الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***
{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)} هذه السورة مدنية بلا خلاف، ولما ذكر تعالي مشركي قريش ولهم أعمال من دون ذلك أي أعمال سيئة هم لها عاملون، واستطرد بعد ذلك إلى أحوالهم، واتخاذهم الولد والشريك، وإلى مآلهم في النار كان من أعمالهم السيئة أنه كان لهم جوارٍ بغايا يستحسنون عليهن ويأكلون من كسبهم من الزنا، فأنزل الله أول هذه السورة تغليظاً في أمر الزنا وكان فيما ذكر وكأنه لا يصح ناس من المسلمين هموا بنكاحهن. وقرأ الجمهور {سورة} بالرفع فجوّزوا أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذه {سورة} أو مبتدأ محذوف الخبر، أي فيما أوحينا إليك أو فيما يتلى عليكم. وقال ابن عطية: ويجوز أن يكون مبتدأ أو الخبر {الزانية والزاني} وما بعد ذلك، والمعنى السورة المنزلة والمفروضة كذا وكذا إذ السورة عبارة عن آيات مسرودة لها بدء وختم إلاّ أن يكون المبتدأ ليس بالبين أنه الخبر إلاّ أن يقدر الخبر في السورة كلها وهذا بعيد في القياس و{أنزلناها} في هذه الأعاريب في موضع الصفة انتهى. وقرأ عمر بن عبد العزيز ومجاهد وعيسى بن عمر الثقفي البصري وعيسى بن عمر الهمداني الكوفي وابن أبي عبلة وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو وأمَّ الدرداء {سورةً} بالنصب فخرج على إضمار فعل أي أتلو سورة و{أنزلناها} صفة. قال الزمخشري: أو على دونك {سورة} فنصب على الإغراء، ولا يجوز حذف أداة الإغراء وأجازوا أن يكون من باب الاشتغال أي أنزلنا {سورة أنزلناها} فأنزلناها مفسر لأنزلنا المضمرة فلا موضع له من الإعراب إلاّ أنه فيه الابتداء بالنكرة من غير مسوغ إلاّ إن اعتقد حذف وصف أي {سورة} معظمة أو موضحة {أنزلناها} فيجوز ذلك. وقال الفراء: {سورة} حال من الهاء والألف والحال من المكنى يجوز أن يتقدّم عليه انتهى. فيكون الضمير المنصوب في {أنزلناها} ليس عائداً على {سورة} وكان المعنى أنزلنا الأحكام {وفرضناها} سورة أي في حال كونها سورة من سور القرآن، فليست هذه الأحكام ثابتة بالسنة فقط بل بالقرآن، والسنة. وقرأ الجمهور {وفرضناها} بتخفيف الراء أي فرضنا أحكامها وجعلناها واجبة متطوّعاً بها. وقيل: وفرضنا العمل بما فيها. وقرأ عبد الله وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة وأبو عمرو وابن كثير بتشديد الراء إما للمبالغة في الإيجاب، وإما لأن فيها فرائض شتى أو لكثرة المفروض عليهم. قيل: وكل أمر ونهي في هذه السورة فهو فرض. {وأنزلنا فيها آيات} بينات أمثالاً ومواعظ وأحكاماً ليس فيها مشكل يحتاج إلى تأويل. وقرأ الجمهور {الزانية والزاني} بالرفع، وعبد الله والزان بغير ياء، ومذهب سيبويه أنه مبتدأ والخبر محذوف أي فيما يتلى عليكم حكم {الزانية والزاني} وقوله {فاجلدوا} بيان لذلك الحكم، وذهب الفراء والمبرد والزجاج إلى أن الخبر {فاجلدوا} وجوزه الزمخشري، وسبب الخلاف هو أنه عند سيبويه لا بد أن يكون المبتدأ الداخل الفاء في خبره موصولاً بما يقبل أداة الشرط لفظاً أو تقديراً، واسم الفاعل واسم المفعول لا يجوز أن يدخل عليه أداة الشرط وغير سيبويه ممن ذكرنا لم يشرط ذلك، وتقرير المذهبين والترجيح مذكور في النحو. وقرأ عيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وعمرو بن فائد وأبو جعفر وشيبة وأبو السمال ورويس {الزانية والزاني} بنصبهما على الاشتغال، أي واجلدوا {الزانية والزاني} كقولك زيداً فاضربه، ولدخول الفاء تقرير ذكر في علم النحو والنصب هنا أحسن منه في {سورة أنزلناها} لأجل الأمر، وتضمنت السورة أحكاماً كثيرة فيما يتعلق بالزنا ونكاح الزواني وقذف المحصنات والتلاعن والحجاب وغير ذلك. فبدئ بالزنا لقبحه وما يحدث عنه من المفاسد والعار. وكان قد نشأ في العرب وصار من إمائهم أصحاب رايات وقدّمت الزانية على الزاني لأن داعيتها أقوى لقوة شهوتها ونقصان عقلها، ولأن زناها أفحش وأكثر عاراً وللعلوق بولد الزنا وحال النساء الحجبة والصيانة. وقال الزمخشري: فإن قلت: قدّمت الزانية على الزاني أولاً ثم قدم عليها ثانياً؟ قلت: سبقت تلك الآية لعقوبتهما على ما جنيا والمرأة على المادة التي منها نشأت الجناية، فإنها لو لم تطمع الرجل ولم تربض له ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن، فلما كانت أصلاً وأولاً في ذلك بدئ بذكرها، وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه لأنه هو الراغب والخاطب ومنه يبدأ الطلب انتهى. ولا يتم هذا الجواب في الثانية إلاّ إذا حمل النكاح على العقد لا على الوطء. وأل في {الزانية والزاني} للعموم في جميع الزناة. وقال ابن سلام وغيره: هو مختص بالبكرين والجلد إصابة الجلد بالضرب كما تقول: رأسه وبطنه وظهره أي ضرب رأسه وبطنه وظهره وهذا مطرد في أسماء الأعيان الثلاثية العضوية، والظاهر اندراج الكافر والعبد والمحصن في هذا العموم وهو لا يندرج في المجنون ولا الصبيّ بإجماع. وقال ابن سلام وغيره: واتفق فقهاء الأمصار على أن المحصن يرجم ولا يجلد. وقال الحسن وإسحاق وأحمد: يجلد ثم يرجم: وجلد عليّ رضي الله عنه شراحة الهمدانية ثم رجمها وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حجة في كون مرجومة أنيس والغامدية لم ينقل جلدهما لأن ذلك معلوم من أحكام القرآن فلا ينقل إلاّ ما كان زائداً على القرآن وهو الرجم، فلذلك ذكر الرجم ولم يذكر الجلد. ومذهب أبي حنيفة أن من شرط الإحصان الإسلام، ومذهب الشافعي أنه ليس بشرط، واتفقوا على أن الأَمة تجلد خمسين وكذا العبد على مذهب الجمهور. وقال أهل الظاهر: يجلد العبد مائة ومنهم من قال: تجلد الأمة مائة إلاّ إذا تزوجت فخمسين، والظاهر اندراج الذمّيين في الزانية والزاني فيجلدان عند أبي حنيفة والشافعي وإذا كانا محصنين يرجمان عند الشافعي. وقال مالك: لا حد عليهما والظاهر أنه ليس على الزانية والزاني حد غير الجلد فقط وهو مذهب الخوارج، وقد ثبت الرجم بالسنة المستفيضة وعمل به بعد الرسول خلفاء الإسلام أبو بكر وعمر وعليّ، ومن الصحابة جابر وأبو هريرة وبريدة الأسلمي وزيد بن خالد، واختلفوا في التغريب بنفي البكر بعد الجلد. وقال الثوري والأوزاعي والحسن بن صالح والشافعي ينفي الزاني. وقال الأوزاعي ومالك: ينفي الرجل ولا تنفى المرأة قال مالك: ولا ينفي العبد نصف سنة، والظاهر أن هذا الجَلد إنما هو على من ثبت عليه الزنا فلو وجدا في ثوب واحد فقال إسحاق يضرب كل واحد منهما مائة جلدة، وروي عن عمر وعليّ. وقال عطاء والثوري ومالك وأحمد: يؤدبان على مذاهبهم في الأدب، وأما الإكراه فالمكرهة لا حد عليها وفي حد الرجل المكره خلاف وتفصيل بين أن يكرهه سلطان فلا يحد أو غيره فيحد، وهو قول أبي حنيفة وقول أبي يوسف ومحمد والحسن بن صالح والشافعي لا يحد في الوجهين، وقول زفر يحد فيهما جميعاً. والظاهر أنه لا يندرج في الزنا من أتى امرأة من دبرها ولا ذكراً ولا بهيمة. وقيل: يندرج والمأمور بالجلد أئمة المسلمين ونوابهم. واختلفوا في إقامة الخارجي المتعلب الحدود. فقيل له ذلك. وقيل: لا وفي إقامة السيد على رقيقه. فقال ابن مسعود وابن عمر وعائشة وفاطمة والشافعي: له ذلك. وقال أبو حنيفة ومحمد وزفر: لا، وقال مالك والليث: له ذلك إلاّ في القطع في السرقة فإنما يقطعه الإمام، والجلد كما قلنا ضرب الجلد ولم تتعرض الآية لهيئة الجالد ولا هيئة المجلود ولا لمحل الجلد ولا لصفة الآلة المجلود بها وذلك مذكور في كتب الفقه. وقال الزمخشري: فإن قلت: هذا حكم جميع الزناة والزواني أم حكم بعضهم؟ قلت: بل هو حكم من ليس بمحصن منهم، فإن المحصن حكمه الرجم فإن قلت: اللفظ يقتضي تعليق الحكم بجميع الزناة والزواني لأن قوله {الزانية والزاني} عام في الجميع يتناوله المحصن وغير المحصن قلت: {الزانية والزاني} بدلان على الجنسين المنافيين لجنسي العفيف والعفيفة دلالة مطلقة، والجنسية قائمة في الكل والبعض جميعاً فأيهما قصد المتكلم فلا عليه كما يفعل بالأسم المشترك انتهى. وليست دلالة اللفظ على الجنسين كما ذكر دلالة مطلقة لأن دلالة عموم الاستغراق مباينة لدلالة عموم البدل وهو الإطلاق، وليست كدلالة المشترك لأن دلالة العموم هي كل فرد فرد على سبيل الاستغراق، ودلالة المشترك تدل على فرد فرد على الاستغراق أعني في الاستعمال وإن كان في ذلك خلاف في أصول الفقه، لكن ما ذكرته هو الذي يصح في النظر واستعمال كلام العرب. وقرأ عليّ بن أبي طالب والسلمي وابن مقسم وداود بن أبي هند عن مجاهد: ولا يأخذكم بالياء لأن تأنيث الرأفة مجاز وحسن ذلك الفصل. وقرأ الجمهور بالتاء الرأفة لفظاً. وقرأ الجمهور {رأفة} بسكون الهمزة وابن كثير بفتحها وابن جريج بألف بعد الهمزة. وروي هذا عن عاصم وابن كثير، وكلها مصادر أشهرها الأول والرأفة المنهي أن تأخذ المتولين إقامة الحد. قال أبو مجلز ومجاهد وعكرمة وعطاء: هي في إسقاط الحد، أي أقيموه ولا يدرأ هذا تأويل ابن عمر وابن جبير وغيرهما. ومن مذهبهم أن الحد في الزنا والفرية والخمر على نحو واحد. وقال قتادة وابن المسيب وغيرهما: الرأفة المنهي عنها هي في تخفيف الضرب على الزناة، ومن رأيهم أن يخفف ضرب الفرية والخمر ويشدد ضرب الزنا. وقال الزمخشري: والمعنى أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله ويستعملوا الجد والمتانة فيه، ولا يأخذهم اللين والهوادة في استيفاء حدوده انتهى. فهذا تحسين قول أبي مجلز ومن وافقه. وقال الزهري: يشدّد في الزنا والفرية ويخفف في حد الشرب. وقال مجاهد والشعبي وابن زيد: في الكلام حذف تقديره {ولا تأخذكم بهما رأفة} فتعطلوا الحدود ولا تقيموها. والنهي في الظاهر للرأفة والمراد ما تدعو إليه الرأفة وهو تعطيل الحدود أو نقصها ومعنى {في دين الله} في الإخلال بدين الله أي بشرعه. قيل: ويحتمل أن يكون الدين بمعنى الحكم {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} تثبيت وحض وتهييج للغضب لله ولدينه، كما تقول: إن كنت رجلاً فافعل، وأمر تعالى بحضور جلدهما طائفة إغلاظاً على الزناة وتوبيخاً لهم بحضرة الناس، وسمى الجلد عذاباً إذ فيه إيلام وافتضاح وهو عقوبة على ذلك الفعل، والطائفة المأمور بشهودها ذلك يدل الاشتقاق على ما يكون يطوف بالشيء وأقل ما يتصور ذلك فيه ثلاثة وهي صفة غالبة لأنها الجماعة الحافة بالشيء. وعن ابن عباس وابن زيد في تفسيرها أربعة إلى أربعين. وعن الحسن: عشرة. وعن قتادة والزهري: ثلاثة فصاعداً. وعن عكرمة وعطاء: رجلان فصاعداً وهو مشهور قول مالك. وعن مجاهد: الواحد فما فوقه واستعمال الضمير الذي للجمع عائداً على الطائفة في كلام العرب دليل على أنه يراد بها الجمع وذلك كثير في القرآن. {الزاني لا ينكح إلاّ زانية أو مشركة} الظاهر أنه خبر قصد به تشنيع الزنا وأمره، ومعنى {لا ينكح} لا يطأ وزاد {المشركة} في التقسيم، فالمعنى أن الزاني في وقت زناه لا يجامع إلاّ زانية من المسلمين أو أخس منها وهي المشركة، والنكاح بمعنى الجماع مروي عن ابن عباس هنا. وقال الزمخشري: وقيل المراد بالنكاح الوطء وليس بقول لأمرين. أحدهما: أن هذه الكلمة أينما وردت في القرآن لم يرد بها إلاّ معنى العقد. والثاني: فساد المعنى وأداؤه إلى قولك الزاني لا يزني إلاّ بزانية، والزانية لا تزني إلا بزان انتهى. وما ذكره من الأمر الأول أخذه من الزجاج قال: لا يعرف النكاح في كتاب الله إلا بمعنى التزويج وليس كما قال، وفي القرآن حتى تنكح زوجاً غيره، وبيِّن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه بمعنى الوطء. وأما الأمر الثاني فالمقصود به تشنيع الزنا وتشنيع أمره وأنه محرم على المؤمنين. وقال الزمخشري: وأخذه من الضحاك وحسنه الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا، والخبث لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء اللاتي على خلاف صفته، وإنما يرغب في فاسقه خبيثة من شكله، أو في مشركة. والفاسقة الخبيثة المسافحة كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها، وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة والمشركين، ونكاح المؤمن الممدوح عند الله الزانية ورغبته فيها وانخراطه بذلك في سلك الفسقة المتسمين بالزنا محرم محظور لما فيه من التشبه بالفساق، وحضور. موقع التهمة والتسبب لسوء القالة فيه والغيبة وأنواع المفاسد ومجالسة الخطائين، كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام فكيف بمزاوجة الزواني والقحاب وإقدامه على ذلك انتهى. وعن ابن عمر وابن عباس وأصحابه أنها في قوم مخصوصين كانوا يزنون في جاهليتهم ببغايا مشهورات، فلما جاء الإسلام وأسلموا لم يمكنهم الزنا فأرادوا لفقرهم زواج أولئك النسوة إذ كن من عادتهن الإنفاق على من ارتسم بزواجهن، فنزلت الآية بسببهن والإشارة بالزاني إلى أحد أولئك أطلق عليه اسم الزنا الذي كان في الجاهلية وقوله {لا ينكح} أي لا يتزوج، وعلى هذين التأويلين فيه معنى التفجع عليهم وفيه توبيخ كأنه يقول: الزاني لا يريد أن يتزوج إلا زانية أو مشركة، أي تنزع نفوسهم إلى هذه الخسائس لقلة انضباطهم، ويرد على هذين التأويلين الإجماع على أن الزانية لا يجوز أن يتزوجها مشرك في قومه {وحرم ذلك على المؤمنين}. أي نكاح أولئك البغايا، فيزعم أهل هذين التأويلين أن نكاحهن حرمه الله على أمّة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن: المراد الزاني المحدود، والزانية المحدودة، قال: وهذا حكم من الله فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلاّ زانية. وقد روي أن محدوداً تزوج غير محدودة فردّ عليّ بن أبي طالب نكاحها. {وحرم ذلك على المؤمنين} يريد الزنا. وروى الزهراني في هذا حديثاً من طريق أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينكح الزاني المحدود إلاّ مثله» قال ابن عطية: وهذا حديث لا يصح، وقول فيه نظر، وإدخال المشرك في الآية يرده وألفاظ الآية تأباه وإن قدرت المشركة بمعنى الكتابية فلا حيلة في لفظ المشرك انتهى. وقال ابن المسيب: هذا حكم كان في الزناة عام أن لا يتزوج زان إلاّ زانية، ثم جاءت الرخصة ونسخ ذلك بقوله {وأنكحوا الأيامى منكم} وقوله {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} وروي ترتيب هذا النسخ عن مجاهد إلاّ أنه قال: حرم نكاح أولئك البغايا على أولئك النفر. قال ابن عطية: وذكر الإشراك في الآية يضعف هذه المناحي انتهى. وعن الجبائي إنها منسوخة بالإجماع، وضعف بأنه ثبت في أصول الفقه أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به، وتلخص من هذه الأقوال أن النكاح إن أريد به الوطء فالآية وردت مبالغة في تشنيع الزنا، وإن أريد به التزويج فإما أن يراد به عموم في الزناة ثم نسخ، أو عموم في الفساق الخبيثين لا يرغبون إلاّ فيمن هو شكل لهم، والفواسق الخبائث لا يرغبن إلاّ فيمن هو شكل لهن، ولا يجوز التزويج على ما قرره الزمخشري، أو يراد به خصوص في قوم كانوا في الجاهلية زناة ببغايا فأرادوا تزويجهن لفقرهم وإيسارهن مع بقائهن على البغاء فلا يتزوج عفيفة، ولو زنا رجل بامرأة ثم أراد تزويجها فأجاز ذلك أبو بكر الصديق وابن عمر وابن عباس وجابر وطاوس وابن المسيب وجابر بن زيد وعطاء والحسن وعكرمة ومالك والثوري والشافعي، ومنعه ابن مسعود والبراء ابن عازب وعائشة وقالا: لا يزالان زانيين ما اجتمعا، ومن غريب النقل أنه لو تزوج معروف بالزنا أو بغيره من الفسوق ثبت الخيار في البقاء معه أو فراقه وهو عيب من العيوب التي يترتب الخيار عليها، وذهب قوم إلى أن الآية محكمة، وعندهم أن من زنى من الزوجين فسد النكاح بينهما. وقال قوم منهم: لا ينفسخ ويؤمر بطلاقها إذا زنت، فإن أمسكها أثم. قالوا: ولا يجوز التزويج بالزانية ولا من الزاني فإن ظهرت التوبة جاز. وقال الزمخشري: فإن قلت: أي فرق بين معنى الجملة الأولى ومعنى الثانية؟ قلت: معنى الأولى صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف ولكن في الفواجر، ومعنى الثانية صفتها بكونها غير مرغوب فيها للأعّفاء ولكن للزناة، وهما معنيان مختلفان. وعن عمرو بن عبيد {لا ينكح} بالجزم على النهي والمرفوع فيه معنى النهي ولكن هو أبلغ وآكد كما أن رحمك الله ويرحمك الله أبلغ من ليرحمك، ويجوز أن يكون خبراً محضاً على معنى إن عادتهم جارية على ذلك، وعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة ويتصون عنها انتهى. وقرأ أبو البر هثيم {وحرم} مبنياً للفاعل أي الله، وزيد بن عليّ {وحَرُم} بضم الراء وفتح الحاء والجمهور {وحرّم} مشدداً مبنياً للمفعول. والقذف الرمي بالزنا وغيره، والمراد به هنا الزنا لاعتقابه إياه ولاشتراط أربعة شهداء وهو مما يخص القذف بالزنا إذ في غيره يكفي شاهدان. قال ابن جبير: ونزلت بسبب قصة الإفك. وقيل: بسبب القذفة عاماً، واستعير الرمي للشتم لأنه إذاية بالقول. كما قال: وجرح اللسان كجرح اليد... وقال: رماني بأمر كنت منه ووالدي *** بريئاً ومن أجل الطويّ رماني و {المحصنات} الظاهر أن المراد النساء العفائف، وخص النساء بذلك وإن كان الرجال يشركونهن في الحكم لأن القذف فيهن أشنع وأنكر للنفوس، ومن حيث هن هوى الرجال ففيه إيذاء لهن ولأزواجهن وقراباتهن. وقيل: المعنى الفروج المحصنات كما قال: {والتي أحصنت فرجها} وقيل: الأنفس المحصنات وقاله ابن حزم: وحكاه الزهراوي فعلى هذين القولين يكون اللفظ شاملاً للنساء وللرجال، ويدل على الثاني قوله {والمحصنات من النساء} وثم محذوف أي بالزنا، وخرج بالمحصنات من ثبت زناها أو زناه، واستلزم الوصف بالإحصان الإسلام والعقل والبلوغ والحرية. قال أبو بكر الرازي: ولا نعلم خلافاً بين الفقهاء في هذا المعنى، والمراد بالمحصنات غير المتزوجات الرامين أو لمن زوجه حكم يأتي بعد ذلك، والرمي بالزنا الموجب للحد هو التصريح بأن يقول: يا زانية، أو يا زاني، أو يا ابن الزاني وابن الزانية، يا ولد الزنا لست لأبيك لست لهذه وما أشبه ذلك من الصرائح، فلو عرض كأن يقول: ما أنا بزان ولا أمي بزانية لم يحد في مذهب أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد وابن شبرمة والثوري والحسن بن صالح والشافعي، ويحد في مذهب مالك، وثبت الحد فيه عن عمر بعد مشاورته الناس وقال أحمد وإسحاق هو قذف في حال الغضب دون الرضا، فلو قذف كتابياً إذا كان للمقذوف ولد مسلم. وقيل: إذا قذف الكتابية تحت المسلم حُدّ وأتفقوا على أن قاذف الصبي لا يُحَد وإن كان مثله يجامع، واختلفوا في قاذف الصبية. فقال مالك: يحد إذا كان مثلها يجامع. وقال مالك والليث: يحد إذا كان مثلها يجامع. وقال مالك والليث: يحد قاذف المجنون. وقال غيرهما: لا يحد. {والذين يرمون} ظاهره الذكور وحكم الراميات حكمهم، ولو قذف الصبي أو المجنون زوجته أو أجنبية فلا حدّ عليه أو أخرس وله كناية معروفة أو إشارة مفهومة حد عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يصح قذفه ولا لعانه ولما كانت معصية الزنا كبيرة من أمهات الكبائر وكان متعاطيها كثيراً ما يتسير بها فقلما يطلع أحد عليها، شدد الله تعالى على القاذف حيث شرط فيها أربعة شهداء رحمة بعباده وستراً لهم والمعنى {ثم لم يأتوا} الحكام والجمهور على إضافة {أربعة} إلى {شهداء}. وقرأ أبو زرعة وعبد الله بن مسلم {بأربعة} بالتنوين وهي قراءة فصيحة، لأنه إذا اجتمع اسم العدد والصفة كان الاتباع أجود من الإضافة، ولذلك رجح ابن جني هذه القراءة على قراءة الجمهور من حيث أخذ مطلق الصفة وليس كذلك، لأن الصفة إذا جرت مجرى الأسماء وباشرتها العوامل جرت في العدد وفي غيره مجرى الأسماء، ومن ذلك شهيد ألا ترى إلى قوله {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد} وقوله {واستشهدوا شهيدين} وكذلك: عبد فثلاثة شهداء بالإضافة أفصح من التنوين والاتباع، وكذلك ثلاثة أعبد. وقال ابن عطية: وسيبويه يرى أن تنوين العدد وترك إضافته إنما يجوز في الشعر انتهى. وليس كما ذكر إنما يرى ذلك سيبويه في العدد الذي بعده اسم نحو: ثلاثة رجال، وأما في الصفة فلا بل الصحيح التفصيل الذي ذكرناه، وإذا نونت أربعة فشهداء بدل إذ هو وصف جرى مجرى الأسماء أو صفة لأنه صفة حقيقية، ويضعف قول من قال أنه حال أو تمييز، وهذه الشهادة تكون بالمعاينة البليغة كالمرود في المكحلة، والظاهر أنه لا يشترط شهادتهم أن تكون حالة اجتماعهم بل لو أتى بهم متفرقين صحت شهادتهم. وقال أبو حنيفة: شرط ذلك أن يشهدوا مجتمعين، فلو جاؤوا متفرقين كانوا قذفه. والظاهر أنه يجوز أن يكون أحد الشهود زوج المقذوفة لاندراجه في أربعة شهداء ولقوله {فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} ولم يفرق بين كون الزوج فيهم وبين أن يكونوا أجنبيين، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وتحد المرأة، وروي ذلك عن الحسن والشعبي. وقال مالك والشافعي: يلاعن الزوج ويحد الثلاثة وروي مثله عن ابن عباس. {فاجلدوهم} أمر للإمام ونوابه بالجلد، والظاهر وجوب الجلد وإن لم يطالب المقذوف وبه قال ابن أبي ليلى. وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي: لا يحد إلاّ بمطالبته. وقال مالك كذلك إلاّ أن يكون الإمام سمعه يقذفه فيحده إذا كان مع الإمام شهود عدول وإن لم يطالب المقذوف، والظاهر أن العبد القاذف حرّاً إذا لم يأت بأربعة شهداء حد ثمانين لاندراجه في عموم {والذين يرمون} وبه قال عبد الله بن مسعود والأوزاعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك والثوري وعثمان البتي والشافعي: يجلد أربعين وهو قول عليّ وفعل أبي بكر وعمر وعليّ ومن بعدهم من الخلفاء قاله عبد الله بن ربيعة، ولو قذف واحد جماعة بلفظ واحد أو أفرد لكل واحد حد حدّاً واحداً وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ومالك والثوري والليث. وقال عثمان البتي والشافعي لكل واحد حد. وقال الشعبي وابن أبي ليلى: إن كان بلفظ واحد نحو يا زناة فحدوا حد، أو قال: لكل واحد يا زاني فلكل إنسان حد، والظاهر من الآية أنه لا يجلد إلاّ القاذف ولم يأت جلد الشاهد إذا لم يستوف عدد الشهود، وليس من جاء للشهادة للقاذف بقاذف وقد أجراه عمر مجرى القاذف. وجلد أبا بكرة وأخاه نافعاً وشبل بن معبد البجلي لتوقف الرابع وهو زيادة في الشهادة فلم يؤدها كاملة، ولو أتى بأربعة شهداء فساق. فقال زفر: يدرأ الحد عن القاذف والشهود. وعن أبي يوسف يحد القاذف ويدرأ عن الشهود. وقال مالك وعبيد الله بن الحسن: يحد الشهود والقاذف. {ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً} الظاهر أنه لا يقبل شهادته أبداً وإن أكذب نفسه وتاب، وهو نهي جاء بعد أمر، فكما أن حكمه الجلد كذلك حكمه رد شهادته وبه قال شريح القاضي والنخعي وابن المسيب وابن جبير والحسن والثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح: لا تقبل شهادة المحدود في القذف وإن تاب، وتقبل شهادته في غير المقذوف إذا تاب. وقال مالك: تقبل في القذف بالزنا وغيره إذا تاب وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والقاسم بن محمد وسالم والزهري، وقال: لا تقبل شهادة محدود في الإسلام يعني مطلقاً، وتوبته بماذا تقبل بإكذاب نفسه في القذف وهو قول الشافعي وكذا فعل عمر بنافع وشبل أكذبا أنفسهما فقبل شهادتهما، وأصر أبو بكرة فلم تقبل شهادته حتى مات. {وأولئك هم الفاسقون} الظاهر أنه كلام مستأنف غير داخل في حيز الذين يرمون، كأنه إخبار بحال الرامين بعد انقضاء الموصول المتضمن معنى الشرط وما ترتب في خبره من الجلد وعدم قبول الشهادة أبداً. {إلاّ الذين تابوا} هذا الاستثناء يعقب جملاً ثلاثة، جملة الأمر بالجلد وهو لو تاب وأكذب نفسه لم يسقط عنه حد القذف، وجملة النهي عن قبول شهادتهم أبداً وقد وقع الخلاف في قبول شهادتهم إذا تابوا بناء على أن هذا الاستثناء راجع إلى جملة النهي، وجملة الحكم بالفسق أو