، وهو قوله: {شهر رمضان} ثم قال: {الذي أنزل فيه القرآن}، ثم قال: {هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} فحصل بذلك تواخي هذه الفواصل، فصار الفرقان هنا أمكن من البينات من حيث اللفظ ومن حيث المعنى، كما قررناه. ولا يظهر هنا ما قاله بعض الناس من أن الهدى والفرقان أريد به القران، لأن الشيء لا يكون بعض نفسه، وفي (المنتخب) أنه يحتمل أن يحمل: هدىً الأول على أصول الدين، والثاني على فروعه. وقال ابن عطية: اللام في الهدى للعهد، والمراد الأول. انتهى كلامه. يعني: أنه أتى به منكراً أولاً، ثم أتى به معرفاً ثانياً، فدل على أنه الأول كقوله تعالى: {كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول} فمعلوم أن الرسول الذي عصاه فرعون هو الرسول الذي أرسل إليه، ومن ذلك قولهم: لقيت رجلاً فضربت الرجل، فالمضروب هو الملقى؟ ويعتبر ذلك بجعل ضمير النكرة مكان ذلك هذا الثاني، فيصح المعنى، لأنه لو أتى فعصاه فرعون، أو: لقيت رجلاً فضربته لكان كلاماً صحيحاً، ولا يتأتي هذا الذي قاله ابن عطية هنا، لأنه ذكر هو والمعربون: أن هدىً منصوب على الحال وصف في ذي الحال، وعطف عليه وبينات، فلا يخلو قوله: من الهدى، المراد به الهدى الأول من أن يكون صفة لقوله: هدى، أو لقوله: وبينات، أو لهما، أو متعلق بلفظ بينات، لا جائز أن يكون صفة لهدى، لأنه من حيث هو وصف لزم أن يكون بعضاً، ومن حيث هو الأول لزم أن يكون هو إياه، والشيء الواحد لا يكون بعضاً. كلاً بالنسبة لماهيته، ولا جائز أن يكون صفة لبينات فقط، لأن وبينات معطوف على هدى، وهدى حال، والمعطوف على الحال حال، والحال وصف في ذي الحال، فمن حيث كونهما حالين تخصص بهما ذو الحال إذ هما وصفان، ومن حيث وصفت بينات بقوله: من الهدى، خصصها به، فوقف تخصيص القرآن على قوله هدى وبينات معاً، ومن حيث جعلت من الهدى صفة لبينات توقف تخصيص بينات على هدى، فلزم من ذلك تخصيص الشيء بنفسه، وهو محال، ولا جائز أن يتعلق بلفظ: وبينات، لأن المتعلق تقييد للمتعلق به، فهو كالوصف، فيمتنع من حيث يمتنع الوصف. وأيضاً فلو جعلت هنا مكان الهدى ضميراً، فقلت: وبينات منه أي: من ذلك الهدى، لم يصح، فلذلك اخترنا أن يكون الهدى والفرقان عامين حتى يكون هدى وبينات بعضاً منهما.. {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} الألف واللام في الشهر للعهد، ويعني به شهر رمضان، ولذلك ينوب عنه الضمير، ولو جاء: فمن شهد منكم فليصمه لكان صحيحاً، وإنما أبرزه ظاهراً للتنويه به والتعظيم له، وحسن له أيضاً كونه من جملة ثانية. ومعنى شهود الشهر الحضور فيه. فانتصاب الشهر على الظرف، والمعنى: أن المقيم في شهر رمضان إذا كان بصفة التكليف يجب عليه الصوم، إذ الأمر يقتضي الوجوب، وهو قوله: فليصمه، وقالوا على انتصاب الشهر: أنه مفعول به، وهو على حذف مضاف، أي: فمن شهد، حذف مفعوله تقديره المصر أو البلد. وقيل: انتصاب الشهر على أنه مفعول به، وهو على حذف مضاف، أي: فمن شهد منكم دخول الشهر عليه وهو مقيم لزمه الصوم، وقالوا: يتم الصوم من دخل عليه رمضان وهو مقيم، أقام أم سافر، وإنما يفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في سفر، وإلى هذا ذهب علي، وابن عباس، وعبيدة المسلماني، والنخعي، والسدي. والجمهور على أن من شهد أول الشهر أو آخره فليصم ما دام مقيماً. وقال الزمخشري: الشهر منصوب على الظرف، وكذلك الهاء في: فليصمه، ولا يكون مفعولاً به، كقولك: شهدت الجمعة، لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر. انتهى كلامه. وقد تقدم أن ذلك يكون على حذف مضاف تقديره: فمن شهد منكم دخول الشهر، أي: من حضر. وقيل: التقدير هلال الشهر، وهذا ضعيف، لأنك لا تقول: شهدت الهلال، إنما تقول: شاهدت، ولأنه كان يلزم الصوم كل من شهد الهلال وليس كذلك. ومنكم، في موضع الحال، ومن الضمير المستكن في شهد، فيتعلق بمحذوف تقديره كائناً منكم. وقال أبو البقاء، منكم حال من الفاعل وهي متعلقة بشهد، فتناقض، لأن جعلها حالاً يوجب أن يكون العامل محذوفاً، وجعلها متعلقة بشهد يوجب أن لا يكون حالاً، فتناقض. ومَنْ، من قوله فمن شهد، الظاهر أنها شرطية، ويجوز أن تكون موصولة، وقد مر نظائره. وقرأ الجمهور بسكون اللام في: فليصمه، أجروا ذلك مجرى: فعل، فخففوا، وأصلها الكسر، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والزهري، وأبو حيوة، وعيسى الثقفي، وكذلك قرؤوا لام الأمر في جميع القرآن نحو: {فليكتب وليملل} بالكسر، وكسر لام الأمر، وهو مشهور لغة العرب، وعلة ذلك ذكرت في النحو. ونقل صاحب (التسهيل) أن فتح لام الأمر لغة، وعن ابنه ان تلك لغة بني سليم. وقال: حكاها الفراء. وظاهر كلامهما الإطلاق في أن فتح اللام لغة، ونقل صاحب كتاب (الإعراب)، وهو: أبو الحكم بن عذرة الخضراوي، عن الفراء أن من العرب من يفتح هذه اللام لفتحة الياء بعدها، قال: فلا يكون على هذا الفتح أن الكسر ما بعدها أو ضم. انتهى كلامه. وذلك نحو: لينبذن، ولتكرم زيداً، وليكرم عمراً وخالداً، وقوموا فلأصل لكم. {ومن كان مريضاً أو على سفر فعدّة من أيام أخر} تقدّم تفسير هذه الجملة، وذكر فائدة تكرارها على تقدير: أن شهر رمضان هو قوله: {أياماً معدودات}، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} تقدّم الكلام في الإرادة في قوله {ماذا أراد الله بهذا مثلاً} والإرادة هنا إما أن تبقى على بابها، فتحتاج إلى حذف، ولذلك قدره صاحب (المنتخب): يريد الله أن يأمركم بما فيه يسر، وأما أن يتجوز بها عن الطلب، أي: يطلب الله منكم اليسر، والطلب عندنا غير الإرادة، وإنما احتيج إلى هذين التأوّيلين لأن ما أراده الله كائن لا محالة، على مذهب أهل السنة، وعلى ظاهر الكلام لم يكن ليقع عسر وهو واقع، وأما على مذهب المعتزلة فتكون الآية على ظاهرها، وأراد: يتعدّى إلى الإجرام بالباء، وإلى المصادر بنفسه، كالآية. ويأتي أيضاً متعدّياً إلى الإجرام بنفسه وإلى المصادر بالباء. قال: أرادت عرار بالهوان ومن يرد *** عراراً، لعمري بالهوان فقد ظلم قالوا: يريد هنا بمعنى أراد، فهو مضارع أريد به الماضي، والأوْلى أن يراد به الحالة الدائمة هنا، لأن المضارع هو الموضوع لما هو كائن لم ينقطع، والإرادة صفة ذات لا صفة فعل، فهي ثابتة له تعالى دائماً، وظاهر اليسر والعسر العموم في جميع الأحوال الدنيوية والأخروية. وفي الحديث. «دين الله يُسر يَسِّر ولا تعسر» وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وفي القرآن: {ما جعل عليكم في الدين من حرج} {ويضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم} فيندرج في العموم في اليسر فطر المريض والمسافر اللذين ذكر حكمهما قبل هذه الآية، ويندرج في العموم في العسر صومهما لما في حالتي المرض والسفر من المشقة والتعسير. وروي عن علي، وابن عباس، ومجاهد، والضحاك: أن اليسر الفطر في السفر، والعسر الصوم فيه، ويحمل تفسيرهم على التمثيل بفرد من أفراد العموم، وناسب أن مثلوا بذلك، لأن الآية جاءت في سياق ما قبلها، فدخل فيها ما قبلها دخولاً لا يمكن أن يخرج منها، وفي (المنتخب) {يريد الله بكم اليسر} كاف عن قوله: {ولا يريد بكم العسر} وإنما كرر توكيداً. انتهى. وقرأ أبو جعفر، ويحيى بن وثاب، وابن