الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)} الظاهر أن المجادل في هذه الآية غير المجادل في الآية قبلها، فعن محمد بن كعب أنها نزلت في الأخنس بن شريق. وعن ابن عباس في أبي جهل. وقيل: الأولى في المقلدين وهذه في المقلدين، والجمهور على أنها والتي قبلها في النضر كررت مبالغة في الذم، ولكون كل واحدة اشتملت على زيادة ليست في الأخرى. وقد قيل فيه: إنه نزلت فيه بضع عشرة آية. وقال ابن عطية: وكرر هذه على وجه التوبيخ، فكأنه يقول: هذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان {ومن الناس} مع ذلك {من يجادل} فكان الواو واو الحال، والآية المتقدمة الواو فيها واو العطف عطفت جملة الكلام على ما قبلها، والآية على معنى الإخبار وهي ههنا مكررة للتوبيخ انتهى. ولا يتخيل أن الواو في {ومن الناس من يجادل} واو حال، وعلى تقدير الجملة التي قدّرها قبله لو كان مصرحاً بها لم يتقدّر بإذ فلا تكون للحال، وإنما هي للعطف قسم المخذولين إلى مجادل {في الله بغير علم} متبع لشيطان مريد، ومجادل {بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} إلى آخره، وعابد ربه على حرف والمراد بالعلم العلم الضروري، وبالهدى الاستدلال والنظر لأنه يهدي إلى المعرفة، وبالكتاب المنير الوحي أي {يجادل} بغير واحد من هذه الثلاثة. وانتصب {ثاني عطفه} على الحال من الضمير المستكن في {يجادل} قال ابن عباس: متكبراً، ومجاهد: لاوياً عنقه بقبح، والضحاك: شامخاً بأنفه وابن جريج: مجاهد وأهل مكة وأبو عمرو في رواية {ليَضل} بفتح الياء أي {ليضل} في نفسه والجمهور بضمها أي {ليُضل} غيره، وهو يترتب على إضلاله كثرة العذاب، إذ عليه وزر من عمل به. ولما كان مآل جداله إلى الإضلال كان كأنه علة له، وكذلك لما كان معرضاً عن الهدى مقبلاً على الجدال بالباطل كان كالخارج من الهدى إلى الضلال. والخزي في الدنيا ما لحقه يوم بدر من الأسر والقتل والهزيمة، وقد أسر النضر. وقيل: يوم بدر بالصفراء. و{الحريق} قيل طبقة من طباق جهنم، وقد يكون من إضافة الموصوف إلى صفته أي العذاب الحريق أي المحرق كالسميع بمعنى المسمع. وقرأ زيد بن عليّ فأذيقه بهمزة المتكلم ذلك إشارة إلى الخزي والإذاقة، وجوزوا في إعراب ذلك هذا ما جوزوا في إعراب ذلك بأن الله هو الحق. وتقدم المراد في {بما قدمت يداك} أي باجترامك وبعدل الله فيك إذ عصيته، ويحتمل أن يكون وأن الله مقتطعاً ليس ذلك في السبب والتقدير والأمر أن الله. قال ابن عطية: والعبيد هنا ذكروا في معنى مسكنتهم وقلة قدرتهم، فلذلك جاءت هذه الصيغة انتهى. وهو يفرق بين العبيد والعباد وقد رددنا عليه تفرقته في أواخر آل عمران في قوله {وأن الله ليس بظلام للعبيد} وشرحنا هنا قوله {بظلام}. من {يعبد الله} نزلت في أعراب من أسلم وغطفان تباطؤوا عن الإسلام وقالوا: نخاف أن لا ينصر محمد فينقطع ما بيننا وبين حلفائنا من يهود فلا يقرونا ولا يؤونا. وقيل: في أعراب لا يقين لهم يسلم أحدهم فيتفق تثمير ماله وولادة ذكر وغير ذلك من الخير، فيقول: هذا دين جيد أو ينعكس حاله فيتشاءم ويرتد كما جرى للعرنيين قال معناه ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم. وعن ابن عباس: في شيبة بن ربيعة أسلم قبل ظهور الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما أوحى إليه ارتد. وقيل: " في يهودي أسلم فأصيب فتشاءم بالإسلام، وسأل الرسول إلا قاله فقال: «إن الإسلام لا يقال» " فنزلت. وعن الحس: هو المنافق يعبده بلسانه دون قلبه. وقال ابن عيسى: على ضعف يقين. وقال أبو عبيد {على حرف} على شك. وقال ابن عطية {حرف} على انحراف منه عن العقيدة البيضاء، أو على شفا منها معداً للزهوق. وقال الزمخشري {على حرف} على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه، وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون وطمأنينة كالذي يكون على طرف من العسكر، فإن أحسن بظفر وغنيمة قرّ واطمأنّ وإلاّ فرّ وطار على وجهه انتهى. وخسرانه الدنيا إصابته فيها بما يسوؤه من ذهاب ماله وفقد أحبائه فلم يسلم للقضاء. وخسران الآخرة حيث حرم ثواب من صبر فارتد عن الإسلام. وقرأ مجاهد وحميد والأعرج وابن محيصن من طريق الزعفراني وقعنب والجحدري وابن مقسم خاسر الدنيا اسم فاعل نصباً على الحل. وقرئ خاسر اسم فاعل مرفوعاً على تقدير وهو خاسر. وقال الزمخشري: والرفع على الفاعلية ووضع الظاهر موضع الضمير وهو وجه حسن انتهى. وقرأ الجمهور: {خسر} فعلاً ماضياً وهو استئناف إخبار، ويجوز أن يكون في موضع الحال ولا يحتاج إلى إضمار قد لأنه كثر وقوع الماضي حالاً في لسان العرب بغير قد فساغ القياس عليه، وأجاز أبو الفضل الرازي أن يكون بدلاً من قوله {انقلب على وجهه} كما كان يضاعف بدلاً من يلق. وتقدم تفسير {الضلال البعيد} في قوله {ضلالاً بعيداً} ونفى هنا الضر والنفع وأثبتهما في قوله {لمن ضره أقرب من نفعه} وذلك لاختلاف المتعلق، وذلك أن قوله {ما لا ينفعه} هو الأصنام والأوثان، ولذلك أتى التعبير عنها بما التي لا تكون لآحاد من يعقل. وقوله {يدعو لمن ضره} هو من عبد باقتضاء، وطلب من عابديه من المدعين الإلهية كفرعون وغيره من ملوك بني عبيد الذين كانوا بالمغرب ثم ملكوا مصر، فإنهم كانوا يدعون الإلهية ويطاف بقصرهم في مصر وينادون بما ينادي به رب العالمين من التسبيح والتقديس، فهؤلاء وإن كان منهم نفع مّا لعابديهم في دار الدنيا فضررهم أعظم وأقرب من نفعهم، إذ هم في الدنيا مملوكون للكفار وعابدون لغير الله، وفي الآخرة معذبون العذاب الدائم ولهذا كان التعبير هنا بمن التي هي لمن يعقل، وعلى هذا فتكون الجملتان من إخبار الله تعالى عمن يدعو إلهاً غير الله. وقال الزمخشري: فإن قلت: الضر والنفع منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين وهذا تناقض قلت: إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم، وذلك أن الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جماداً لا يملك ضراً ولا نفعاً وهو يعتقد فيه بجهله وضلالته أن سينتفع به، ثم قال يوم القيامة يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله النار بعبادتها، ولا يرى أثر الشفاعة التي ادعاها لها {لمن ضره أقرب من نفعه، لبئس المولى ولبئس العشير} وكرر يدعوا كأنه قال {يدعو} {يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه} ثم قال {لمن ضره} بكونه معبوداً {أقرب من نفعه} بكونه شفيعاً {لبئس المولى} انتهى. فجعل الزمخشري المدعو في الآيتين الأصنام وأزال التعارض باختلاف القائلين بالجملة الأولى من قول الله تعالى إخباراً عن حال الأصنام. والجملة الثانية من كلام عباد الأصنام يقولون ذلك في الآخرة، وحكى الله عنهم ذلك وأنهم أثبتوا ضراً بكونهم عبدوه، وأثبتوا نفعاً بكونهم اعتقدوه شفيعاً. فالنافي هناك غير المثبت هنا، فزال التعارض على زعمه والذي أقول إن الصنم ليس له نفع ألبتة حتى يقال {ضره أقرب من نفعه}. وأجاب بعضهم عن زعم من زعم أن الظاهر الآيتين يقتضي التعارض بأنها لا تضر ولا تنفع بأنفسها ولكن عبادتها نسب الضرر إليها كقوله {رب إنهن أضللن كثيراً من الناس} أضاف الإضلال إليهم إذ كانوا سبب الضلال، فكذا هنا نفي الضرر عنهم لكونها ليست فاعلة ثم أضافه إليها لكونها سبب الضرر. وقال آخرون: هي في الحقيقة لا تضر ولا تنفع بين ذلك في الآية الأولى ثم أثبت لها الضر والنفع في الثانية على طريق التسليم، أي ولو سلمنا كونها ضارة نافعة لكان ضرها أكثر من نفعها، وتكلف المعربون وجوهاً فقالوا {يدعو} إما أن يكون لها تعلق بقوله {لمن ضره} أولاً إن لم يكن لها تعلق فوجوه. أحدها: أن يكون توكيداً لفظياً ليدعو الأولى، فلا يكون لها معمول. الثاني: أن تكون عاملة في ذلك من قوله {ذلك هو الضلال} وقدم المفعول الذي هو {ذلك} وجعل موصولاً بمعنى الذي قاله أبو علي الفارسي، وهذا لا يصح إلا على قول الكوفيين إذ يجيزون في اسم الإشارة أن يكون موصولاً، والبصريون لا يجيزون ذلك إلاّ في ذا بشرط أن يتقدمها الاستفهام بما أو من. الثالث: أن يكون {يدعو} في موضع الحال، {وذلك} مبتدأ وهو فصل أو مبتدأ وحذف الضمير من {يدعو} أي يدعوه وقدره مدعواً وهذا ضعيف، لأن يدعوه لا يقدر مدعواً إنما يقدر داعياً، فلو كان يدعى مبنياً للمفعول لكان تقديره مدعواً جارياً على القياس. وقال نحوه الزجاج وإن كان له تعلق بقوله {لمن ضره} فوجوه. أحدها: ما قاله الأخفش وهو أن {يدعو} بمعنى يقول و{من} مبتدأ موصول صلته الجملة بعده. وهي {ضره أقرب من نفعه} وخبر المبتدأ محذوف، تقديره إله وإلهي. والجملة في موضع نصب محكية بيدعو التي هي بمعنى يقول، قيل: هو فاسد المعنى لأن الكافر لم يعتقد قط أن الأوثان ضرها أقرب من نفعها. وقيل: في هذا القول يكون {لبئس} مستأنفاً لأنه لا يصح دخوله في الحكاية لأن الكفار لا يقولون عن أصنامهم {لبئس المولى}. الثاني: أن {يدعو} بمعنى يسمي، والمحذوف آخراً هو المفعول الثاني ليسمى تقديره إلهاً وهذا لا يتم إلاّ بتقدير زيادة اللام أي يدعو من ضره. الثالث: أن يدعو شبه بأفعال القلوب لأن الدعاء لا يصدر إلاّ عن اعتقاد، والأحسن أن يضمن معنى يزعم ويقدر لمن خبره، والجملة في موضع نصب ليدعو أشار إلى هذا الوجه الفارسي. الرابع: ما قاله الفراء وهو أن اللام دخلت في غير موضعها والتقدير {يدعو} من لضره أقرب من نفعه، وهذا بعيد لأن ما كان في صلة الموصول لا يتقدم على الموصول. الخامس: أن تكون اللام زائدة للتوكيد، و{من} مفعول بيدعو وهو ضعيف لأنه ليس من مواضع زيادة اللام، لكن يقويه قراءة عبد الله يدعو من ضره بإسقاط اللام، وأقرب التوجيهات أن يكون {يدعو} توكيداً ليدعو الأول؛ واللام في {لمن} لام الابتداء، والخبر الجملة التي هي قسم محذوف، وجوابه {لبئس المولى} والظاهر أن {يدعو} يراد به