هو راجع إلى الجملة الأخيرة وهي الثالثة وهي الحكم بفسقهم والذي يقتضيه النظر أن الاستثناء إذا تعقب جملة يصلح أن يتخصص كل واحد منها بالاستثناء أن يجعل تخصيصاً في الجملة الأخيرة، وهذه المسألة تكلم عليها في أصول الفقه وفيها خلاف وتفصيل، ولم أر من تكلم عليها من النحاة غير المهاباذي وابن مالك فاختار ابن مالك أن يعود إلى الجمل كلها كالشرط، واختار المهاباذي أن يعود إلى الجملة الأخيرة وهو الذي نختاره، وقد استدللنا على صحة ذلك في كتاب التذييل والتكميل في شرح التسهيل. وقال الزمخشري: وجعل يعني الشافعي الاستثناء متعلقاً بالجملة الثانية وحق المستثنى عنده أن يكون مجرور بدلاً من {هم} في {لهم} وحقه عند أبي حنيفة النصب لأنه عن موجب، والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث مجموعهن جزاء الشرط يعني الموصول المضمن معنى الشرط كأنه قيل: ومن قذف المحصنات فاجلدوه وردوا شهادته وفسِّقوه أي اجمعوا له الحد والرد والفسق. {إلاّ الذين تابوا} عن القذف {وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} فينقلبون غير محدودين ولا مردودين ولا مفسقين انتهى. وليس يقتضي ظاهر الآية عود الاستثناء إلى الجمل الثلاث، بل الظاهر هو ما يعضده كلام العرب وهو الرجوع إلى الجملة التي تليها والقول بأنه استثناء منقطع مع ظهور اتصاله ضعيف لا يصار إليه إلاّ عند الحاجة. ولما ذكر تعالى قذف المحصنات وكان الظاهر أنه يتناول الأزواج وغيرهن ولذلك قال سعد بن عبادة: يا رسول الله إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتي آتي بأربعة شهداء والله لأضربنه بالسيف غير مصفح، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم على حد هلال بن أمية حين رمى زوجته بشريك بن سحماء فنزلت {والذين يرمون أزواجهم} واتضح أن المراد بقوله {والذين يرمون المحصنات} غير الزوجات، والمشهور أن نازلة هلال قبل نازلة عويمر. وقيل: نازلة عويمر قبل، والمعنى بالزنا ولم يكن لهم شهداء ولم يقيد بعدد اكتفاء بالتقييد في قذف غير الزوجات، والمعنى {شهداء} على صدق قولهم. وقرئ ولم تكن بالتاء. وقرأ الجمهور بالياء وهو الفصيح لأنه إذا كان العامل مفرغاً لما بعد إلاّ وهو مؤنث فالفصيح أن يقول ما قام إلاّ هند، وأما ما قامت إلاّ هند فأكثر أصحابنا يخصه بالضرورة، وبعض النحويين يجيزه في الكلام على قلة. و {أزواجهم} يعم سائر الأزواج من المؤمنات والكافرات والإماء، فكلهن يلاعن الزوج للانتفاء من العمل. وقال أبو حنيفة وأصحابه: بأحد معنيين أحدهما: أن تكون الزوجة ممن لا يجب على قاذفها الحد وإن كان أجنبياً، نحو أن تكون الزوجة مملوكة أو ذمية وقد وطئت وطأ حر إما في غير ملك. والثاني: أن يكون أحدهما ليس من أهل الشهادة بأن يكون محدوداً في قذف أو كافراً أو عبداً، فأمّا إذا كان أعمى أو فاسقاً فله أن يلاعن. وقال الثوري والحسن بن صالح: لا لعان إذا كان أحد الزوجين مملوكاً أو كافراً، ويلاعن المحدود في القذف. وقال الأوزاعي: لالعان بين أهل الكتاب ولا بين المحدود في القذف وامرأته. وقال الليث: يلاعن العبد امرأته الحرة والمحدود في القذف. وعن مالك: الأمة المسلمة والحرة الكتابية يلاعن الحر المسلم والعبد يلاعن زوجته الكتابية، وعنه: ليس بين المسلم والكافرة لعان إلاّ لمن يقول رأيتها تزني فيلاعن ظهر الحمل أو لم يظهر، ولا يلاعن المسلم الكافرة ولا زوجته الأمة إلاّ في نفي الحمل ويتلاعن عن المملوكان المسلمان لا الكافران. وقال الشافعي كل زوج جاز طلاقه ولزمه الفرض يلاعن، والظاهر العموم في الرامين وزوجاتهم المرميات بالزنا، والظاهر إطلاق الرمي بالزنا سواء قال: عاينتها تزني أم قال زنيت وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وكان مالك لا يلاعن إلاّ أن يقول: رأيتك تزنين أو ينفي حملاً بها أو ولداً منها والأعمى يلاعن. وقال الليث: لا يلاعن إلاّ أن يقول: رأيت عليها رجلاً أو يكون استبرأها، فيقول: ليس هذا الحمل مني ولم تتعرض الآية في اللعان إلاّ لكيفيته من الزوجين. وقد أطال المفسرون الزمخشري وابن عطية وغيرهما في ذكر كثير من أحكام اللعان مما لم تتعرض له الآية وينظر ذلك في كتب الفقه. وقرأ الجمهور {أربع شهادات} بالنصب على المصدر. وارتفع {فشهادة} خبراً على إضمار مبتدإِ، أي فالحكم أو الواجب أو مبتدأ على إضمار الخبر متقدماً أي فعليه أن يشهد أو مؤخراً أي كافيه أو واجبه. و {بالله} من صلة {شهادات} ويجوز أن يكون من صلة {فشهادة} قاله ابن عطية، وفرغ الحوفي ذلك على الأعمال، فعلى رأي البصريين واختيارهم يتعلق بشهادات، وعلى اختيار الكوفيين يتعلق بقوله {فشهادة}. وقرأ الأخوان وحفص والحسن وقتادة والزعفراني وابن مقسم وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وأبان وابن سعدان {أربع} بالرفع خبر للمبتدأ، وهو {فشهادة} و{بالله} من صلة {شهادات} على هذه القراءة، ولا يجوز أن يتعلق بفشهادة للفصل بين المصدر ومعموله بالجر ولا يجوز ذلك. وقرأ الجمهور {والخامسة} بالرفع فيهما. وقرأ طلحة والسلمي والحسن والأعمش وخالد بن إياس ويقال ابن إياس بالنصب فيهما. وقرأ حفص والزعفراني بنصب الثانية دون الأولى، فالرفع على الابتداء وما بعده الخبر، ومن نصب الأولى فعطف على {أربع} في قراءة من نصب {أربع}، وعلى إضمار فعل يدل عليه المعنى في قراءة من رفع {أربع} أي وتشهد {الخامسة} ومن نصب الثانية فعطف على {أربع} وعلى قراءة النصب في {الخامسة} يكون {أن} بعده على إسقاط حرف الجر، أي بأن، وجوّز أن يكون {أن} وما بعده بدلاً من {الخامسة}. وقرأ نافع {أن لعنة} بتخفيف {أنَّ} ورفع {لعنة} و{أن غضب} بتخفيف {أن} و{غضب} فعل ماض والجلالة بعد مرفوعة، وهي ان المخففة من الثقيلة لما خففت حذف اسمها وهو ضمير الشأن. وقرأ أبو رجاء وقتادة وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون والأعرج ويعقوب بخلاف عنهما، والحسن {أن لعنة} كقراءة نافع، و{أن غضب} بتخفيف {أن} و{غضب} مصدر مرفوع وخبر ما وبعده وهي أن المخففة من الثقيلة. وقرأ باقي السبعة {أن لعنة الله} و{أن غضب الله} بتشديد {أن} ونصب ما بعدهما اسماً لها وخبر ما بعد. قال ابن عطية: و{أن} الخفيفة على قراءة نافع في قوله {أن غضب} قد وليها الفعل. قال أبو علي: وأهل العربية يستقبحون أن يليها الفعل إلاّ أن يفصل بينها وبينه بشيء نحو قوله {علم أن سيكون} وقوله {أفلا يرون أن لا يرجع} وأما قوله تعالى {وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى} فذلك لعلة تمكن ليس في الأفعال. وأما قوله {أن بورك من في النار} فبورك على معنى الدعاء فلم يجر دخول الفواصل لئلا يفسد المعنى انتهى. ولا فرق بين {أن غضب الله} و{أن بورك} في كون الفعل بعد أن دعاء، ولم يبين ذلك ابن عطية ولا الفارسي، ويكون غضب دعاء مثل النحاة أنه إذا كان الفعل دعاء لا يفصل بينه وبين أن بشيء، وأورد ابن عطية {أن غضب} في قراءة نافع مورد المستغرب. {ويدرؤوا عنها العذاب} أي يدفع و{العذاب} قال الجمهور الحد. وقال أصحاب الرأي لا حد عليها إن لم يلاعن ولا يوجبه عليها قول الزوج. وحكى الطبري عن آخرين أن {العذاب} هو الحبس، والظاهر الاكتفاء في اللعان بهذه الكيفية المذكورة في الآية وبه قال الليث، ومكان ضمير الغائب ضمير المتكلم في شهادته مطلقاً وفي شهادتها في قوله عليها تقول عليّ. فقال الثوري وأبو حنيفة ومحمد وأبو يوسف: يقول بعد {من الصادقين} فيما رماها به من الزنا وكذا بعد من الكاذبين، وكذا هي بعد من الكاذبين و{من الصادقين} فإن كان هناك ولد ينفيه زاد بعد قوله فيما رماها به من الزنا في نفي الولد. وقال مالك: يقول أشهد بالله أني رأيتها تزني وهي أشهد بالله ما رآني أزني، والخامسة تقول ذلك أربعاً و{الخامسة} لفظ الآية. وقال الشافعي: يقول أشهد بالله أني لصادق فيما رميت به زوجتي فلانة بنت فلان، ويشير إليها إن كان حاضرة أربع مرات، ثم يقعد الإمام ويذكره