هرمذ، وعيسى بن عمر: اليسر والعسر، بضم السين فيهما، والباقون بالإسكان. {ولتكملوا العدة}: قرأ أبو بكر، وأبو عمر بخلاف عنهما، وروي: مشدد الميم مفتوح الكاف، والباقون بالتخفيف وإسكان الكاف، وفي اللام أقوال. الأول: قال ابن عطية: هي اللام الداخلة على المفعول، كالتي في قولك: ضربت لزيد، المعنى، ويريد إكمال العدة، وهي مع الفعل مقدرة بأن، كأن الكلام: ويريد لأن تكلموا العدة، هذا قول البصريين، ونحوه، قول أبي صخر. أريد لأنسى ذكرها فكأنما *** تخيل لي ليلى بكل طريق انتهى كلامه. وهو كما جوّزه الزمخشري. قال: كأنه قيل: يريد الله بكم اليسر، ويريد لتكملوا، لقوله: {يريدون ليطفئوا} وفي كلامه أنه معطوف على اليسر، وملخص هذا القول: أن اللام جاءت في المفعول المؤخر عن الفعل، وهو مما نصوا على أنه قليل، أو ضرورة، لكن يحسن ذلك هنا، بعده عن الفعل بالفصل، فكأنه لما أخذ الفعل مفعوله، وهو: اليسر، وفصل بينهما بجملة وهي: ولا يريد بكم العسر، بعد الفعل عن اقتضائه، فقوي باللام، كحاله إذا تقدم فقلت لزيد ضربت، لأنه بالتقدم وتأخرُ العامل ضعف العامل عن الوصول إليه، فقوي باللام، اذ أصل العامل أن يتقدم، وأصل المعمول أن يتأخر عنه، لكن في هذا القول إضمار إن بعد اللام الزائدة، وفيه بعُد. وفي كلام ابن عطية تتبع، وهو في قوله: وهي، يعني باللام مع الفعل، يعني تكملوا مقدرة بأن، وليس كذلك، بل أن مضمرة بعدها واللام حرف جر، ويبين ذلك أنه قال: كأن الكلام: ويريد لأن تكملوا العدة، فأظهر أن بعد اللام، فتصحيح لفظه أن تقول: وهي مع الفعل مقدران بعدها، وقوله: هذا قول البصريين ونحوه، قول أبي صخر: أريد لانسى ذكرها...... ليس كما ذكر، بل ذلك مذهب الكسائي والفراء، زعما أن العرب تجعل لام كي في موضع أن في أردت وأمرت. قال تعالى: {يريد الله ليبين لكم} {يريدون ليطفئوا} {وأن يطفئوا} {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس} وقال الشاعر: أريد لأنسى ذكرها *** *** وقال تعالى: {وأمرنا لنسلم} {وان أسلم} وذهب سيبويه وأصحابه إلى أن اللام هنا باقية على حالها وأن مضمرة بعدها، لكن الفعل قبلها يقدره بمصدر، كأنه قال: الإرادة للتبيين، وإرادتي لهذا، وذهب بعض الناس إلى زيادة اللام، وقد أمعنا الكلام على هذه المسألة في كتاب (التكميل في شرح التسهيل) فتطالع هناك. وتلخص مما ذكرناه أن ما قال: من أنه قول البصريين ليس كما قال: إنما يتمشى قوله: وهي، مع الفعل مقدرة بأن على قول الكسائي والفراء، لا على قول البصريين. وتناقض قول ابن عطية أيضاً لأنه قال: هي اللام الداخلة على المفعول كالتي في قولك: ضربت لزيد، المعنى، ويريد إكمال العدة. ثم قال: وهي مع الفعل مقدرة بأن، فمن حيث جعلها الداخلة على المفعول لا يكون جزءاً من المفعول، ومن حيث قدرها بأن كانت جزءاً من المفعول، لأن المفعول إنما ينسبك منها مع الفعل، فهي جزء له، والشيء الواحد لا يكون جزءاً لشيء غير جزءٍ له، فتناقض. وأما تجويز الزمخشري أن يكون معطوفاً على: اليسر، فلا يمكن إلاَّ بزيادة اللام وإضمار: أن، بعدها، أو يجعل اللام لمعنى: أن، فلا تكون أن مضمرة بعدها، وكلاهما ضعيف. القول الثاني: أن تكون اللام في {ولتكملوا العدة} لام الأمر قال ابن عطية، ويحتمل أن تكون هذه اللام لام الأمر والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام. انتهى كلامه. ولم يذكر هذا الوجه فيما وقفنا عليه غير ابن عطية، ويضعف هذا القول أن النحويين قالوا: أمر الفاعل المخاطب فيه التفات، قالوا: أحدهما لغة رديئة قليلة، وهو إقرار تاء الخطاب ولام الأمر قبلها، واللغة الأخرى هي الجيدة