النداء والاستغاثة. وقيل: معناه بعيد، و{المولى} هنا الناصر والعشير الصاحب المخالط. ولما ذكر تعالى حالة من يعبده على حرف وسفه رأيه وتوعده بخسرانه في الآخرة عقبة بذكر حال مخالفيهم من أهل الإيمان وما وعدهم به من الوعد الحسن، ثم أخذ في توبيخ أولئك الأولين كأنه يقول هؤلاء العابدون على حرف صحبهم القلق وظنوا أن الله لن ينصر محمداً صلى الله عليه وسلم وأتباعه، ونحن إنما أمرناهم بالصبر وانتظار وعدنا، فمن ظن غير ذلك فليمدد بسبب ويختلق وينظر هل يذهب بذلك غيظه، قال هذا المعنى قتادة، وهذا على جهة المثل السائر قولهم: دونك الحبل فاختنق، يقال ذلك للذي يريد من الأمر ما لا يمكنه، فعلى هذا تكون الهاء في {ينصره} للرسول صلى الله عليه وسلم وهو قول ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدّي، واختاره الفراء والزجاج فالمعنى إن لن ينصر الله محمداً في الدنيا بإعلاء كلمته وإظهار دينه، وفي الآخرة بإعلاء درجته والانتقام ممن كذبه، والرسول وإن لم يجر له ذكر في الآية ففيها ما يدل عليه وهو ذكر الإيمان في قوله {إن الله يدخل الذين آمنوا} وظانّ ذلك قوم من المسلمين لشدة غيظهم على المشركين، يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر أو أعراب استبطؤوا ظهور الرسول صلى الله عليه وسلم فتباطؤوا عن الإسلام. والظاهر أن الضمير في {ينصره} عائد على {من} لأنه المذكور، وحق الضمير أن يعود على المذكور وهو قول مجاهد. وحمل بعض قائلي هذا القول النصر هنا على الرزق كما قالوا: أرض منصورة أي ممطورة. وقال الشاعر: وإنك لا تعطي امراً فوق حقه *** ولا تملك الشق الذي أنت ناصره أي معطيه. وقال: وقف علينا سائل من بني بكر فقال: من ينصرني نصره الله، فالمعنى من كان يظن أن لن يرزقه الله فيعدل عن دين محمد لهذا الظن كما وصف في قوله {وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه} فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق، فإن ذلك لا يبلغه إلاّ ما قدر له ولا يجعله مرزوقاً أكثر مما قسم له، ويحتمل على هذا القول أن يكون النصر على بابه أي من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فيغتاظ لانتفاء نصره فليمدد، ويدل على قوله فيغتاظ قوله {هل يذهبن كيده ما يغيظ} ويكون معنى قوله {فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع} فليتحيل بأعظم الحيل في نصرة الله إياه ثم ليقطع الحبل {فلينظر هل يذهبن كيده} وتحيله في إيصال النصر إليه الشيء الذي يغيظه من انتفاء نصره بتسلط أعدائه عليه. وقال الزمخشري: هذا كلام دخله اختصار والمعنى: أن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة، فمن كان يظن من حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك ويطمع فيه ويغيظه أنه لا يظفر بمطلوبه فليستقص وسعه وليستفرغ مجهوده في إزالة ما يغيظه بأن يفعل ما يفعل من بلغ منه الغيظ كل مبلغ حتى مدّ حبلاً إلى سماء بيته فاختنق، {فلينظر} وليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه، وسمي الاختناق قطعاً لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه، ومنه قيل للبهر القطع وسمى فعله كيداً لأنه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره أو على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده، إنما كاد به نفسه، والمراد ليس في يده إلاّ ما ليس بمذهب لما يغيظه. وقيل {فليمدد} بحبل {إلى السماء} المظلة وليصعد عليه فليقطع الوحي أن ينزل عليه وهذا قول ابن زيد. وقيل: الضمير في {ينصره} عائد على الدين والإسلام. قال ابن عطية: وأبين وجوه هذه الآية أن يكون مثلاً ويكون النصر المعروف والقطع الاختناق والسماء الارتفاع في الهواء سقف أو شجرة أو نحوه فتأمله، وما في {ما يغيظ} بمعنى الذي، والعائد محذوف أو مصدرية. وكذلك أي ومثل ذلك الإنزال {أنزلنا} القرآن كله {آيات بينات} أي لا تفاوت في إنزال بعضه ولا إنزال كله والهاء في {أنزلناه} للقرآن أضمر للدّلالة عليه كقوله {حتى توارت بالحجاب} والتقدير والأمر {إن الله يهدي من يريد} أي يخلق الهداية في قلبك يريد هدايته لا خالق للهداية إلاّ هو.
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)} لما ذكر قبل {أن الله يهدي من يريد} عقب ببيان من يهديه ومن لا يهديه، لأن ما قبله يقتضي أن من لا يريد هدايته لا يهديه يدل إثبات الهداية لمن يريد على نفيها عمن لا يريد، والذين أشركوا هم عبدة الأوثان والأصنام، ومن عبد غير الله. قال الزمخشري: ودخلت {إن} على كل واحد جزأي الجملة لزيادة التأكيد، ونحوه قول جرير: إنَّ الخليفة إنْ الله سربله *** سربال ملك به ترجى الخواتيم وظاهر هذا أنه شبه البيت بالآية، وكذلك قرنه الزجاج بالآية ولا يتعين أن يكون البيت كالآية لأن البيت يحتمل أن يكون خبر إن الخليفة قوله: به ترجى الخواتيم، ويكون إن الله سربله سربال ملك جملة اعتراضية بين اسم إن وخبرها بخلاف الآية فإنه يتعين قوله {إن الله يفصل} وحسن دخول {إن} على الجملة الواقعة خبراً طول الفصل بينهما بالمعاطيف، والظاهر أن الفصل بينهم يوم القيامة هو بصيرورة المؤمنين إلى الجنة والكافرين إلى النار، وناسب الختم بقوله {شهيداً} الفصل بين الفرق. وقال الزمخشري: الفصل مطلق يحتمل الفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعاً فلا يجازيهم جزاءً واحداً بغير تفاوت، ولا يجمعهم في موطن واحد. وقيل {يفصل بينهم} يقضي بين المؤمنين والكافرين، والظاهر أن السجود هنا عبارة عن طواعية ما ذكر تعالى والانقياد لما يريده تعالى، وهذا معنى شمل من يعقل وما لا يعقل، ومن {يسجد} سجود التكليف ومن لا يسجده، وعطف على ما من عبد من دون الله ففي {السموات} الملائكة كانت تعبدها و{الشمس} عبدتها حمير. وعبد {القمر} كنانة قاله ابن عباس. والدبران تميم. والشعرى لخم وقريش. والثريا طيئ وعطارداً أسد. والمرزم ربيعة. و{في الأرض} من عبد من البشر والأصنام المنحوتة من {الجبال والشجر} والبقر وما عبد من الحيوان. وقرأ الزهري {والدواب} بتخفيف الباء. قال أبو الفضل الرازي ولا وجه لذلك إلاّ أن يكون فراراً من التضعيف مثل ظلت وقرن ولا تعارض بين قوله {ومن في الأرض} لعمومه وبين قوله {وكثير من الناس} لخصوصه لأنه لا يتعين عطف {وكثير} على ما قبله من المفردات المعطوفة الداخلة تحت يسجد إذ يجوز إضمار {يسجد له} كثير من الناس سجود عبادة دل عليه المعنى لا أنه يفسره {يسجد} الأول لاختلاف الاستعمالين، ومن يرى الجمع بين المشركين وبين الحقيقة والمجاز يجيز عطف {وكثير من الناس} على المفردات قبله، وإن اختلف السجود عنده بنسبته لما لا يعقل ولمن يعقل ويجوز أن يرتفع على الابتداء، والخبر محذوف يدل على مقابلة الذين في الجملة بعده أي {وكثير من الناس} مثاب. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون {من الناس} خبراً له أي {من الناس} الذين هم الناس على الحقيقة وهم الصالحون والمتقون، ويجوز أن يبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب فعطفت كثير على كثير ثم، عبر عنهم بحق عليهم العذاب كأنه قال {وكثير} {وكثير من الناس حق} عليهم {العذاب} انتهى. وهذان التخريجان ضعيفان. وقرأ جناح بن حبيش وكبير حق بالباء. وقال ابن عطية {وكثير حق عليه العذاب} يحتمل أن يكون معطوفاً على ما تقدم أي {وكثير حق عليه العذاب} يسجد أي كراهية وعلى رغمه إما بظله وإما بخضوعه عند المكاره، ونحو ذلك قاله مجاهد وقال سجوده بظله. وقرئ {وكثير} حقاً أي {حق عليهم العذاب} حقاً. وقرئ {حق} بضم الحاء ومن مفعول مقدم بيهن. وقرأ الجمهور {من مكرم} اسم فاعل. وقرأ ابن أبي عبلة بفتح الراء على المصدر أي من إكرام. قال الزمخشري: ومن أهانه الله كتب عليه الشقاوة لما سبق في علمه من كفره أو فسقه، فقد بقي مهاناً لمن يجد له مكرماً أنه يفعل ما يشاء من الإكرام والإهانة، ولا يشاء من ذلك إلاّ ما يقتضيه عمل العاملين واعتقاد المعتقدين انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال. ولما ذكر تعالى أهل السعادة وأهل الشقاوة ذكر ما دار بينهم من الخصومة في دينه، فقال {هذان} قال قيس بن عباد وهلال بن يساف، نزلت في المتبارزين يوم بدر حمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث برز والعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة. وعن عليّ: أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يديّ الله تعالى، وأقسم أبو ذر على هذا ووقع في صحيح البخاري أن الآية فيهم. وقال ابن عباس: الإشارة إلى المؤمنين وأهل الكتاب وقع بينهم تخاصم، قالت اليهود: نحن أقدم ديناً منكم فنزلت. وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح والحسن وعاصم والكلبي الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم، وخصم مصدر وأريد به هنا الفريق، فلذلك جاء {اختصموا} مراعاة للمعنى إذ تحت كل خصم أفراد، وفي رواية عن الكسائي {خِصمان} بكسر الخاء ومعنى {في ربهم} في دين ربهم. وقرأ ابن أبي عبلة اختصما، راعى لفظ التثنية ثم ذكر تعالى ما أعدّ للكفار. وقرأ الزعفراني في اختياره: {قطعت} بتخفيف الطاء كأنه تعالى يقدر لهم نيراناً على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة، والظاهر أن هذا المقطع لهم يكون من النار. وقال سعيد بن جبير {ثياب} من نحاس مذاب وليس شيء إذا حمي أشد حرارة منه، فالتقدير من نحاس محمى بالنار. وقيل: الثياب من النار استعارة عن إحاطة النار بهم كما يحيط الثوب بلابسه. وقال وهب: يكسى أهل النار والعري خير لهم، ويحيون والموت خير لهم. ولما ذكر ما يصب على رؤوسهم إذ يظهر في المعروف أن الثوب إنما يغطى به الجسد دون الرأس فذكر ما يصيب الرأس من العذاب. وعن ابن عباس: لو سقطت من الحميم نقطة على جبال الدنيا