الله تعالى فإن رآه يريد أن يمضي أمر من يضع يده على فيه ويقول: إن قولك وعليّ لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة من الزنا، فإن قذفها بأحد يسميه بعينه واحد أو اثنين في كل شهادة، وإن نفي ولدها زاد وأن هذا الولد ما هو مني، والظاهر أنه إذا طلقها بائناً فقذفها وولدت قبل انقضاء العدة فنفي الولد أنه يحد ويلحقه الولد لأنه لا ينطلق عليها زوجة إلاّ مجازاً. وعن ابن عباس: إذا طلقها تطليقة أو تطليقتين ثم قذفها حدّ. وعن ابن عمر: يلاعن. وعن الليث والشافعي: إذا أنكر حملها بعد البينونة لاعن. وعن مالك: إن أنكره بعد الثلاث لاعنها. ولو قذفها ثم بانت منه بطلاق أو غيره فقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: لا حد ولا لعان. وقال الأوزاعي والليث والشافعي: يلاعن وهذا هو الظاهر لأنها كانت زوجته حالة القذف، والظاهر من قوله {فشهادة أحدهم} أنه يلزم ذلك فإن نكل حبس حتى يلاعن وكذلك هي، وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه. وقال مالك والحسن بن صالح والليث والشافعي: أيهما نكل حدّ هو للقذف وهي للزنا. وعن الحسن: إذا لاعن وأبت حبست. وعن مكحول والضحاك والشعبي: ترجم ومشروعية اللعان دليل على أن الزنا والقذف ليسا بكفر من فاعلهما خلافاً للخوارج في قولهم: إن ذلك كفر من الكاذب منهما لاستحقاق اللعن من الله والغضب. قال الزمخشري: فإن قلت: لم خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله؟ قلت: تغليظاً عليها لأنها هي أصل الفجور ومتبعة بإطماعها، ولذلك كانت مقدّمة في آية الجلد ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم لخويلة: «والرجم أهون عليك من غضب الله». {ولولا فضل الله} إلى آخره. قال السدّي فضله منته ورحمته نعمته. وقال ابن سلام: فضله الإسلام ورحمته الكتمان. ولما بين تعالى حكم الرامي الحصنات والأزواج كان في فضله ورحمته أن جعل اللعان سبيلاً إلى الستر وإلى درء الحدّ وجواب {لولا} محذوف. قال التبريزي: تقديره لهلكتم أو لفضحكم أولعاجلكم بالعقوبة أو لتبين الكاذب. وقال ابن عطية: لكشف الزناة بأيسر من هذا أو لأخذهم بعقاب من عنده، ونحو هذا من المعاني التي يوجب تقديرها إبهام الجواب.
{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)} سبب نزول هذه الآيات مشهور مذكور في الصحيح، والإفك: الكذب والأفتراء. وقيل: هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك. والعصبة: الجماعة وقد تقدم الكلام عليها في سورة يوسف عليه السلام. {منكم} أي من أهل ملتكم وممن ينتمي إلى الإسلام، ومنهم منافق ومنهم مسلم، والظاهر أن خبر {إن} هو {عصبة منكم} و{منكم} في موضع الصفة وقاله. الحوفي وأبو البقاء. و{لا تحسبوه}: مستأنف. وقال ابن عطية {عصبة} رفع على البدل من الضمير في {جاؤوا} وخبر {إن} في قوله و{لا تحسبوه} التقدير أن فعل الذين وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أن يكون {عصبة} خبر {إن} انتهى. والعصبة: عبد الله بن أبيّ رأس النفاق، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم ممن لم يرد ذكر اسمه، و{لا تحسبوه} الظاهر أنه عائد على الإفك وعلى إعراب ابن عطية {لا تحسبوه} الظاهر أنه عائد على الإفك، وعلى إعراب ابن عطية. يعول على ذلك المحذوف الذي قدره اسم {إن}. قيل: ويجوز أن يعود على القذف وعلى المصدر المفهوم من {جاؤوا} وعلى ما نال المسلمين من الغم، والمعنى {لا تحسبوه} ينزل بكم منه عار {بل هو خير لكم} لبراءة الساحة وثواب الصبر على ذلك الأذى وانكشاف كذب القاذفين. وقيل: الخطاب بلا تحسبوه للقاذفين وكينونة ذلك خيراً لهم حيث كان هذا الذكر عقوبة معجلة كالكفارة، وحيث تاب بعضهم. وهذا القول ضعيف لقوله بعد: {لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم} أي جزاء ما اكتسب، وذلك بقدر ما خاض فيه لأن بعضهم ضحك وبعضهم سكت وبعضهم تكلم، و{اكتسب} مستعمل في المآثم ونحوها لأنها تدل على اعتمال وقصد فهو أبلغ في الترتيب وكسب مستعمل في الخير لأن حصوله مغن عن الدلالة على اعتمال فيه، وقد يستعمل كسب في الوجهين. {والذي تولى} كبره المشهور أنه عبد الله بن أبيّ، والعذاب العظيم عذاب يوم القيامة. وقيل: هو ما أصاب حسان من ذهاب بصره وشل يده، وكان ذلك من عبد الله بن أُبي لإمعانه في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم وانتهازه الفرص، وروي عنه كلام قبيح في ذلك نزهت كتابي عن ذكره وقلمي عن كتابته قبحه الله. وقيل: {الذي تولى كبره} حسان، والعذاب الأليم عماه وحده وضرب صفوان له بالسيف على رأسه وقال له: توقّ ذباب السيف عني فإنني *** غلام إذا هوجيت لست بشاعر ولكنني أحمي حماي وأتقي *** من الباهت الرامي البريء الظواهر وأنشد حسان أبياتاً يثني فيها على أم المؤمنين ويظهر براءته مما نسب إليه وهي: حصان رزان ما تزنّ بريبة *** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل حليلة خير الناس ديناً ومنصباً *** نبيّ الهدى والمكرمات الفواضل عقيلة حي من لؤي بن غالب *** كرام المساعي مجدها غير زائل مهذبة قد طيب الله خيمها *** وطهرها من كل شين وباطل فإن كان ما بلغت عني قلته *** فلا رفعت سوطي إليّ أناملي وكيف وودي ما حييت ونصرتي *** بآل رسول الله زين المحافل له رتب عال على الناس فضلها *** تقاصر عنها سورة المتطاول والمشهور أنه حد حسان ومسطح وحمنة. قيل: وعبد الله بن أبيّ وقد ذكره بعض شعراء ذلك العصر في شعر. وقيل: لم يحد مسطح. وقيل: لم يحد عبد الله. وقيل: لم يحد أحد في هذه القصة وهذا مخالف للنص. {فاجلدوهم ثمانين جلدة} وقابل ذلك بقول: إنما يقال الحد بإقرار أو بينة، ولم يتقيد بإقامته بالإخبار كما لم يتقيد بقتل المنافقين، وقد أخبر تعالى بكفرهم. وقرأ الجمهور {كبره} بكسر الكاف. وقرأ الحسن وعمرة بنت عبد الرحمن والزهري وأبو رجاء ومجاهد وأبو البرهثيم والأعمش وحميد وابن أبي عبلة وسفيان الثوري ويزيد بن قطيب ويعقوب والزعفراني وابن مقسم وسورة عن الكسائي ومحبوب عن أبي عمرو بضم الكاف، والكبر والكبر مصدران لكبر الشيء عظم لكن استعمال العرب الضم ليس في السن. هذا كبر القوم أي كبيرهم سناً أو مكانة. وفي الحديث في قصة حويصة ومحيصة: «الكبر الكبر». وقيل {كبره} بالضم معظمه، وبالكسر البداءة بالإفك. وقيل: بالكسر الإثم. {لولا إذ سمعتموه} هذا تحريض على ظن الخير وزجر وأدب، والظاهر أن الخطاب للمؤمنين حاشا من تولى كبره. قيل: ويحتمل دخولهم في الخطاب وفيه عتاب، أي كان الإنكار واجباً عليهم، وعدل بعد الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر فلم يجيء التركيب ظننتم بأنفسكم {خيراً} وقلتم ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات وليصرح بلفظ الإيمان دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض أن لا يصدق مؤمن على أخيه قول عائب ولا طاعن، وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في أخيه أن يبني الأمر فيه على ظن الخير، وأن يقول بناء على ظنه {هذا إفك مبين} هكذا باللفظ الصريح ببراءة أخيه كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال، وهذا من الأدب الحسن ومعنى {بأنفسهم} أي كان يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات هذا الأمر على أنفسهم فإذا كان ذلك يبعد عليهم قضوا بأنه في حق من هو خير منهم أبعد. وقيل: معنى {بأنفسهم} بأمهاتهم. وقيل: بإخوانهم. وقيل: بأهل دينهم، وقال {ولا تلمزوا أنفسكم} فسلموا على أنفسكم أي لا يلمز بعضكم بعضاً، وليسلم بعضكم على بعض. {لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء} جعل الله فصلاً بين الرمي الكاذب والرمي الصادق ثبوت أربعة شهداء وانتفاؤها. {فإذا لم يأتوا} فهم في حكم الله وشريعته كاذبون، وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك ولم يجدّوا في دفعه وإنكاره واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة والتنكيل. {ولولا فضل الله} أي في الدنيا بالنعم التي منها الإمهال للتوبة {ورحمة} عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة. {لمسكم} العذاب فيما خضتم فيه من حديث الإفك يقال: أفاض في الحديث واندفع وهضب وخاض. {إذ تلقونه} لعامل في {إذا} {لمسكم}. وقرأ الجمهور {تلقونه} بفتح الثلاث وشد القاف وشد التاء البزي وأدغم ذال {إِذ} في التاء النحويان وحمزة أي يأخذه بعضكم من بعض، يقال: تلقى القول وتلقنه وتلقفه والأصل تتلقونه وهي قراءة أُبيّ. وقرأ ابن السميفع {تُلْقُونَه} بضم التاء والقاف وسكون اللام مضارع ألقى وعنه {تَلْقَونه} بفتح التاء والقاف وسكون اللام مضارع لقي. وقرأت عائشة وابن عباس وعيسى وابن يعمر وزيد بن عليّ بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف من قول العرب: ولق الرجل كذب، حكاه أهل اللغة. وقال ابن سيده، جاؤوا بالمتعدي شاهداً على غير المتعدي، وعندي أنه أراد يلقون فيه فحذف الحرف ووصل الفعل للضمير. وحكى الطبري وغيره أن هذه اللفظة مأخوذة من الولق الذي هو الإسراع بالشيء بعد الشيء كعدد في أثر عدد، وكلام في أثر كلام، يقال: ولق في سيره إذا أسرع قال: جاءت به عيسى من الشام يلق *** وقرأ ابن أسلم وأبو جعفر تألقونه بفتح التاء وهمزة ساكنة بعدها لام مكسورة من الألق وهو الكذب. وقرأ يعقوب في رواية المازني تيلقونه بتاء مكسورة بعدها ياء ولام مفتوحة كأنه مضارع ولق بكسر اللام كما قالوا: تيجل مضارع وجلت. وقال سفيان: سمعت أمي تقرأ إذ تثقفونه يعني مضارع ثقف قال: وكان أبوها يقرأ بحرف ابن مسعود. ومعنى {بأفواهكم} وتديرونه فيها من غير علم لأن الشيء المعلوم يكون في القلب ثم يعبر عنه اللسان، وهذا الإفك ليس محله إلاّ الأفواه كما قال {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم} {وتحسبونه هيناً} أي ذنباً صغيراً {وهو عند الله عظيم} من الكبائر وعلق مس العذاب بثلاثة آثام تلقى الإفك والتكلم به واستصغاره ثم أخذ يوبخهم على التكلم به، وكان الواجب عليهم إذ سمعوه أن لا يفوهوا به. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز الفصل بين {لولا} و{قلتم}؟ قلت: للظروف شأن وهو تنزلها من الأشياء منزلة نفسها لوقوعها فيها، وأنها لا تنفك عنها فلذلك يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها انتهى. وما ذكره من أدوات التحضيض يوهم أن ذلك مختص بالظرف وليس كذلك، بل يجوز تقديم المفعول به على الفعل فتقول: لولا زيداً ضربت وهلا عمراً قتلت. قال الزمخشري: فإن قلت: فأي فائدة في تقديم الظرف حتى أوقع فاصلاً؟ قلت: الفائدة بيان أنه كان الواجب عليهم أن ينقادوا حال ما سمعوه بالإفك عن التكلم به، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم. فإن قلت: ما معنى {يكون} والكلام بدونه متلئب لو قيل ما لنا أن نتكلم بهذا قلت: معناه ما ينبغي ويصح أي ما ينبغي {لنا أن نتكلم بهذا} ولا يصح لنا ونحوه ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق {وسبحانك} تعجب من عظم الأمر. فإن قلت: ما معنى التعجب في كلمة التسبيح؟ قلت: الأصل في ذلك أن تسبيح الله عند رؤية المتعجب من صنائعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه، أو لتنزيه الله عن أن تكون حرمة نبيه صلى الله عليه وسلم كما قيل فيها انتهى. {يعظكم الله أن تعودوا} أي في أن تعودوا، تقول: وعظت فلاناً في كذا فتركه. {إن كنتم مؤمنين} حث لهم على الاتعاظ وتهييج لأن من شأن المؤمن الاحتزاز مما يشينه من القبائح. وقيل: {أن تعودوا} مفعول من أجله أي كراهة {أن تعودوا}. {ويبين الله لكم الآيات} أي الدلالات على علمه وحكمته بما ينزل عليكم من الشرائع ويعلمكم من الآداب، ويعظكم من المواعظ الشافية. {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة}. قال مجاهد وابن زيد الإشارة إلى عبد الله بن أبي ومن أشبهه. {في الذين آمنوا} لعداوتهم لهم، والعذاب الأليم في الدنيا الحد، وفي الآخرة النار. والظاهر في {الذين يحبون أن تشيع الفاحشة} العموم في كل قاذف منافقاً كان أو مؤمناً، وتعليق الوعيد على محبة الشياع دليل على أن إرادة الفسق فسق والله يعلم أي البريء من المذنب وسرائر الأمور، ووجه الحكمة في ستركم والتغليظ في الوعيد. وقال الحسن: عنى بهذا الوعيد واللعن المنافقين، وأنهم قصدوا وأحبوا إذاية الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك كفر وملعون فاعله. وقال أبو مسلم: هم المنافقون أوعدهم الله بالعذاب في الدنيا على يد الرسول بالمجاهدة كقوله {جاهدِ الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} وقال الكرماني: والله يعلم كذبهم {وأنتم لا تعلمون} لأنه غيب. وجواب {لولا} محذوف أي لعاقبكم. {أن الله روؤف} بالتبرئة {رحيم} بقبول توبة من تاب ممن قذف. قال ابن عباس: الخطاب لحسان ومسطح وحمنة والظاهر العموم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)} تقدم الكلام على {خطوات الشيطان} تفسيراً وقراءة في البقرة. والضمير في {فإنه} عائد على {من} الشرطية، أي فإن متبع خطوات الشيطان {يأمر بالفحشاء} وهو ما أفرط قبحه {والمنكر} وهو ما تنكره العقول السليمة أي يصير رأساً في الضلال بحيث يكون آمراً يطيعه أصحابه. {ولولا فضل الله عليكم ورحمته} بالتوبة الممحصة ما طهر أحد منكم. وقرأ الجمهور {ما زكى} بتخفيف الكاف، وأمال حمزة والكسائي وأبو حيوة والحسن والأعمش وأبو جعفر في رواية وروح بتشديدها، وأماله الأعمش وكبت {زكي} المخفف بالياء وهو من ذوات الواو على سبيل الشذوذ لأنه قد يمال، أو على قراءة من شد الكاف. {ولكن الله يزكي من يشاء} ممن سبقت له السعادة، وكان عمله الصالح أمارة على سبقها أو من يشاء بقبول التوبة النصوح {والله سميع} لأقوالهم {عليم} بضمائرهم. {ولا يأتل} هو مضارع ائتلى افتعل من الألية وهي الحلف. وقيل: معناه يقصر من افتعل ألوت قصرت ومنه {لا يألونكم} وقول الشاعر: وما المرء ما دامت حشاشة نفسه *** بمدرك أطراف الخطوب ولا آل وهذا قول أبي عبيدة، واختاره أبو مسلم. وسبب نزولها المشهور أنه حلف أبي بكر على مسطح أن لا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة. وقال ابن عياش والضحاك: قطع جماعة من المؤمنين منافعهم عمن قال في الإفك، وقالوا: لا نصل من تكلم فيه فنزلت في جميعهم. والآية تتناول من هو بهذا الوصف. وقرأ الجمهور {يأتل}. وقرأ عبد الله بن عياش بن ربيعة وأبو جعفر مولاه وزيد بن أسلم والحسن يتأل مضارع تألى بمعنى حلف. قال الشاعر: تألّى ابن أوس حلفة ليردّني *** إلى نسوة كأنهن معائد والفضل والسعة يعني المال، وكان مسطح ابن خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان من المهاجرين وممن شهد بدراً، وكان ما نسب إليه داعياً أبا بكر أن لا يحسن إليه، فأمر هو ومن جرى مجراه بالعفو والصفح، وحين سمع أبو بكر {ألا تحبون أن يغفر الله لكم}؟ قال: بلى، أحب أن يغفر الله لي ورد إلى مسطح نفقته وقال: والله لا أنزعها أبداً. وقرأ أبو حيوة وابن قطيب وأبو البرهثيم أن تؤتوا بالتاء على الالتفات، ويناسبه {ألا تحبون} و{أن يؤتوا} نصب الفعل المنهي فإن كان بمعنى الحلف فيكون التقدير كراهة {أن يؤتوا} وأن لا يؤتوا فحذف لا، وإن كان بمعنى يقصر فيكون التقدير في أن يؤتوا أو عن أن يؤتوا. وقرأ عبد الله والحسن وسفيان بن الحسين وأسماء بنت يزيد ولتعفوا ولتصفحوا بالتاء أمر خطاب للحاضرين. {إن الذين يرمون} عام في الرامين واندرج فيه الراميان تغليباً للمذكر على المؤنث. و{المحصنات} ظاهره أنه عام في النساء العفائف. وقال النحاس: من أحسن ما قيل فيه أنه عام لجميع الناس من ذكر وأنثى، وأن التقدير يرمون الأنفس {المحصنات} فيدخل فيه المذكر والمؤنث. وقيل: هو خاص بمن تكلم فيها في حديث الإفك. وقيل: خاص بأمهات المؤمنين وكبراهن منزلة وجلالة تلك فعلى أنه خاض بها جمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بتلك الصفات من الإحصان والعقل والإيمان كما قال: قدني من نصر الخبيبين قدي *** يعني عبد الله بن الزبير وأشياعه. و{الغافلات} السليمات الصدور النقيات القلوب اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر لأنهن لم يجربن الأمور ولا يفطنّ لما يفطن له المجريات، كما قال الشاعر: ولقد لهوت بطفلة ميالة *** بلهاء تطلعني على أسرارها وكذلك البله من الرجال في قوله «أكثر أهل الجنة البله». {لعنوا في الدنيا والآخرة} في قذف المحصنات. قيل: هذا الاستثناء بالتوبة وفي هذه لم يجيء استثناء. وعن ابن عباس أن من خاض في حديث الإفك وتاب لم تقبل توبته، والصحيح أن الوعيد في هذه الآية مشروط بعدم التوبة، ولا فرق بين الكفر والفسق وأن من تاب غفر له. ويناسب أن تكون هذه الآية كما قيل نزلت في مشركي مكة، كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا: خرجت لتفجر قاله أبو حمزة اليماني، ويؤيده قوله {يوم تشهد عليهم} وعن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن أُبَيّ كان يشك في الدين فإذا كان يوم القيامة علم حيث لا ينفعه. والناصب ليوم تشهد ما تعلق به الجار والمجرور وهو ولهم. وقال الحوفي: العامل فيه عذاب، ولا يجوز لأنه موصوف إلاّ على رأي الكوفيين. وقرأ الأخوان والزعفراني وابن مقسم وابن سعدان يشهد بياء من تحت لأنه تأنيث مجازي، ووقع الفصل، وباقي السبعة بالتاء، ولما كان قلب الكافر لا يريد ما يشهد به أنطق الله الجوارح والألسنة والأيدي والأرجل بما عملوا في الدنيا وأقدرها على ذلك، وليست الحياة شرطاً لوجود الكلام. وقالت المعتزلة: يخلق في هذه الجوارح الكلام، وعندهم المتكلم فاعل الكلام فتكون تلك الشهادة من الله في الحقيقة إلاّ أنه تعالى أضافها إلى الجوارح توسعاً. وقالوا أيضاً: إنه تعالى ينشئ هذه الجوارح على خلاف ما هي عليه، ويلجئها أن تشهد على الإنسان وتخبر عنه بأعماله. قال القاضي: وهذا أقرب إلى الظاهر لأن ذلك يفيد أنها بفعل الشهادة. وانتصب {يومئذ} بيوفيهم، والتنوين في إذ عوض من الجملة المحذوفة، والتقدير يوم إذ تشهد. وقرأ زيد بن عليّ {يوفيهم} مخففاً والدين هنا الجزاء أي جزاء أعمالهم. وقال: ولم يبق سوى العد *** وإن دناهم كما دانوا ومنه: كما تدين تدان. وقرأ الجمهور {الحق} بالنصب صفة لدينهم. وقرأ عبد الله ومجاهد وأبو روق وأبو حيوة بالرفع صفة لله، ويجوز الفصل بالمفعول بين الموصول وصفته و{يعلمون} إلى آخره يقوي قول من قال: إن الآية في عبد الله بن أُبيّ لأن كل مؤمن يعلم {أن الله هو الحق المبين}. قال الزمخشري: ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر الله عز وجل قد غلظ في شيء تغليظه في الإفك وما أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد، والعذاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك واستفظاع ما أقدم عليه ما نزل فيه على طرق مختلفة وأساليب متقنة كل واحد منها كاف في بابه، ولو لم ينزل إلاّ هذه الثلاث لكفى بها حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعاً وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة وأن {ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم} تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا به، وأنه {يوفيهم} جزاء الحق الذي هم أهله حتى يعلموا عند الله {أن الله هو الحق المبين} فأوجز في ذلك وأشبع وفصل وأجمل وأكد وكرر، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلاّ ما هو دونه في الفظاعة انتهى. وهو كلام حسن. ثم قال بعد كلام فإن قلت: ما معنى قوله {هو الحق المبين}؟ قلت: معناه ذو الحق المبين العادل الذي لا ظلم في حكمه، والمحقّ الذي لا يوصف بباطل، ومن هذه صفته لم تسقط عنده إساءة مسيء ولا إحسان محسن، فحق مثله أن يتقى وتجتنب محارمه انتهى. وفي قوله لم تسقط عنده إساءة مسيء دسيسة الاعتزال. والظاهر أن {الخبيثات} وصف للنساء، وكذلك {الطيبات} أي النساء الخبيثات للرجال {الخبيثين} ويرجحه مقابلته بالذكور فالمعنى أن {الخبيثات} من النساء ينزعن للخباث من الرجال، فيكون قريباً من قوله {الزاني لا ينكح إلاّ زانية أو مشركة} وكذلك {الطيبات} من النساء {للطيبين} من الرجال ويدل على هذا التأويل قول عائشة حين ذكرت التسع التي ما أعطيتهن امرأة غيرها. وفي آخرها: ولقد خلقت طيبة عند طيب، ولقد وعدت مغفرة ورزقاً كريماً. وهذا التأويل نحا إليه ابن زيد فهو تفريق بين عبد الله وأشباهه والرسول وأصحابه، فلم يجعل الله له إلاّ كل طيبة وأولئك خبيثون فهم أهل النساء الخبائث. وقال ابن عباس والضحاك ومجاهد وقتادة: هي الأقوال والأفعال، ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم: الكلمات والفعلات الخبيثة لا يقولها ولا يرضاها إلاّ الخبيثون من الناس فهي لهم وهم لها بهذا الوجه. وقال بعضهم الكلمات: والفعلات لا تليق وتلصق عند رمي الرامي وقذف القاذف إلاّ بالخبيثين من الناس فهي لهم وهم لها بهذا الوجه. {أولئك} إشارة للطيبين أو إشارة لهم وللطيبات إذا عنى بهن النساء. {مبرؤون مما يقولون} أي يقول الخبيثون من خبيثات الكلم أو القاذفون الرامون المحصنات ووعد الطيبين المغفرة عند الحساب والرزق الكريم في الجنة. غض البصر: أطبق الجفن على الجفن بحيث تمتنع الرؤية. قال الشاعر: فغض الطرف إنك من نمير *** فلا كعباً بلغت ولا كلابا الخُمر: جمع خمار وهو القنعة التي تلقي المرأة على رأسها، وهو جمع كثرة مقيس فيه، ويجمع في القلة على أخمرة وهو مقيس فيها أيضاً. قال الشاعر: وترى الشجراء في ريقه *** كرؤوس قطعت فيها الخمر الجيب: فتح يكون في طريق القميص يبدو منه بعض الجسد. والعورة: ما احترز من الإطلاع عليه ويغلب في سوأة الرجل. والمرأة الأيم: قال النضر بن شميل: كل ذكر لا أنثى معه، وكل أنثى لا ذكر معها ووزنه فعيل كلين ويقال: آمت تئيم. وقال الشاعر: كل امرئ ستئيم من *** ه العرس أو منها يئم أي: سينفرد فيصير أيماً، وقياس جمعه أيائم كسيائد في جمع سيد وجمعه على فعالى محفوظ لا مقيس. البغاء: الزنا، يقال: بغت المرأة تبغي بغاء فهي بغي وهو مختص بزنا النساء. المشكاة: الكوة غير النافذة. قال الكلبي حبشي معرب. الزجاجة: جوهر مصنوع معروف، وضم الزاي لغة الحجاز، وكسرها وفتحها لغة قيس. الزيت: الدهن المعتصر من حب شجرة الزيتون. قال الكرماني: السراب بخار يرتفع من قعور القيعان فيكيف فإذا اتصل به ضوء الشمس أشبه الماء من بعيد، فإذا دنا منه الإنسان لم يره كما كان يراه بعيداً. وقال الفراء: السراب: ما لصق بالأرض. وقيل: هو الشعاع الذي يرى نصف النهار عند اشتداد الحر في البر، يخيل للناظر أنه الماء السارب أي الجاري. وقال الشاعر: فلما كففنا الحرب كانت عهودكم *** كلمع سراب في الفلا متألق وقال: أمر الطول لماع السراب *** وقيل: السراب ما يرقون من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنبسطة. اللجي: الكثير الماء، ولجة البحر معظمة، وكان لجياً مسنوب إلى اللجة. الودق: المطر شديده وضعيفه. قال الشاعر: فلا مزنة ودقت ودقها *** ولا أرض أبقل إبقالها وقال أبو الأشهب العقيلي: هو البرق. ومنه قول الشاعر: أثرن عجاجة وخرجن منها *** خروج الودق من خلل السحاب والودق: مصدر ودق السحاب يدق ودقاً، ومنه استودقت الفرس. البرد: معروف وهو قطع متجمدة يذوب منه ماء بالحرارة. السنا: مقصور من ذوات الواو وهو الضوء. قال الشاعر: يضيء سناه أو مصابيح راهب *** يقال: سنا يسنو سناً، والسنا أيضاً نبت يُتداوي به، والسناء بالمد الرفعة والعلو قال: وسن كسنق سناء وسنما *** أذعن للشيء: انقاد له. وقال الزجاج: الإذعان: الإسراع مع الطاعة. الحيف: الميل في الحكم، يقال: حاف في قضيته أي جار. اللواذ: الروغان من شيء إلى شيء في خفية.