الفصيحة، وهو، أن يكون الفعل عارياً من حرف المضارعة ومن اللام، ويضعف هذا القول أيضاً أنه لم يؤثر على أحد من القراء أنه قرأ بإسكان هذه اللام، فلو كانت لام الأمر لكتاب كسائر أخواتها من القراءة بالوجهين فيها، فدل ذلك على أنها لام الجر لا لام الأمر، وقول ابن عطية: والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام، يعني: أنها إذا كانت اللام للأمر كان العطف من قبيل الجمل، وإذا كانت كاللام في: ضربت لزيد، كانت من قبل عطف المفردات. القول الثالث: أن تكون اللام للتعليل، واختلف قائلو هذا القول على أقوال. أحدها: أن تكون الواو عاطفة على علة محذوفة، التقدير: لتعملوا ما تعملون ولتكملوا العدة، قاله الزمخشري. ويكون هذا الفعل المعلل على هذا القول: إرادة اليسر. الثاني: أن يكون بعد الواو فعل محذوف هو المعلل، التقدير: وفعل هذا لتكملوا العدة، قاله الفراء. الثالث: أن يكون معطوفاً على علة محذوفة وقد حذف معلولها، التقدير: فعل الله ذلك ليسهل عليكم ولتكملوا، قاله الزجاج. الرابع: أن يكون الفعل المعلل مقدراً بعد التعليل، تقديره: ولأن تكملوا العدة رخص لكم هذه الرخصة، قال ابن عطية: وهذا قول بعض الكوفيين. الخامس: أن الواو زائدة، التقدير: يريد الله بكم اليسر لتكملوا العدة، وهذا قول ضعيف. السادس: أن يكون الفعل المعلل مقدراً بعد قوله؛ {ولعلكم تشكرون} وتقديره: شرع ذلك. قاله الزمخشري، قال ما نصه: شرع ذلك، يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر، وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه، ومن الترخيص في إباحة الفطر فقوله: لتكملوا، علة الأمر بمراعاة العدة، ولتكبروا علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر، ولعلكم تشكرون، علة الترخيص والتيسير. وهذا نوع من اللف لطيف المسلك لا يكاد يهتدي إلى تبيينه إلاَّ النقاد المحذق من علماء البيان. انتهى كلامه. والألف واللام في قوله: {ولتكملوا العدة} الظاهر أنها للعهد، فيكون ذلك راجعاً إلى قوله: {فعدة من أيام أخر} أي: وليكمل من أفطر في مرضه أو سفره عدة الأيام التي أفطر فيها بأن يصوم مثلها، وقيل: عدة الهلال سواء كانت تسعة وعشرين يوماً أم كان ثلاثين، فتكون العدة راجعة إذ ذاك إلى شهر رمضان المأمور بصومه. {ولتكبروا الله علة ما هداكم} معطوف على: ولتكملوا العدة، والكلام في اللام كالكلام في لام: ولتكملوا ومعنى التكبير هنا تعظيم الله والثناء عليه، فلا يختص ذلك بلفظ التكبير، بل يعظم الله ويثني عليه بما شاء من ألفاظ الثناء والتعظيم، وقيل: هو التكبير عند رؤية الهلال في آخر رمضان. وروي عن ابن عباس أنه قال: حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوّال أن يكبروا، وقيل: هو التكبير المسنون في العيد، وقال سفيان: هو التكبير يوم الفطر. واختلف في مدته وفي كيفيته، فعن ابن عباس: يكبر من رؤية الهلال إلى انقضاء الخطبة ويمسك وقت خروج الإمام ويكبر بتكبيره، وقيل: وهو قول الشافعي: من رؤية الهلال إلى خروج الإمام إلى الصلاة. وقال زيد بن أسلم، ومالك: من حين يخرج من منزله إلى أن يخرج الإمام. وروي ابن القاسم، وعلي بن زياد: إن خرج قبل طلوع الشمس فلا يكبر في طريقه ولا في جلوسه حتى تطلع الشمس، وإن غدا بعد الطلوع فليكبر في طريقه إلى المصلى وإذا جلس حتى يخرج الإمام. واختلف عن أحمد، فنقل الأثر عنه أنه إذا جاء إلى المصلى يقطع؛ قال أبو يعلى: يعني: وخرج الإمام، ونقل حنبل عنه أنه يقطع بعد فراغ الإمام من الخطبة. واختلفوا في الأضحى، فقال مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد: الفطر والأضحى سواء في ذلك، وبه قال ابن المسيب، وأبو سلمة، وعروة، وقال أبو حنيفة: يكبر في الأضحى ولا يكبر في الفطر. وكيفيته عند الجمهور: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ثلاثاً، وهو مروي عن جابر، وقيل: يكبر ويهلل ويسبح أثناء التكبير، ومنهم من يقول: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. وكان ابن المبارك يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلاّ الله، والله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا. وقال ابن المنذر: كان مالك لا يجد فيه حدّاً، وقال ابن العربي: اختار علماؤنا التكبير المطلق وهو ظاهر الكتاب، وقال أحمد: كل واسع، وحجج هذه الأقاويل في كتب الفقه. ورجح في (المنتخب) أن إكمال العدة هو في صوم رمضان، وأن تكبير الله هو عند الانقضاء على ما هدى إلى هذه الطاعة، وليس بمعنى التعظيم. قال: لأن تكبير الله بمعنى تعظيمه هو واجب في جميع الأوقات وفي كل الطاعات، فلا معنى للتخصيص انتهى. و: على، تتعلق: بتكبروا، وفيها إشعار بالعلية، كما تقول: أشكرك على ما أسديت إليّ. قال الزمخشري: وإنما عدى فعل التكبر بحرف الاستعلاء لكونه مضمناً معنى الحمد، كأنه قيل: ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم. انتهى كلامه. وقوله: كأنه قيل: ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم، هو تفسير معنى لا تفسير إعراب، إذ لو كان تفسير إعراب لم تكن: على، متعلقاً، بتكبروا المضمنة معنى الحمد، إنما كانت تكون متعلقة بحامدين التي قدّرها، والتقدير الإعرابي هو، أن تقول: كأنه قيل: ولتحمدوا الله بالتكبير على ما هداكم، كما قدّر الناس في قولهم: قتل الله زياداً عني أي: صرف الله زياداً عني بالقتل، وفي. قول الشاعر: ويركب يوم الروع فينا فوارس *** بصيرون في طعن الأباهر والكلى أي: تحكمون بالبصيرة في طعن الأباهر، والظاهر في: ما، أنها مصدرية أي: على هدايتكم، وجوّزوا أن تكون: ما، بمعنى الذي، وفيه بعد، لأنه يحتاج إلى حذفين أحدهما: حذف العائد على: ما، أي: على الذي هداكموه وقدّرناه منصوباً لا مجروراً بإلى، ولا باللام ليكون حذفه أسهل من حذفه مجروراً. والثاني: حذف مضاف به يصح الكلام، التقدير: على اتباع الذي هداكموه، وما أشبه هذا التقدير مما يصح به معنى الكلام. والظاهر أن معنى: هداكم، حصول الهداية لكم من غير تقييد، وقيل: المعنى، هدايتكم لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم، وإذا كانت بمعنى: الذي، فالمعنى على ما أرشدكم إليه من شريعة الإسلام. {ولعلكم تشكرون} هو ترج في حق البشر على نعمة الله في الهداية، قاله ابن عطية: فيكون الشكر على الهداية، وقيل: المعنى تشكرون على ما أنعم به من ثواب طاعاتكم. وقال الزمخشري: ومعنى {ولعلكم تشكرون} وإرادة أن تشكروا، فتأول الترجي من الله على معنى الإرادة، وجعل ابن عطية الترجي من المخلوق، إذ الترجي حقيقة يستحيل على الله، فلذلك أوَّله الزمخشري بالإرداة، وجعله ابن عطية من البشر، والقولان متكافئان، وإذا كان التكليف شاقاً ناسب أن يعقب بترجي التقوى، وإذا كان تيسيراً ورخصة ناسب أن يعقب بترجي الشكر، فلذلك ختمت هذه الآية بقوله: {لعلكم تشكرون} لأن قبله ترخيص للمريض والمسافر بالفطر، وقوله: {يريد الله بكم اليسر} وجاء عقيب قوله: {كتب عليكم الصيام لعلكم تتقون} وقبله {ولكم في القصاص حياة} ثم قال: {لعلكم تتقون} لأن الصيام والقصاص من أشق التكاليف، وكذا يجيء أسلوب القرآن فيما هو شاق وفيما فيه ترخيص أو ترقية، فينبغي أن يلحظ ذلك حيث جاء فإنه من محاسن علم البيان.
|