لأذابتها ولما ذكر ما يعذب به الجسد ظاهره وما يصب على الرأس ذكر ما يصل إلى باطن المعذب وهو الحميم الذي يذيب ما في البطن من الحشا ويصل ذلك الذوب إلى الظاهر وهو الجلد فيؤثر في الظاهر تأثيره في الباطن كما قال تعالى {فقطع أمعاءهم} وقرأ الحسن وفرقة {يصهر} بفتح الصاد وتشديد الهاء. وفي الحديث: «إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلب ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان» والظاهر عطف {والجلود} على {ما} من قوله {يصهر به ما في بطونهم} وأن {الجلود} تذاب كما تذاب الأحشاء. وقيل: التقدير وتخرق {الجلود} لأن الجلود لا تذاب إنما تجتمع على النار وتنكمش وهذا كقوله: علفتها تبناً وماء بارداً *** أي وسقيتها ماء. والظاهر أن الضمير في {ولهم} عائد على الكفار، واللام للاستحقاق. وقيل: بمعنى على أي وعليهم كقوله {ولهم اللعنة} أي وعليهم. وقيل: الضمير يعود على ما يفسره المعنى وهو الزبانية. وقال قوم منهم الضحاك: المقامع المطارق. وقيل: سياط من نار وفي الحديث: «لو وضع مقمع منها في الأرض مث اجتمع عليه الثقلان ما أقلوه من الأرض» و{من غم} بدل من منها بدل اشتمال، أعيد معه الجار وحذف الضمير لفهم المعنى أي من غمها، ويحتمل أن تكون من للسبب أي لأجل الغم الذي يلحقهم، والظاهر تعليق الإعادة على الإرادة للخروج فلا بد من محذوف يصح به المعنى، أي من أماكنهم المعدة لتعذيبهم {أعيدوا فيها} أي في تلك الأماكن. وقيل {أعيدوا فيها} بضرب الزبانية إياهم بالمقامع {وذوقوا} أي ويقال لهم ذوقوا. ولما ذكر تعالى ما أعد لأحد الخصمين من العذاب ذكر ما أعد من الثواب للخصم الآخر. وقرأ الجمهور {يُحلونْ} بضم الياء وفتح الحاء وتشديد الللام. وقرئ بضم الياء والتخفيف. وهو بمعنى المشدد. وقرأ ابن عباس {يحلون} بفتح الياء واللام وسكون الحاء من قولهم: حلى الرجل وحليت المرأة إذا صارت ذات حلي والمرأة ذات حلي والمرأة حال. وقال أبو الفضل الرازي: يجوز أن يكون من حَلي يعيني يحلى إذا استحسنته، قال فتكون {من} زائدة فيكون المعنى يستحسنون فيها الأساورة الملبوسة انتهى. وهذا ليس بجيد لأنه جعل حلى فعلاً متعدياً ولذلك حكم بزيادة {من} في الواجب وليس مذهب البصريين، وينبغي على هذا التقدير أن لا يجوز لأنه لا يحفظ لازماً فإن كان بهذا المعنى كانت {من} للسبب أي بلباس أساور الذهب يحلون بعين من يراهم أي يحلى بعضهم بعين بعض. قال أبو الفضل الرازي: ويجوز أن تكون {من} حليت به إذا ظفرت به، فيكون المعنى {يحلون فيها} بأساور فتكون {من} بدلاً من الباء، والحلية من ذلك فإما إذا أخذته من حليت به فإنه الحلية، وهو من الياء وإن أخذته من حلي بعيني فإنه من الحلاوة من الواو انتهى. ومن معنى الظفر قولهم: لم يحل فلان بطائل، أي لم يظفر. والظاهر أن {من} في {من أساور} للتبعيض وفي {من ذهب} لابتداء الغاية أي أنشئت من ذهب. وقال ابن عطية: {من} في {من أساور} لبيان الجنس، ويحتمل أن تكون للتبيعض. وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في الكهف. وقرأ ابن عباس من أسور بفتح الراء من غير ألف ولا هاء، وكان قياسه أن يصرفه لأنه نقص بناؤه فصار كجندل لكنه قدر المحذوف موجوداً فمنعه الصرف. وقرأ عاصم ونافع والحسن والجحدري والأعرج وأبو جعفر وعيسى بن عمر وسلام ويعقوب {ولؤلؤاً} هنا وفي فاطر بالنصب وحمله أبو الفتح على إضمار فعل وقدره الزمخشري ويؤتون {لؤلؤاً} ومن جعل {من} في {من أساور} زائدة جاز أن يعطف {ولؤلؤاً} على موضع {أساور} وقيل يعطف على موضع {من أساور} لأنه يقدر و{يحلون} حلياً {من أساور}. وقرأ باقي السبعة والحسن أيضاً وطلحة وابن وثاب والأعمش. وأهل مكة ولؤلؤ بالخفض عطفاً على {أساور} أو على {ذهب} لأن السوار يكون من ذهب ولؤلؤ، يجمع بعضه إلى بعض. قال الجحدري: الألف ثابتة بعد الواو في الإمام. وقال الأصمعي: ليس فيها ألف، وروى يحيى عن أبي بكر همز الأخير وإبدال الأولى. وروى المعلى بن منصور عنه ضد ذلك. وقرأ الفياض: ولولياً قلب الهمزتين واواً صارت الثانية واواً قبلها ضمة، عمل فيها ما عمل في أدل من قلب الواو ياء والضمة قبلها كسرة. وقرأ ابن عباس وليلياً أبدل الهمزتين واوين ثم قلبهما ياءين اتبع الأولى للثانية. وقرأ طلحة ولول مجروراً عطفاً على ما عطف عليه المهموز. و {الطيب من القول} إن كانت الهداية في الدنيا فهو قول لا إله إلاّ الله، والأقوال الطيبة من الأذكار وغيرها، ويكون الصراط طريق الإسلام وإن كان إخباراً عما يقع منهم في الآخرة فهو قولهم: الحمد لله الذي صدقنا وعده وما أشبه ذلك من محاورة أهل الجنة، ويكون الصراط الطريق إلى الجنة. وعن ابن عباس: هو لا إله إلا الله والحمد لله زاد ابن زيد والله أكبر. وعن السدّي القرآن. وحكى الماوردي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعن ابن عباس: هو الحمد لله الذي صدقنا وعده، والظاهر أن {الحميد} وصف لله تعالى. قال ابن عطية: ويحتمل أن يرد بالحميد نفس الطريق، فأضاف إليه على حد إضافته في قوله: دار الآخرة.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)} المضارع قد لا يلحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال فيدل إذ ذاك على الاستمرار، ومنه {ويصدون عن سبيل الله} كقوله {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله} وقيل: هو مضارع أريد به الماضي عطفاً على {كفروا} وقيل: هو على إضمار مبتدأ أي وهم {يصدون} وخبر إن محذوف قدره ابن عطية بعد {والباد} خسروا أو هلكوا وقدره الزمخشري بعد قوله {الحرام} نذيقهم {من عذاب أليم} ولا يصح تقديره بعده لأن الذي صفة {المسجد الحرام} فموضع التقدير هو بعد {والباد} لكن مقدر الزمخشري أحسن من مقدر ابن عطية لأنه يدل عليه الجملة الشرطية بعد من جهة اللفظ، وابن عطية لحظ من جهة المعنى لأن من أذيق العذاب خسر وهلك. وقيل: الواو في {ويصدون} زائدة وهو خبر إن تقديره إن الذين كفروا يصدون. قال ابن عطية: وهذا مفسد للمعنى المقصود انتهى. ولا يجيز البصريون زيادة الواو وإنما هو قول كوفي مرغوب عنه. وهذه الآية نزلت عام الحديبية حين صدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك بجمع إلاّ أن يراد صدهم لأفراد من الناس فقد وقع ذلك في صدر المبعث، والظاهر أنه نفس المسجد ومن صد عن الوصول إليه فقد صد عنه. وقيل: الحرم كله لأنهم صدوه وأهله عليه السلام فنزلوا خارجاً عنه لكنه قصد بالذكر المهم المقصود من الحرم. وقرأ الجمهور {سواء} بالرفع على أن الجملة من مبتدأ وخبر في موضع المفعول الثاني، والأحسن أن يكون {العاكف والبادي} هو المبتدأ و{سواء} الخبر، وقد أجيز العكس. وقال ابن عطية: والمعنى {الذي جعلناه للناس} قبلة أو متعبداً انتهى. ولا يحتاج إلى هذا التقدير إلاّ إن كان أراد تفسير المعنى لا الإعراب فيسوغ لأن الجملة في موضع المفعول الثاني، فلا يحتاج إلى هذا التقدير. وقرأ حفص والأعمش {سواء} بالنصب وارتفع به {العاكف} لأنه مصدر في معنى مستو اسم الفاعل. ومن كلامهم: مررت برجل سواء هو والعدم، فإن كانت جعل تتعدى إلى اثنين فسواء الثاني أو إلى واحد فسواء حال من الهاء. وقرأت فرقة منهم الأعمش في رواية القطعي {سواء} بالنصب {العاكف فيه} بالجر. قال ابن عطية: عطفاً على الناس انتهى. وكأنه يريد عطف البيان الأولى أن يكون بدل تفصيل. وقرئ {والبادي} وصلاً ووقفاً وبتركها فيهما، وبإثباتها وصلاً وحذفها وقفاً {العاكف} المقيم فيه {والبادي} الطارئ عليه، وأجمعوا على الاستواء في نفس المسجد الحرام واختلفوا في مكة، فذهب عمر وابن عباس ومجاهد وجماعة إلى أن الأمر كذلك في دوس مكة، وأن القادم له النزول حيث وجد وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى، وقال به الثوري وكذلك كان الأمر في الصدر الأول. قال ابن سابط: وكانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة، فاتخذ رجل باباً فأنكر عليه عمر وقال: أتغلق باباً في وجه حاج بيت الله؟ فقال: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة فتركه، فاتخذ الناس الأبواب وهذا الخلاف مترتب على الخلاف في فتح مكة أكان عنوة أو صلحاً؟ وهي مسألة يبحث عنها في الفقه. والإلحاد الميل عن القصد. ومفعول {يرد} قال أبو عبيدة هو {بإلحاد} والباء زائدة في المفعول. قال الأعشى: ضمنت برزق عيالنا أرماحنا *** أي رزق وكذا قراءة الحسن منصوباً قرأ {ومن يرد} إلحاده بظلم أي إلحاداً فيه فتوسع. وقال ابن عطية: يجوز أن يكون التقدير {ومن يرد فيه} الناس {بإلحاد}. وقال الزمخشري: {بإلحاد بظلم} حالان مترادفتان ومفعول {يرد} متروك ليتناول كل متناول، كأنه قال {ومن يرد فيه} مراد إمّا عادلاً عن القصد ظالماً {نذقه من عذاب أليم} وقيل: الإلحاد في الحرم منع الناس عن عمارته. وعن سعيد بن جبير: الاحتكار. وعن عطاء: قول الرجل في المبايعة لا والله وبلى والله انتهى. والأولى أن تضمن {يرد} معنى يتلبس فيتعدى بالباء. وعلق الجزاء وهو {نذقه} على الإرادة، فلو نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب بها إلاّ في مكة وهذا قول ابن مسعود وجماعة. وقال ابن عباس: الإلحاد هنا الشرك. وقال أيضاً: هو استحلال الحرام. وقال مجاهد: هو العمل السيئ فيه. وقال ابن عمر: لا والله وبلى والله من الإلحاد. وقال حبيب بن أبي ثابت: الحكر بمكة من الإلحاد بالظلم، والأولى حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على الحصر إذ الكلام يدل على العموم. وقرأت فرقة {ومن يرد} بفتح الياء من الورود وحكاها الكسائي والفراء ومعناه ومن أتى به {بإلحاد} ظالماً. ولما ذكر تعالى حال الكفار وصدهم عن المسجد الحرام وتوعد فيه من أراد فيه بإلحاد ذكر حال أبيهم إبراهيم وتوبيخهم على سلوكهم غير طريقه من كفرهم باتخاذ الأصنام وامتنانه عليهم بإنفاد العالم إليهم {وإذ بوّأنا} أي واذكر {إذ بوّأنا} أي جعلنا {لإبراهيم مكان البيت} مباءة أي مرجعاً يرجع إليه للعمارة والعبادة. قيل: واللام زائدة أي بوّأنا إبراهيم مكان البيت أي جعلنا يبوء إليه كقوله {لنبوّأنهم من الجنة غرفاً} وقال الشاعر: كم صاحب لي صالح *** بوّأته بيدي لحدا وقيل: مفعول {بوّأنا} محذوف تقديره بوّأنا الناس، واللام في {لإبراهيم} لام العلة أي لأجل إبراهيم كرامة له وعلى يديه. والظاهر أن قوله {أن لا تشرك بي شيئاً} خطاب لإبراهيم وكذا ما بعده من الأمر. وقيل: هو خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم {وأن} مخففة من الثقيلة قاله ابن عطية، والأصل أن يليها فعل تحقيق أو ترجيح كحالها إذا كانت مشددة أو حرف تفسير. قاله الزمخشري وابن عطية وشرطها أن يتقدمها جملة في معنى القول و{بوّأنا} ليس فيه معنى القول، والأولى عندي أن تكون {أن} الناصبة للمضارع إذ يليها الفعل المتصرف من ما ض ومضارع وأمر النهي كالأمر. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيراً للتبوئة؟ قلت: كانت التبوئة مقصودة من أجل العبادة، فكأنه قيل تعبدنا إبراهيم قلنا له {لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي} من الأصنام والأوثان والأقذار أن تطرح حوله. وقرأ عكرمة وأبو نهيك: أن لايشرك بالياء على معنى أن يقول معنى القول الذي قيل له. قال أبو حاتم: ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة بمعنى أن {لا تشرك}. والقائمون هم المصلون ذكر من أركانها أعظمها وهو القيام والركوع والسجود. وقرأ الجمهور {وأذّن} بالتشديد أي ناد. روي أنه صعد أبا قبيس فقال: يا أيها الناس حجوا بيت ربكم وتقدم قول من قال إنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وقاله الحسن قال: أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع. وقرأ الحسن وابن محيصن وآذن بمدة وتخفيف الذال. قال ابن عطية: وتصحف هذا على ابن جني فإنه حكى عنهما {وأذن} على فعل ماض، وأعرب على ذلك بأن جعله عطفاً على {بوّأنا} انتهى. وليس بتصحيف بل قد حكى أبو عبد الله الحسين بن خالويه في شواذ القراءات من جمعه. وصاحب اللوامح أبو الفضل الرازي ذلك عن الحسن وأبن محيصن. قال صاحب اللوامح: وهو عطف على {وإذ بوّأنا} فيصير في الكلام تقديم وتأخير، ويصير {يأتوك} جزماً على جواب الأمر الذي هو {وطهر} انتهى. وقرأ ابن أبي إسحاق {بالحج} بكسر الحاء حيث وقع الجمهور بفتحها. وقرأ الجمهور {رجالاً} وابن أبي إسحاق بضم الراء والتخفيف، وروي كذلك عن عكرمة والحسن وأبي مجلز، وهو اسم جمع كظؤار وروي عنهم وعن ابن عباس ومجاهد وجعفر بن محمد بضم الراء وتشديد الجيم. وعن عكرمة أيضاً رجالى على وزن النعامى بألف التأنيث المقصورة، وكذلك مع تشديد الجيم عن ابن عباس وعطاء وابن حدير، ورجال جمع راجل كتاجر وتجار. وقرأ الجمهور {يأتين} فالظاهر عود الضمير {على كل ضامر} لأن الغالب أن البلاد الشاسعة لا يتوصل منها إلى مكة بالركوب، وقد يجوز أن يكون الضمير يشمل {رجالاً} و{كل ضامر} على معنى الجماعات والرفاق. وقرأ عبد الله وأصحابه والضحاك وابن أبي عبلة يأتون غلب العقلاء الذكور في البداءة برجال تفضيلاً للمشاة إلى الحج. وعن ابن عباس: ما آسى على شيء فاتني أن لا أكون حججت ماشياً، والاستدلال بقوله {يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر} على سقوط فرض الحج على من يركب البحر ولا طريق له سواه، لكونه لم يذكر في هذه الآية ضعيف لأن مكة ليست على بحر، وإنما يتوصل إليها على إحدى هاتين الحالتين مشي أو ركوب، فذكر تعالى ما يتوصل به إليها. وقرأ ابن مسعود فج معيق. قال ابن عباس وغيره من المنافع التجارة. وقال الباقر: الأجر. وقال مجاهد وعطاء كلاهما، واختاره ابن العربي. قال الزمخشري: ونكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنياوية لا توجد في غيرها من العبادات. وعن أبي حنيفة أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحج، فلما حج فضَّل الحج على العبادات كلها لما شاهد من تلك الخصائص، وكنى عن النحر والذبح بذكر اسم الله لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا أو ذبحوا، وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرب به إلى الله أن يذكر اسمه وقد حسن الكلام تحسيناً بيِّناً أن جمع بين قوله ليذكروا اسم الله عليه. وقوله {على ما رزقهم} ولو قيل لينحروا {في أيام معلومات} {بهيمة الأنعام} لم تر شيئاً من ذلك الحسن والروعة انتهى. واستدل من قال أن المقصود بذكر اسم الله هو على الذبح والنحر على أن الذبح لا يكون بالليل ولا يجوز فيه لقوله {في أيام} وهو مذهب مالك وأصحاب الرأي. وقيل: الذكر هنا حمده وتقديسه شكراً على نعمته في الرزق ويؤيده قوله عليه السلام: «أنها أيام أكل وشرب» وذكر اسم الله والأيام المعلومات أيام العشر قاله ابن عباس والحسن وإبراهيم وقتادة وأبو حنيفة، والمعدودات أيام التشريق الثلاثة. وقالت فرقة منهم مالك وأصحابه: المعلومات يوم النحر ويومان بعده، والمعدودات أيام التشريق الثلاثة، فيوم النحر معلوم لا معدود واليومان بعده معلومان معدودان، والرابع معدود لا معلوم ويوم النحر ويومان بعده هي أيام النحر عند عليّ وابن عباس وابن عمر وأنس وأبي هريرة وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وأبي حنيفة والثوري، وعند الحسن وعطاء والشافعي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وعند النخعي النحر يومان، وعند ابن سيرين النحر يوم واحد، وعن أبي سلمة وسليمان بن يسار الأضحى إلى هلال المحرم. وقال ابن عطية: ويظهر أن تكون المعلومات والمعدودات بمعنى أن تلك الأيام الفاضلة كلها، ويبقى أمر الذبح وأمر الاستعجال لا يتعلق بمعدود ولا معلوم، ويكون فائدة قوله {معلومات} ومعدودات التحريض على هذه الأيام وعلى اغتنام فضلها أي ليست كغيرها فكأنه قال هي مخصوصات فلتغتنم انتهى. والبهيمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر، فبينت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز وتقدم الخلاف في مدلول {بهيمة الأنعام} في أول المائدة، والظاهر وجوب الأكل والإطعام. وقيل: باستحبابهما. وقيل: باستحباب الأكل ووجوب الإطعام. و{البائس} الذي أصابه بؤس أي شدة. والتفث: ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر وحلقه وإزالة شعثه ونحوه من إقامة الخمس من الفطرة حسب الحديث، وفي ضمن ذلك قضاء جميع مناسكه إذ لا يقضي التفث إلاّ بعد ذلك. وقال ابن عمر: التفث ما عليهم من الحج وعنه المناسك كلها، والنذور هنا ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم. وقيل: المراد الخروج عما وجب عليهم نذروا أو لم ينذروا. وقرأ شعبة عن عاصم {وليوفوا} مشدّداً والجمهور مخففاً {وليطوفوا} هو طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة الذي هو من أركان الحج، وبه تمام التحلل. وقيل: هو طواف الصدر وهو طواف الوداع. وقال الطبري: لا خلاف بين المتأولين أنه طواف الإفاضة. قال ابن عطية: ويحتمل بحسب الترتيب أن يكون طواف الوداع انتهى. و {العتيق} القديم قاله الحسن وابن زيد، أو المعتق من الجبابرة قاله ابن الزبير وابن أبي نجيح وقتادة، كم جبار سار إليه فأهلكه الله قصده تبع ليهدمه فأصابه الفالج، فأشار الأخيار عليه أن يكف عنه وقالوا له: رب يمنعه فتركه وكساه وهو أول من كساه، وقصده أبرهة فأصابه ما أصابه وأما الحجاج فلم يقصد التسليط على البيت لكن تحصن به ابن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه أو المحرر لم يملك موضعه قط قاله مجاهد، أو المعتق من الطوفان قاله مجاهد أيضاً وابن جبير، أو الجيد من قولهم: عتاق الخيل وعتاق الطير أو الذي يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب. قال ابن عطية: وهذا يردّه التصريف انتهى. ولا يرده التصريف لأنه فسره تفسير معنى، وأما من حيث الإعراب فلأن {العتيق} فعيل بمعنى مفعل أي معتق رقاب المذنبين، ونسب الإعتاق إليه مجازاً إذ بزيارته والطواف به يحصل الإعتاق، وينشأ عن كونه معتقاً أن يقال فيه: يعتق فيه رقاب المذنبين. {ذلك} خبر مبتدأ محذوف قدّره ابن عطية فرضكم {ذلك} أو الواجب {ذلك} وقدّره الزمخشري الأمر أو الشأن {ذلك} قال كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني، ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال: هذا وقد كان كذا انتهى. وقيل: مبتدأ محذوف الخبر أي {ذلك} الأمر الذي ذكرته. وقيل في موضع نصب تقديره امتثلوا {ذلك} ونظير هذه الإشارة البليغة قول زهير وقد تقدم له جمل في وصف هرم: هذا وليس كمن يعيا بخطبته *** وسط الندى إذا ما ناطق نطقا وكان وصفه قبل هذا بالكرم والشجاعة، ثم وصفه في هذا البيت بالبلاغة فكأنه قال: هذا خلقه وليس كمن يعيا بخطبته، والحرمات ما لا يحل هتكه وجميع التكليفات من مناسك الحج وغيرها حرمه، والظاهر عمومه في جميع التكاليف، ويحتمل الخصوص بما يتعلق بالحج وقاله الكلبي قال: ما أمر به من المناسك، وعن ابن عباس هي جميع المناهي في الحج: فسوق وجدال وجماع وصيد. وعن ابن زيد هي خمس المشعر الحرام، والمسجد الحرام، والبيت الحرام، والشهر الحرام، والمحرم حتى يحل. وضمير {فهو} عائد على المصدر المفهوم من قوله {ومن يعظم} أي فالتعظيم {خير له عند ربه} أي قربة منه وزيادة في طاعته يثيبه عليها، والظاهر أن خيراً هنا ليس أفعل تفضيل. {وأحلت لكم بهيمة الأنعام} دفعاً لما كانت عليه من تحريم أشياء برأيها كالبحيرة والسائبة، ويعني بقوله {إلا ما يتلى عليكم} ما نص في كتابه على تحريمه، والمعنى {ما يتلى عليكم} آية تحريمه. ولما حث على تعظيم حرمات الله وذكر أن تعظيمها خير لمعظمها عند الله أتبعه الأمر باجتناب الأوثان وقول الزور لأن توحيد الله ونفي الشركاء عنه وصدق القول أعظم الحرمات، وجمعا في قران واحد لأن الشرك من باب الزور لأن المشرك يزعم أن الوثن يستحق العبادة فكأنه قال {فاجتنبوا} عبادة {الأوثان} التي هي رأس الزور {واجتنبوا قول الزور} كله. و{من} في {من الأوثان} لبيان الجنس، ويقدر بالموصول عندهم أي الرجس الذي هو الأوثان، ومن أنكر أن تكون {من} لبيان الجنس جعل {من} لابتداء الغاية فكأنه نهاهم عن الرجس عاماً ثم عين لهم مبدأه الذي منه يلحقهم إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس، وعلى القول الأول يكون النهي عن سائر الأرجاس من موضع غير هذا. قال ابن عطية: ومن قال إن {من} للتبعيض قلب معنى الآية فأفسده انتهى. وقد يمكن التبعيض فيها بأن يعني بالرجس عبادة الأوثان، وقد روي ذلك عن ابن عباس وابن جريج، فكأنه قال: فاجتنبوا من الأوثان الرجس وهو العبادة لأن المحرم من الأوثان إنما هو العبادة، ألا ترى أنه قد يتصور استعمال الوثن في بناء وغير ذلك مما لم يحرمه الشرع؟ فكأن للوثن جهات منها عبادتها، وهو المأمور باجتنابه وعبادتها بعض جهاتها، ولما كان قول الزور معادلاً للكفر لم يعطف على الرجس بل أفرد بأن كرر له العامل اعتناء باجتنابه. وفي الحديث: «عدلت شهادة الزور بالشرك». ولما أمر باجتناب عبادة الأوثان وقول الزور ضرب مثلاً للمشرك فقال {ومن يشرك بالله} الآية. قال الزمخشري: يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق، فإن كان تشبيهاً مركباً فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس بعده بأن صور حاله بصورة حال من {خر من السماء} فاختطفته {الطير} فتفرق مرعاً في حواصلها، وعصفت به {الريح} حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة، وإن كان مفرقاً فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء والإهواء التي تنازع أوكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي {تهوي} مما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة انتهى. وقرأ نافع {فتخطفه} بفتح الخاء والطاء مشددة وباقي السبعة بسكون الخاء وتخفيف الطاء. وقرأ الحسن وأبو رجاء والأعمش بكسر التاء والخاء والطاء مشددة، وعن الحسن كذلك إلاّ أنه فتح الطاء مشددة. وقرأ الأعمش أيضاً تخطه بغير فاء وإسكان الخاء وفتح الطاء مخففة. وقرأ أبو جعفر والحسن وأبو رجاء: الرياح.
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)} إعراب {ذلك} كإعراب {ذلك} المتقدم، وتقدم تفسير {شعائر الله} في أول المائدة، وأما هنا فقال ابن عباس ومجاهد وجماعة: هي البدن الهدايا، وتعظيمها تسمينها والاهتبال بها والمغالاة فيها. وقال زيد بن أسلم: الشعائر ست: الصفا، والمروة، والبدن، والجمار، والمشعر الحرام، وعرفة، والركن. وتعظيمها إتمام ما يفعل فيها. وقال ابن عمر والحسن ومالك وابن زيد: مواضع الحج كلها ومعالمه بمنى وعرفة والمزدلفة والصفا والمروة والبيت وغير ذلك، وهذا نحو من قول زيد بن أسلم. وقيل: شرائع دينه وتعظيمها التزامها والمنافع الأجر، ويكون والضمير في {فيها} من قوله {لكم فيها منافع} عائداً على الشعائر التي هي الشرائع أي لكم في التمسك بها {منافع إلى أجل} منقطع التكليف {ثم محلها} بشكل على هذا التأويل. فقيل: الإيمان والتوجه إليه بالصلاة، وكذلك القصد في الحج والعمرة، أي محل ما يختص منها بالإحرام {البيت العتيق} وقيل: معنى ذلك ثم أجرها على رب {البيت العتيق} قيل: ولو قيل على هذا التأويل أن {البيت العتيق} الجنة لم يبعدوا الضمير في إنها عائد على الشعائر على حذف مضاف أي فإن تعظيمها أو على التعظمة، وأضاف التقوى إلى القلوب كما قال عليه الصلاة والسلام: " التقوى ههنا " وأشار إلى صدره. " وعن عمر أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعها ويشتري بثمنها بدناً فنهاه عن ذلك وقال: «بل اهدها» وأهدى هو عليه السلام مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب "، وكان ابن عمر يسوق البدن مجللة بالقباطي فيتصدق بلحومها وبجلالها، ويعتقد أن طاعة الله في التقرب بها وإهدائها إلى بيته المعظم أمر عظيم لا بد أن يقام به ويسارع فيه، وذكر {القلوب} لأن المنافق يظهر التقوى وقلبه خال عنها، فلا يكون مجداً في أداء الطاعات، والمخلص التقوى بالله في قلبه فيبالغ في أدائها على سبيل الإخلاص. وقال الزمخشري: فإن تعظيمها {من} أفعال ذوي {تقوى القلوب} فحذفت هذه المضافات، ولا يستقيم المعنى إلاّ بتقديرها لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى {من} ليرتبط به، وإنما ذكرت {القلوب} لأنها مراكز التقوى التي إذا ثبتت فيها وتمكنت ظهر أثرها في سائر الأعضاء انتهى. وما قدره عار من راجع إلى الجزاء إلى {من} ألا ترى أن قوله فإن تعظيمها من أفعال القلوب ليس في شيء منه ضمير يعود إلى {من} يربط جملة الجزاء بجملة الشرط الذي أدانه {من} وإصلاح ما قاله أن يكون التقدير فأي تعظيمها منه، فيكون الضمير في منه عائداً على من فيرتبط الجزاء بالشرط. وقرئ {القلوب} بالرفع على الفاعلية بالمصدر الذي هو {تقوى} والضمير في {فيها} عائد على البدن على قول الجمهور، والمنافع درها ونسلها وصوفها وركوب ظهرها {إلى أجل مسمى} وهو أن يسميها ويوجبها هدياً فليس له شيء من منافعها. قاله ابن عباس في رواية مقسم، ومجاهد وقتادة والضحاك. وقال عطاء: منافع الهدايا بعد إيجابها وتسميتها هدياً بأن تركب ويشرب لبنها عند الحاجة {إلى أجل مسمى} أي إلى أن تنحر. وقيل: إلى أن تشعر فلا تركب إلاّ عند الضرورة. وروى أبو رزين عن ابن عباس: الأجل المسمى الخروج من مكة. وعن ابن عباس {إلى أجل مسمى} أي إلى الخروج والانتقال من هذه الشعائر إلى غيرها. وقيل: الأجل يوم القيامة. وقال الزمخشري: إلى أن تنحر ويتصدق بلحومها ويؤكل منها. و {ثم} للتراخي في الوقت فاستعيرت للتراخي في الأفعال، والمعنى أن لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم وإنما يعبد الله بالمنافع الدينية قال تعالى: {تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} وأعظم هذه المنافع وأبعدها شوطاً في النفع محلها إلى البيت أي وجوب نحرها، أو وقت وجوب نحرها منتهية إلى البيت كقوله {هدياً بالغ الكعبة} والمراد نحرها في الحرم الذي هو في حكم البيت لأن الحرم هو حريم البيت، ومثل هذا في الاتساع قولك: بلغنا البلد وإنما شارفتموه واتصل مسيركم بحدوده. وقيل: المراد بالشعائر المناسك كلها و{محلها إلى البيت العتيق} يأباه انتهى. وقال القفال: الهدي المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فإن محله موضعه، فإذا بلغ منى فهي محله وكل فجاج مكة. وقال ابن عطية: وتكرر {ثم} لترتيب الجمل لأن المحل قبل الأجل، ومعنى الكلام عند هاتين الفريقين يعني من قال مجاهد ومن وافقه، ومن قال بقول عطاء {ثم محلها} إلى موضع النحر فذكر البيت لأنه أشرف الحرم وهو المقصود بالهدي وغيره، والأجل الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة وقوله {ثم محلها} مأخوذ من إحلال المحرم معناه، ثم أخر هذا كله إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق، فالبيت على هذا التأويل مراد بنفسه قاله مالك في الموطأ انتهى. والمنسك مفعل من نسك واحتمل أن يكون موضعاً للنسك، أي مكان نسك، واحتمل أن يكون مصدراً واحتمل أن يراد به مكان العبادة مطلقاً أو العبادة، واحتمل أن يراد نسك خاص أو نسكاً خاصاً وهو موضع ذبح أو ذبح، وحمله الزمخشري على الذبح، يقال: شرع الله لكل أمة أن ينسكوا له أي يذبحوا لوجهه على وجه التقرب، وجعل العلة في ذلك أن يذكر اسمه تقدست أسماؤه على المناسك انتهى. وقياس بناء مفعل مما مضارعه يفعل يضم العين مفعل بفتحها في المصدر والزمان والمكان، وبالفتح قرأ الجمهور. وقرأ بكسرها الأخوان وابن سعدان وأبو حاتم عن أبي عمرو ويونس ومحبوب وعبد الوارث إلا القصبي عنه. قال ابن عطية: والكسر في هذا من الشاذ ولا يسوغ فيه القياس، ويشبه أن يكون الكسائي سمعه من العرب. وقال الأزهري: منسك ومنسك لغتان. وقال مجاهد: المنسك الذبح، وإراقة الدماء يقال: نسك إذا ذبح، والذبيحة نسيكة وجمعها نسك. وقال الفرّاء: المنسك في كلام العرب المعتاد في خير وبر. وقال ابن عرفة {منسكاً} أي مذهباً من طاعة الله، يقال: نسك نسك قومه إذا سلك مذهبهم. وقال الفراء {منسكاً} عيداً وقال قتادة: حجاً. {ليذكروا اسم الله} معناه أمرناهم عند ذبائحهم بذكر الله، وأن يكون الذبح له لأنه رازق ذلك، ثم خرج إلى الحاضرين فقال {فإلهكم إله واحد فله أسلموا} أي انقادوا، وكما أن الإله واحد يجب أن يخلص له في الذبيحة ولا يشرك فيها لغيره، وتقدم شرح الإخبات. وقال عمرو بن أوس: المخبتون الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا. وقرأ الجمهور {والمقيمي الصلاة} بالخفض على الإضافة وحذفت النون لأجلها. وقرأ ابن أبي إسحاق والحسن وأبو عمرو في رواية {الصلاة} بالنصب وحذفت النون لأجلها. وقرأ ابن مسعود والأعمش والمقيمين بالنون {الصلاة} بالنصب. وقرأ الضحاك: والمقيم الصلاة، وناسب تبشير من اتصف بالإخبات هنا لأن أفعال الحج من نزع الثياب والتجرد من المخيط وكشف الرأس والتردد في تلك المواضع الغبرة المحجرة، والتلبس بأفعال شاقة لا يعلم معناها إلاّ الله تعالى مؤذن بالاستسلام المحض والتواضع المفرط حيث يخرج الإنسان عن مألوفه إلى أفعال غريبة، ولذلك وصفهم بالإخبات والوجل إذا ذكر الله تعالى والصبر على ما أصابهم من المشاق وإقامة الصلوات في مواضع لا يقيمها إلاّ المؤمنون المصطفون والإنفاق مما رزقهم ومنها الهدايا التي يغالون فيها. وقرأ الجمهور {البدن} بإسكان الدال. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وشيبة وعيسى بضمها وهي الأصل، ورويت عن أبي جعفر ونافع. وقرأ ابن أبي إسحاق أيضاً بضم الياء والدال وتشديد النون، فاحتمل أن يكون اسماً مفرداً بُني على فعل كعتل، واحتمل أن يكون التشديد من التضعيف الجائز في الوقف، وأجرى الوصل مجرى الوقف، والجمهور على نصب {والبدن} على الاشتغال أي وجعلنا {البدن} وقرئ بالرفع على الابتداء و{لكم} أي لأجلكم و{من شعائر} في موضع المفعول الثاني، ومعنى {من شعائر الله} من أعلام الشريعة التي شرعها الله وأضافها إلى اسمه تعالى تعظيماً لها {لكم فيها خير} قال ابن عباس: نفع في الدنيا، وأجر في الآخرة. وقال السدّي أجر. وقال النخعي: من احتاج إلى ظهرها ركب وإلى لبنها شرب {عليها صواف} أي على نحرها. قال مجاهد: معقولة. وقال ابن عمر: قائمة قد صفت أيديها بالقيود. وقال ابن عيسى: مصطفة وذكر اسم الله أن يقول عند النحر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر، اللهم منك وإليك. وقرأ أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم وشقيق وسليمان التيمي والأعرج: صوافي جمع صافية ونون الياء عمرو بن عبيد. قال الزمخشري: التنوين عوض من حرف عند الوقف انتهى. والأولى أن يكون على لغة من صرف ما لا ينصرف، ولا سيما الجمع المتناهي، ولذلك قال بعضهم والصرف في الجمع أي كثيراً حتى ادّعى قوم به التخيير أي خوالص لوجه الله تعالى لا يشرك فيها بشيء، كما كانت الجاهلية تشرك. وقرأ الحسن أيضاً {صواف} مثل عوار وهو على قول من قال فكسرت عار لحمه يريد عارياً وقولهم: اعط القوس باريها. وقرأ عبد الله وابن عمر وابن عباس والباقر وقتادة ومجاهد وعطاء والضحاك والكلبي والأعمش بخلاف عنه صوافن بالنون، والصافنة من البدن ما اعتمدت على طرف رجل بعد تمكنها بثلاث قوائم وأكثر ما يستعمل في الخيل {فإذا وجبت جنوبها} عبارة عن سقوطها إلى الأرض بعد نحرها. قال محمد بن كعب ومجاهد وإبراهيم والحسن والكلبي {القانع} السائل {والمعتر} المعترض من غير سؤال، وعكست فرقة هذا. وحكى الطبري عن ابن عباس {القانع} المستغني بما أعطيه {والمعتر} المعترض من غير سؤال. وحكى عنه {القانع} المتعفف {والمعتر} السائل. وعن مجاهد {القانع} الجار وإن كان غنياً. وقال قتادة {القانع} من القناعة {والمعتر} المعترض للسؤال. وقيل {المعتر} الصديق الزائر. وقرأ أبو رجاء: القنع بغير ألف أي {القانع} فحذف الألف كالحذر والحاذر. وقرأ الحسن والمعتري اسم فاعل من اعترى. وقرأ عمرو وإسماعيل {والمعتر} بكسر الراء دون ياء، هذا نقل ابن خالويه. وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح أبو رجاء بخلاف عنه، وابن عبيد والمعتري على مفتعل. وعن ابن عباس برواية المقري {والمعتر} أراد المعتري لكنه حذف الياء تخفيفاً واستغناءً بالكسرة عنها، وجاء كذلك عن أبي رجاء. قال ابن مسعود: الهدي أثلاث. وقال جعفر بن محمد أطعم القانع والمعتر ثلثاً، والبائس الفقير ثلثاً، وأهلي ثلثاً. وقال ابن المسيب: ليس لصاحب الهدي منه إلاّ الربع وهذا كله على جهة الاستحباب لا الفرض قاله ابن عطية {كذلك} سخرها لكم أي مثل ذلك التسخير {سخرناها لكم} تأخذونها منقادة فتعقلونها وتحبسونها صافة قوائمها فتطعنون في لباتها، منّ عليهم تعالى بذلك ولولا تسخير الله لم تطق ولم تكن بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر منها جرماً وأقل قوّة، وكفى بما يتأبد من الإبل شاهداً وعبرة. وقال ابن عطية: كما أمرناكم فيها بهذا كله سخرنا لكم لن ينال الله لحومها ولا دماؤها. قال مجاهد: أراد المسلمون أن يفعلوا فعل المشركين من الذبح وتشريح اللحم منصوباً حول الكعبة ونضح الكعبة حواليها بالدم تقرّباً إلى الله، فنزلت هذه الآية. وعن ابن عباس قريب منه، والمعنى لن يصيب رضا الله اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المهراقة بالنحر، والمراد أصحاب اللحوم والدماء، والمعنى لن يرضى المضحون والمقربون ربهم إلاّ بمراعاة النية والإخلاص والاحتياط بشروط التقوى في حل ما قرب به وغير ذلك من المحافظات الشرعية وأوامر الورع، فإذا لم يراعوا ذلك لم تغن عنهم التضحية والتقريب، وإن كثر ذلك منهم قاله الزمخشري وهو تكثير في اللفظ. وقرأ مالك بن دينار والأعرج وابن يعمر والزهري وإسحاق الكوفي عن عاصم والزعفراني ويعقوب. وقال ابن خالويه: تناله التقوى بالتاء يحيى بن يعمر والجحدري. وقرأ زيد بن علي {لحومها ولا دماءها} بالنصب {ولكن يُناله} بضم الياء وكرر ذكر النعمة بالتسخير. قال الزمخشري: لتشكروا الله على هدايته إياكم لإعلام دينه ومناسك حجه بأن تكبروا وتهللوا، فاختصر الكلام بأن ضمن التكبير معنى الشكر وعديّ تعديته انتهى. {وبشر المحسنين} ظاهر في العموم. قال ابن عباس: وهم الموحدون وروي أنها نزلت في الخلفاء الأربعة.
{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)} الهدم: معروف وهو نقض ما بُني. قال الشاعر: وكل بيت وإن طالت إقامته *** على دعائمه لا بدّ مهدوم الصومعة: موضع العبادة وزنها فعولة، وهي بناء مرتفع منفرد حديد الأعلى، والأصمع من الرجال الحديد القول، وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى وبعبّاد الصابئين، قاله قتادة ثم استعمل في مئذنة المسلمين. البيع: كنائس النصارى واحدها بيعة. وقيل: كنائس اليهود. البئر: من بأرت أي حفرت، وهي مؤنثة على وزن فعل بمعنى مفعول، وقد تذكر على معنى القليب. تعطيل الشيء: إبطال منافعه. {إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوّان كفور أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيَع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد}. روى أن المؤمنين لما كثروا بمكة أذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنة من الكفار ويحتال ويغدر، فنزلت إلى قوله {كفور} وعد فيها بالمدافعة ونهى عن الخيانة، وخص المؤمنين بالدفع عنهم والنصرة لهم، وعلل ذلك بأنه لا يحب أعداءهم الخائنين الله والرسول الكافرين نعمه. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر جملة مما يفعل في الحج، وكان المشركون قد صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية وآذوا من كان بمكة من المؤمنين، أنزل الله تعالى هذه الآيات مبشرة المؤمنين بدفعه تعالى عنهم ومشيرة إلى نصرهم وإذنه لهم في القتال وتمكينهم في الأرض يردهم إلى ديارهم وفتح مكة، وأن عاقبة الأمور راجعة إلى الله تعالى وقال تعالى: {والعاقبة للمتقين} وقرأ الحسن وأبو جعفر ونافع {يدافع} ولولا دفاع الله. وقرأ أبو عمرو وابن كثير يدفع {ولولا دفع} وقرأ الكوفيون وابن عامر {يدافع} {ولولا دفع} وفاعل هنا بمعنى المجرد نحو جاوزت وجزت. وقال الأخفش: دفع أكثر من دافع. وحكى الزهراوي أن دفاعاً مصدر دفع كحسب حساباً. وقال ابن عطية: يحسن {يدافع} لأنه قد عنّ للمؤمنين من يدفعهم ويؤذيهم فتجيء مقاومته، ودفعه مدافعة عنهم انتهى. يعني فيكون فاعل لاقتسام الفاعلية والمفعولية لفظاً والاشتراك فيهما معنى. وقال الزمخشري: ومن قرأ {يدافع} فمعناه يبالغ في الدفع عنهم كما يبالغ من يغالب فيه لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ انتهى. ولم يذكر تعالى ما يدفعه عنهم ليكون أفخم وأعظم وأعم ولما هاجر المؤمنون إلى المدينة أذن الله لهم في القتال. وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو بضم همزة {أُذن} وفتح باقي السبعة. وقرأ نافع وابن عامر وحفص {يقاتلون} بفتح التاء والباقون بكسرها، والمأذون فيه محذوف أي في القتال لدلالة {يقاتلون} عليه وعلل للإذن {بأنهم ظلموا} كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج، فيقول لهم: «اصبروا فإني لم أومر بالقتال» حتى هاجر وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نُهي عنه في نيف وسبعين آية. وقيل: نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركو مكة فأذن لهم في مقاتلتهم. {وإن الله على نصرهم لقدير} وعد بالنصر والإخبار بكونه يدفع عنهم {الذين أخرجوا} في موضع جر نعت للذين، أو بدل أو في موضع نصب بأعني أو في موضع رفع على إضمارهم. و{إلا أن يقولوا} استثناء منقطع فإن {يقولوا} في موضع نصب لأنه منقطع لا يمكن توجه العامل عليه، فهو مقدر بلكن من حيث المعنى لأنك لو قلت {الذين أخرجوا من ديارهم} {إلا أن يقولوا ربنا الله} لم يصح بخلاف ما في الدار أحد إلاّ حمار، فإن الاستثناء منقطع ويمكن أن يتوجه عليه العامل فتقول: ما في الدار إلاّ حمار فهذا يجوز فيه النصب والرفع النصب للحجاز والرفع لتميم بخلاف مثل هذا فالعرب مجمعون على نصبه. وأجاز أبو إسحاق فيه الجر على البدل واتّبعه الزمخشري فقال {أن يقولوا} في محل الجر على الإبدال من {حق} أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتبشير، ومثله {هل تنقمون منا إلاّ أن آمنا} انتهى. وما أجازاه من البدل لا يجوز لأن البدل لا يكون إلاّ إذا سبقه نفي أو نهي أو استفهام في معنى النفي، نحو: ما قام أحد إلاّ زيد، ولا يضرب أحد إلاّ زيد، وهل يضرب أحد إلاّ زيد، وأما إذا كان الكلام موجباً أو أمراً فلا يجوز البدل: لا يقال قام القوم إلاّ زيد على البدل، ولا يضرب القوم إلاّ زيد على البدل، لأن البدل لا يكون إلاّ حيث يكون العامل يتسلط عليه، ولو قلت قام إلاّ زيد، وليضرب إلاّ عمر ولم يجز. ولو قلت في غير القرآن أخرج الناس من ديارهم إلاّ بأن يقولوا لا إله إلاّ الله لم يكن كلاماً هذا إذا تخيل أن يكون {إلاّ أن يقولوا} في موضع جر بدلاً من غير المضاف إلى {حق} وإما أن يكون بدلاً من حق كما نص عليه الزمخشري فهو في غاية الفساد لأنه يلزم منه أن يكون البدل يلي غيراً فيصير التركيب بغير {إلاّ أن يقولوا} وهذا لا يصح، ولو قدرت {إلاّ} بغير كما يقدر في النفي في ما مررت بأحد إلاّ زيد فتجعله بدلاً لم يصح، لأنه يصير التركيب بغير غير قولهم {ربنا الله} فتكون قد أضفت غيراً إلى غير وهي هي فصار بغير غير، ويصح في ما مررت بأحد إلاّ زيد أن تقول: ما مررت بغير زيد، ثم إن الزمخشري حين مثل البدل قدره بغير موجب سوى التوحيد، وهذا تمثيل للصفة جعل إلاّ بمعنى سوى، ويصح على الصفة فالتبس عليه باب الصفة بباب البدل، ويجوز أن تقول: مررت بالقوم إلاّ زيد على الصفة لا على البدل. {ولولا دفع الله الناس} الآية فيها تحريض على القتال المأذون فيه قبل، وأنه تعالى أجرى العادة بذلك في الأمم الماضية بأن ينتظم به الأمر وتقوم الشرائع وتصان المتعبدات من الهدم وأهلها من القتل والشتات، وكأنه لما قال {أذن للذين يقاتلون} قيل: فليقاتل المؤمنون، فلولا القتال لتغلب على الحق في كل أمة وانظر إلى مجيء قوله {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض} لفسدت الأرض إثر قتال طالوت لجالوت، وقتل داود جالوت. وأخبر تعالى أنه لولا ذلك الدفع فسدت الأرض فكذلك هنا. وقال عليّ بن أبي طالب: ولولا دفع الله بأصحاب محمد الكفار عن التابعين فمن بعدهم، وأخذ الزمخشري قول عليّ وحسنه وذيل عليه فقال: دفع الله بعض الناس ببعض إظهاره وتسليط المؤمنين منهم على الكافرين بالمجاهدة، ولولا ذلك لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم وعلى متعبداتهم فهدموها ولم يتركوا للنصارى بيعاً ولا لرهبانهم صوامع، ولا لليهود صلوات، ولا للمسلمين مساجد، ولغلب المشركون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم على المسلمين وعلى أهل الكتاب الذين في ذمتهم، وهدموا متعبدات الفريقين انتهى. وقال مجاهد: {ولولا دفع الله} ظلم قوم بشهادات العدول ونحو هذا. وقال قوم {دفع} ظلم الظلمة بعدل الولاة. وقالت فرقة {دفع} العذاب بدعاء الأخيار. وقال قطرب: بالقصاص عن النفوس. وقيل: بالنبيين عن المؤمنين. وقال الحسن: لولا أمان الإسلام لخربت متعبدات أهل الذمة، ومعنى الدفع بالقتال أليق بالآية وأمكن في دفع الفساد. وقرأ الحرميان وأيوب وقتادة وطلحة وزائدة عن الأعمش والزعفراني {فهدمت} مخففاً وباقي السبعة وجماعة مشددة لما كانت المواضع كثيرة ناسب مجيء التضعيف لكثرة المواضع فتكرر الهدم لتكثيرها. وقرأ الجمهور {وصلوات} جمع صلاة. وقرأ جعفر بن محمد {وصُلوات} بضم الصاد واللام. وحكى عنه ابن خالويه {صلوات} بسكون اللام وكسر الصاد، وحكيت عن الجحدري والجحدري {صلوات} بضم الصاد وفتح اللام، وحكيت عن الكلبي وأبي العالية بفتح الصاد وسكون اللام {صلوات} والحجاج بن يوسف والجحدري أيضاً وصلوات وهي مساجد النصارى بضمتين من غير ألف ومجاهد كذلك إلا أنه بفتح التاء وألف بعدها والضحاك والكلبي وصلوث بضمتين من غير ألف وبثاء منقوطة بثلاث، وجاء كذلك عن أبي رجاء والجحدري وأبي العالية ومجاهد كذلك إلاّ أنه بعد الثاء ألف. وقرأ عكرمة: وصلويثا بكسر الصاد وإسكان اللام وواو مكسورة بعدها ياء بعدها ثاء منقوطة بثلاث بعدها ألف، والجحدري أيضاً {صَلوات} بضم الصاد وسكون اللام وواو مفتوحة بعدها ألف بعدها ثاء مثلثة النقط. وحكى ابن مجاهد أنه قرئ كذلك إلا أنه بكسر الصاد. وحكى ابن خالويه وابن عطية عن الحجاج والجحدري صلوب بالباء بواحدة على وزن كعوب جمع صليب كظريف وظروف، وأسينة وأسون وهو جمع شاذ أعني جمع فعيل على فعول فهذه ثلاثة عشرة قراءة والتي بالثاء المثلثة النقط. قيل: هي مساجد اليهود هي بالسريانية مما دخل في كلام العرب. وقيل: عبرانية وينبغي أن تكون قراءة الجمهور يراد بها الصلوات المعهودة في الملل، وأما غيرها مما تلاعبت فيه العرب بتحريف وتغيير فينظر ما مدلوله في اللسان الذي نقل منه فيفسر به. وروى هارون عن أبي عمرو {صلوات} كقراءة الجماعة إلاّ أنه لا ينون التاء كأنه جعله اسم موضع كالمواضع التي قبله، وكأنه علم فمنعه الصرف للعلمية والعجمة وكملت القراءات بهذه أربع عشرة قراءة والأظهر في تعداد هذه المواضع أن ذلك بحسب معتقدات الأمم فالصوامع للرهبان. وقيل: للصابئين، والبيع للنصارى، والصلوات لليهود، والمساجد للمسلمين وقاله خصيف. قال ابن عطية: والأظهر أنه قصد بها المبالغة في ذكر المتعبدات، وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها إلاّ البيعة فإنها مختصة بالنصارى في عرف لغة ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لهم كتاب على قديم الدهر، ولم يذكر في هذه الآية المجوس ولا أهل الإشراك لأنّ هؤلاء ليس لهم ما يَوجب حمايته ولا يوجد ذكر الله إلاّ عند أهل الشرائع انتهى. والظاهر عود الضمير في قوله {يذكر فيها} على المواضع كلها جميعها وقاله الكلبي ومقاتل، فيكون {يذكر} صفة للمساجد وإذا حملنا الصلوات على الأفعال التي يصليها أهل الشرائع كان ذلك إما على حذف مضاف أي ومواضع صلوات وإما على تضمين {لهدمت} معنى عطلت فصار التعطيل قدراً مشتركاً بين المواضع والأفعال، وتأخير المساجد إما لأجل قدم تلك وحدوث هذه، وإما لانتقال من شريف إلى أشرف. وأقسم تعالى على أنه تنصر من ينصر أي ينصر دينه وأولياءه، ونصره تعالى هو أن يظفر أولياءه بأعدائهم جلاداً وجدالاً وفي ذلك حض على القتال. ثم أخبر تعالى أنه قوي على نصرهم {عزيز} لا يغالب. والظاهر أنه يجوز في إعراب {الذين إن مكناهم في الأرض} ما جاز في إعراب {الذين أخرجوا} وقال الزجاج: هو منصوب بدل ممن ينصره، والتمكين السلطنة ونفاذ الأمر على الخلق، والظاهر أنه من وصف المأذون لهم في القتال وهم المهاجرون، وفيه إخبار بالغيب عما يكون عليه سيرتهم إن مكن لهم في الأرض وبسط لهم في الدنيا، وكيف يقومون بأمر الدين. وعن عثمان رضي الله عنه: هذا والله ثناء قبل بلاء، يريد أن الله قد أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا، وقالوا: فيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين لأن الله تعالى لم يجعل التمكن ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة لغيرهم من المهاجرين لا حظ في ذلك للأنصار والطلقاء. وفي الآية أخذ العهد على من مكنه الله أن يفعل ما رتب على التمكين في الآية. وقيل: نزلت في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وعن الحسن وأبي العالية: هم أمّته عليه السلام. وعن عكرمة: هم أهل الصلوات الخمس، وهو قريب مما قبله. وقال ابن أبي نجيح: هم الولاة. وقال الضحاك: هو شرط شرطه الله من آناه الملك. وقال ابن عباس: المهاجرون والأنصار والتابعون {ولله عاقبة الأمور} توعد للمخالف ما ترتب على التمكين {وإن يكذبوك} الآية فيها تسلية للرسول بتكذيب من سبق من الأمم المذكورة لأنبيائهم، ووعيد لقريش إذ مثلهم بالأمم المكذبة المعذبة وأسند الفعل بعلامة التأنيث من حيث أراد الأمة والقبيلة، وبنى الفعل للمفعول في {وكذب موسى} أن قومه لم يكذبوه وإنما كذبه القبط {فأمليت للكافرين} أي أمهلت لهم وأخرت عنهم العذاب مع علمي بفعلهم، وفي قوله {فأمليت للكافرين} ترتيب الإملاء على وصف الكفر، فكذلك قريش أملى تعالى لهم ثم أخذهم في غزوة بدر وفي فتح مكة وغيرهما، والأخذ كناية عن العقاب والإهلاك، النكير مصدر كالندير المراد به المصدر، والمعنى فكيف كان إنكاري عليهم وتبديل حالهم الحسنة بالسيئة وحياتهم بالهلاك ومعمورهم بالخراب؟ وهذا استفهام يصحبه معنى التعجب، كأنه قيل: ما أشد ما كان إنكاري عليهم وفي الجملة إرهاب لقريش {فكأين} للتكثير، واحتمل أن يكون في موضع رفع على الابتداء وفي موضع نصب على الاشتغال. وقرأ أبو عمرو وجماعة أهلكتها بتاء المتكلم، والجمهور بنون العظمة {وهي ظالمة} جملة حالية {فهي خاوية على عروشها} تقدم تفسير هذه الجملة في البقرة في قوله {أو كالذي مر على قرية} وقال الزمخشري: فإن قلت: ما محل الجملتين من الإعراب؟ أعني {وهي ظالمة فهي خاوية} قلت: الأولى في محل نصب على الحال، والثانية لا محل لها لأنها معطوفة على {أهلكناها} وهذا الفعل ليس له محل انتهى. وهذا الذي قاله ليس بجيد لأن {فكأين} الأجود في إعرابها أن تكون مبتدأة والخبر الجملة من قوله {أهلكناها} فهي في موضع رفع والمعطوف على الخبر خبر، فيكون قوله {فهي خاوية} في موضع رفع، لكن يتجه قول الزّمخشري على الوجه القليل وهو إعراب {فكأين} منصوباً بإضمار فعل على الاشتغال، فتكون الجملة من قوله {أهلكناها} مفسرة لذلك الفعل، وعلى هذا لا محل لهذه الجملة المفسرة فالمعطوف عليها لا محل له. وقرأ الجحدري والحسن وجماعة {معطلة} مخففاً يقال: عطلت البئر وأعطلتها فعطلت، هي بفتح الطاء، وعطلت المرأة من الحليّ بكسر الطاء. قال الزمخشري: ومعنى المعطلة أنها عامرة فيها الماء ومعها آلات الاستقاء إلاّ أنها عطلت أي تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها، والمشيد المجصص أو المرفوع البنيان والمعنى كم قرية أهلكنا، وكم بئر عطلنا عن سقاتها و{قصر مشيد} أخليناه عن ساكنيه، فترك ذلك لدلالة {معطلة} عليه انتهى. {وبئر} {وقصر} معطوفان على {من قرية} و{من قرية} تمييز لكأين، {وكأين} تقتضي التكثير، فدل ذلك على أنه لا يراد بقربه وبئر وقصر معين، وإن كان الإهلاك إنما يقع في معين لكن من حيث الوقوع لا من حيث دلالة اللفظ، وينبغي أن يكون {بئر} {وقصر} من حيث عطفا على {من قرية} أن يكون التقدير أهلكتهما كما كان أهلكتها مخبراً به عن {كأين} الذي هو القرية من حيث المعنى. والمراد أهل القرية والبئر والقصر، وجعل {وبئر معطلة وقصر مشيد} معطوفين على {عروشها} جهل بالفصاحة ووصف القصر بمشيد ولم يوصف بمشيد كما في قوله في {بروج مشيدة} لأن ذلك جمع ناسب التكثير فيه، وهذا مفرد وأيضاً {مشيد} فاصلة آية. وقد عين بعض المفسرين هذه البئر. فعن ابن عباس أنها كانت لأهل عدن من اليمن وهي الرس. وعن كعب الأحبار أن القصر بناه عاد الثاني وهو منذر بن عاد بن إرم بن عاد. وعن الضحاك وغيره: أن البئر بحضرموت من أرض الشحر، والقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى، والبئر في سفحه لا يقر الريح شيئاً يسقط فيها. روي أن صالحاً عليه السلام نزل عليها مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله من العذاب. وهي بحضرموت، وسميت بذلك لأن صالحاً حين حضرها مات وثم بلدة عند البئر اسمها حاضورا بناها قوم صالح وأمروا عليهم جليس بن جلاس، وأقاموا بها زمناً ثم كفروا وعبدوا صنماً، وأرسل إليهم حنظلة بن صفوان، وقيل: اسمه شريح بن صفوان نبياً فقتلوه في السوق فأهلكهم الله عن آخرهم وعطل بئرهم وخرب قصرهم. وعن الإمام أبي القاسم الأنصاري أنه قال: رأيت قبر صالح بالشام في بلدة يقال لها عكا فكيف يكون بحضرموت.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)} ولما ذكر تعالى من كذب الرسل من الأمم الخالية وكان عند العرب أشياء من أحوالهم ينقلونها وهم عارفون ببلادهم وكثيراً ما يمرون على كثير منها قال {أفلم يسيروا} فاحتمل أن يكون حثاً على السفر ليشاهدوا مصارع الكفار فيعتبروا، أو يكونوا قد سافروا وشاهدوا فلم يعتبروا فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا. وقرأ مبشر بن عبيد: فيكون بالياء والجمهور بالتاء {فتكون} منصوب على جواب الاستفهام قاله ابن عطية، وعلى جواب التقرير قاله الحوفي. وقيل: على جواب النفي، ومذهب البصريين أن النصب بإضمار إن وينسبك منها ومن الفعل مصدر يعطف على مصدر متوهم، ومذهب الكوفيين أنه منصوب على الصرف إذ معنى الكلام الخبر صرفوه عن الجزم على العطف على {يسيروا}، وموردوه إلى أخي الجزم وهو النصب هذا معنى الصرف عندهم، ومذهب الجرمي أن النصب بالفاء نفسها وإسناد العقل إلى القلب يدل على أنه محله، ولا ينكر أن للدفاع بالقلب اتصالاً يقتضي فساد العقل إذا فسد الدماغ ومتعلق {يعقلون بها} محذوف أي ما حل بالأمم السابقة حين كذبوا أنبياءهم و{يعقلون} ما يجب من التوحيد، وكذلك مفعول {يسمعون} أي يسمعون أخبار تلك الأمم أو ما يجب سماعه من الوحي. والضمير في {فإنها} ضمير القصة وحسن التأنيث هنا ورجحه كون الضمير وليه فعل بعلامة التأنيث وهي التاء في {لا تعمى} ويجوز في الكلام التذكير وقرأ به عبد الله فإنه لا تعمى. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً يفسره {الأبصار} وفي {تعمى} راجع إليه انتهى. وما ذكره لا يجوز لأن الذي يفسره ما بعده محصور، وليس هذا واحداً منها وهو في باب رب وفي باب نعم. وبئس، وفي باب الأعمال، وفي باب البدل، وفي باب المتبدأ والخبر على خلاف في هذه الأربعة على ما قرر ذلك في أبوابه. وهذه الخمسة يفسر الضمير فيها المفرد وفي ضمير الشأن ويفسر بالجملة على خلاف فيه أيضاً وهذا الذي ذكره الزمخشري ليس واحداً من هذه الستة فوجب اطّراحه والمعنى أن أبصارهم سالمة لا عمى بها، وإنما العمى بقلوبهم، ومعلوم أن الأبصار قد تعمى لكن المنفي فيها ليس العمى الحقيقي وإنما هو ثمرة البصر وهو التأدية إلى الفكرة فيما يشاهد البصر لكن ذلك متوقف على العقل الذي محله القلب، ووصفت {القلوب} بالتي {في الصدور}. قال ابن عطبة مبالغة كقوله {يقولون بأفواههم} وكما تقول نظرت إليه بعيني. وقال الزمخشري: الذي قد تعورف واعتقد أن العمى على الحقيقة مكان البصر وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها، واستعماله في القلب استعارة ومثل، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف لتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار، كما تقول: ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك فقولك: الذي بين فكيك تقرير لما ادعيته للسانه، وتثبيت لأن محل المضاء هو هو لا غير وكأنك قلت: ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة ولا سهواً مني ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمداً انتهى. وقوله ولكن تعمّدت به إياه بعينه تعمداً فصل الضمير وليس من مواضع فصله، والصواب ولكن تعمدته به كما تقول السيف ضربتك به ولا تقول: ضربت به إياك، وفصله في مكان اتصاله عجمة، وقال أبو عبد الله الرازي: وعندي فيه وجه آخر وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر، والتدبير كقوله تعالى {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} وعند قوم أن محل الفكر هو الدماغ فالله تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر. والضمير في {ويستعجلونك} لقريش، وكان صلى الله عليه وسلم يحذرهم نقمات الله ويوعدهم بذلك دنيا وآخرة وهم لا يصدقون بذلك ويستبعدون وقوعه، فكان استعجالهم على سبيل الاستهزاء وأن ما توعدتنا به لا يقع وإنه لا بعث وفي قوله {ولن يخلف الله وعده} أي إن ذلك واقع لا محالة، لكن لوقوعه أجل لا يتعداه. وأضاف الوعد إليه تعالى لأن رسوله عليه الصلاة والسلام هو المخبر به عن الله تعالى. وقال الزمخشري: أنكر استعجالهم بالمتوعد به من العذاب العاجل والآجل، كأنه قال: ولم يستعجلون به كأنهم يجوّزون الفوت وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف والله عز وعلا لا يخلف الميعاد، وما وعده ليصيبهم ولو بعد حين وهو سبحانه حليم لا يعجل انتهى. وفي قوله وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف دسيسة الاعتزال. وقيل: {ولن يخلف الله وعده} في النظرة والإمهال واختلفوا في هذا التشبه. فقيل: في العدد أي اليوم عند الله ألف سنة من عددكم. وفي الحديث الصحيح: «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وذلك خمسمائة عام» فالمعنى وإن طال الإمهال فإنه في بعض يوم من أيام الله. وقيل: التشبيه وقع في الطول للعذاب فيه، والشدة أي {وإن يوماً} من أيام عذاب الله لشدة العذاب فيه وطوله {كألف سنة} من عددكم إذ أيام الترحة مستطالة وأيام الفرحة مستقصرة، وكان ذلك اليوم الواحد كألف سنة من سني العذاب والمعنى أنهم لو عرفوا حال الآخرة ما استعجلوه وهذا القول قريب من قول أبي مسلم. وقيل: التشبيه بالنسبة إلى علمه تعالى وقدرته وإنفاذ ما يريد {كألف سنة} واقتصر على ألف سنة وإن كان اليوم عنده كما لا نهاية له من العدد لكون الألف منتهى العدد دون تكرار، وهذا القول لا يناسب مورد الآية إلاّ إن أريد أنه القادر الذي لا يعجزه شيء، فإذا لم يستبعدوا إمهال يوم فلا يستبعدوا أيضاً إمهال ألف سنة. وقال ابن عباس: أراد باليوم من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض. وقال ابن عيسى يجمع لهم عذاب ألف سنة في يوم واحد، ولأهل الجنة سرور ألف سنة في يوم واحد. وقال الفراء: تضمنت الآية عذاب الدنيا والآخرة، وأريد العذاب في الدنيا أي {لن يخلف الله وعده} في إنزال العذاب بكم في الدنيا، {وإن يوماً} من أيام عذابكم في الآخرة {كألف سنة} من سني الدنيا فكيف تستعجلون العذاب. وقال الزجاج: تفضل تعالى عليهم بالإمهال والمعنى أن اليوم عند الله والألف سواء في قدرته بين ما استعجلوا به وبين تأخره. وقرأ الأخوان وابن كثير يعدون بياء الغيبة، وباقي السبعة بتاء الخطاب وعطفت {فكأين} الأولى بالفاء وهذه الثانية بالواو. وقال الزمخشري: الأولى وقعت بدلاً عن قوله {فكيف كان نكير} وما هذه فحكمها حكم ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو أعني قوله {لن يخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك كألف سنة} وتكرر التكثير بكائن في القرى لإفادة معنى غير ما جاءت له الأولى لأنه ذكر فيها القرى التي أهلكها دون إملاء وتأخير، بل أعقب الإهلاك التذكير وهذه الآية لما كان تعالى قد أمهل قريشاً حتى استعجلت بالعذاب جاءت بالإهلاك بعد الإملاء تنبيهاً على أن قريشاً وإن أملى تعالى لهم وأمهلهم فإنه لا بد من عذابهم فلا يفرحوا بتأخير العذاب عنهم. ثم أمر نبيه أن يقول لأهل مكة {يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير} من عذاب الله موضح لكم ما تحذرون أو موضح النذارة لا تلجلج فيها، وذكر النذارة دون البشارة وإن كان التقسيم بعد ذلك يقتضيهما لأن الحديث مسوق للمشركين، و{يا أيها الناس} نداء لهم وهم المقول فيهم {أفلم يسيروا} والمخبر عنهم باستعجال العذاب وإنما ذكر المؤمنون هنا وما أعد الله لهم من الثواب ليغاظ المشركون بذلك وليحرضهم على نيل هذه الرتبة الجليلة التي فيها فوزهم، وحصر النذارة لأن المعنى ليس لي تعجيل عذابكم ولا تأخيره عنكم وإنما أنا منذركم به. وقال الكرماني: التقدير بشير و{نذير} فحذف والتقسيم داخل في المقول، والسعي الطلب والاجتهاد في ذلك، ويقال: سعى فلان في أمر فلان فيكون بإصلاح وبإفساد وقد يستعمل في الشر، يقال: فيه سعى بفلان سعاية أي تحيل، وكاد في إيصال الشر إليه وسعيهم بالفساد في آيات الله حيث طعنوا فيها فسموها سحراً وشعراً وأساطير الأولين، وثبطوا الناس عن الإيمان بها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والجحدري وأبو السمال والزعفراني معجزّين بالتشديد هنا وفي حرفي سبأ زاد الجحدري في جميع القرآن أي مثبطين. وقرأ باقي السبعة بألف. وقرأ ابن الزبير معجّزين بسكون العين وتخفيف الزاي من أعجزني إذا سبقك ففاتك. قال صاحب اللوامح: لكنه هنا بمعنى معاجزين أي ظانين أنهم يعجزوننا، وذلك لظنهم أنهم لا يبعثون. وقيل: في {معاجزين} معاندين، وأما معجّزين بالتشديد فإنه بمعنى مثبطين الناس عن الإسلام، ويقال: مثبطين. وقال الزمخشري: عاجزه سابقه لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به، فإذا سبقه قيل أعجزه وعجزه، فالمعنى سابقين أو مسابقين في زعمهم وتقديرهم، طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم انتهى. وقال أبو علي الفارسي: معجزين معناه ناسبين أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى العجز كما تقول: فسقت فلاناً إذا نسبته إلى الفسق. وتقدم شرح أخرى هاتين الجملتين الواردتين تقسيماً.
|