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، فلا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي فنزلت {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا} الآية. فقال أبو بكر بعد نزولها: يا رسول الله أرأيت الخانات والمساكن التي ليس فيها ساكن فنزل {ليس عليكم جناح} الآية. ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن أهل الإفك إنما وجدوا السبيل إلى بهتانهم من حيث اتفقت الخلوة، فصارت كأنها طريق للتهمة، فأوجب الله تعالى أن لا يدخل المرء بيت غيره إلاّ بعد الاستئذان والسلام، لأن في الدخول لا على هذا الوجه وقوع التهمة وفي ذلك من المضرة ما لا خفاء به. والظاهر أنه يجوز للإنسان أن يدخل بيت نفسه من غير استئذان ولا سلام لقوله {غير بيوتكم} " ويروى أن رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أأستأذن على أمي؟ قال: «نعم» قال: ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: «أتحب أن تراها عريانة» قال الرجل: لا، قال: وغيّا النهي عن الدخول بالاستئناس والسلام على أهل تلك البيوت "، والظاهر أن الاستئناس هو خلاف الاستيحاش، لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا، فهو كالمستوحش من جفاء الحال إذا أذن له استأنس، فالمعنى حتى يؤذن لكم كقوله: {لا تدخلوا بيوت النبيّ إلا أن يؤذن لكم} وهذا من باب الكنايات والإرداف، لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن فوضع موضع الإذن. وقد روي عن ابن عباس أنه قال {تستأنسوا} معناه تستأذنوا، ومن روى عن ابن عباس أن قوله {تستأنسوا} خطأ أو وهم من الكاتب وأنه قرأ حتى تستأذنوا فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين، وابن عباس بريء من هذا القول. و{تستأنسوا} متمكنة في المعنى بنية الوجه في كلام العرب. وقد قال عمر للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أستأنس يا رسول الله وعمر وأقف على باب الغرفة الحديث المشهور. وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به صلى الله عليه وسلم. وقيل: هو من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف، استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً، والمعنى حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا، ومنه استأنس هل ترى أحداً واستأنست فلم أر أحداً، أي تعرفت واستعلمت ومنه بيت النابعة: كان رحلى وقد زال النهار بنا *** يوم الجليل على مستأنس وحد ويجوز أن يكون من الإنس وهو أن يتعرف هل ثم إنسان. وعن أبي أيوب قال: قلنا: يا رسول الله، ما الاستئناس؟ قال: " يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة يتنحنح يؤذن أهل البيت والتسليم أن يقول السلام عليكم " وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته: حييتم صباحاً وحييتم مساء ثم يدخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف. واحد فصدّ الله عن ذلك وعلم الأحسن الأكمل. وذهب الطبري في {تستأنسوا} إلى أنه بمعنى حتى تؤنسوا أهل البيت من أنفسكم بالتنحنح والاستئذان ونحوه وتؤنسوا أنفسكم بأن تعلموا أن قد شُعر بكم. قال ابن عطية: وتصريف الفعل يأبى أن يكون من آنس انتهى. وقال عطاء: الاستئذان واجب على كل محتلم، والظاهر مطلق الاستئذان فيكفي فيه المرة الواحدة. وفي الحديث: «الاستئذان ثلاث» يعني كماله. «فإن أذن له وإلاّ فليرجع ولا يزيد على ثلاث إلاّ أن يحقق أن من في البيت لم يسمع» والظاهر تقديم الاستئذان على السلام. وفي حديث أبي داود: قل السلام عليكم أأدخل؟ والواو في {وتسلموا} لا تقتضي ترتيباً فشرع النداء بالسلام على الإذن لما في السلام من التفاؤل بالسلامة. {ذلكم} إشارة إلى المصدر المفهوم من {تستأنسوا} و{تسلموا} أي {ذلكم} الاستئناس والتسليم {خير لكم} من تحية الجاهلية. {لعلكم تذكرون} أي شرَّعنا ذلك ونبهناكم على ما فيه مصلحتكم من الستر وعدم الاطلاع على ما تكرهون الإطلاع عليه {لعلكم تذكرون} اعتناء بمصالحكم. {فإن لم تجدوا فيها أحداً} أي يأذن لكم فلا تقدموا على الدخول في ملك غيركم {حتى يؤذن لكم} إذ قد يكون لرب البيت فيه ما لا يحب أن يطلع عليه. {وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا} وهذا عائد إلى من استأذن في دخول بيت غيره فلم يؤذن له سواء كان فيه من يأذن أم لم يكن، أي لا تلحوا في طلب الإذن ولا في الوقوف على الباب منتظرين. {هو أزكى} أي الرجوع أطهر لكم وأنمى خيراً لما فيه من سلامة الصدر والبعد عن الريبة. ثم أخبر أنه تعالى {بما تعملون عليم} أي بما تأتون وما تذرون مما خوطبتم به فيجازيكم عليه، وفي ذلك توعد لأهل التجسس على البيوت وطلب الدخول على غيره والنظر لما لا يحل. {ليس عليكم جناح} قال الزمخشري: استثنى من البيوت التي يجب الاستئذان على داخلها ما ليس بمسكون منها نحو الفنادق وهي الخانات والربط وحوانيت البياعين، والمتاع المنفعة كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع انتهى. وما ذكره الزمخشري من أنه استثناء من البيوت كما ذكر هو مروي عن ابن عباس وعكرمة والحسن، ولا يظهر أنه استثناء لأن الآية الأولى في البيوت المسكونة والمملوكة، ولذلك قال {بيوتاً غير بيوتكم} وهذا الآية الثانية هي في البيوت المباحة، وقد مثل العلماء لهذه البيوت أمثلة. فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد: هي في الفنادق التي في طرق المسافرين. قال مجاهد: لا يسكنها أحد بل هي موقوفة يأوي إليها كل ابن سبيل. و{فيها متاع} لهم أي استمتاع بمنفعتها، ومثل عطاء بالخرب التي تدخل للتبرز. وقال ابن زيد والشعبي: هي حوانيت القيسارية والسوق. قال ابن الحنيفة أيضاً: هي دور مكة، وهذا لا يسوغ إلا على القول بأن دور مكة غير مملوكة، وأن الناس فيها شركاء وأن مكة فتحت عنوة. {والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} وعيد للذين يدخلون البيوت غير المسكونة من أهل الريب. و {من} في {من أبصارهم} عند الأخفش زائدة أي {يغضوا} {أبصارهم} عما يحرم، وعند غيره للتبعيض وذلك أن أول نظرة لا يملكها الإنسان وإنما يغض فيما بعد ذلك، ويؤيده قوله لعليّ كرم الله وجهه: لا تتبع النظرة النظرة فإن الأولى لك وليست لك الثانية. وقال ابن عطية: يصح أن تكون {من} لبيان الجنس، ويصح أن تكون لابتداء الغاية انتهى. ولم يتقدم مبهم فتكون {من} لبيان الجنس على أن الصحيح أن من ليس من موضوعاتها أن تكون لبيان الجنس. {ويحفظوا فروجهم} أي من الزنا ومن التكشف. ودخلت {من} في قوله {من أبصارهم} دون الفرج دلالة على أن أمر النظر أوسع، ألا ترى أن الزوجة ينظر زوجها إلى محاسنها من الشعر والصدور والعضد والساق والقدم، وكذلك الجارية المستعرضة وينظر من الأجنبية إلى وجهها وكفيها وأما أمر الفرج فمضيق. وعن أبي العالية وابن زيد: كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلاّ هذا فهو من الاستتار، ولا يتعين ما قاله بل حفظ الفرج يشمل النوعين. {ذلك} أي غض البصر وحفظ الفرج أطهر لهم {إن الله خبير بما يصنعون} من إحالة النظر وانكشاف العورات، فيجازي على ذلك. وقدم غض البصر على حفظ الفرج لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أشد وأكثر لا يكاد يقدر على الاحتزاز منه، وهو الباب الأكبر إلى القلب وأعمر طرق الحواس إليه ويكثر السقوط من جهته. وقال بعض الأدباء: وما الحب إلا نظرة إثر نظرة *** تزيد نمواً إن تزده لجاجا ثم ذكر تعالى حكم المؤمنات في تساويهنّ مع الرجال في الغض من الأبصار وفي الحفظ للفروج. ثم قال {ولا يبدين زينتهن} واستثنى ما ظهر من الزينة، والزينة ما تتزين به المرأة من حلّي أو كحل أو خضاب، فما كان ظاهراً منها كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب فلا بأس بإبدائه للأجانب، وما خفى منها كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط فلا تبديه إلا لمن استثنى. وذكر الزينة دون مواضعها مبالغة في الأمر بالتصون والتستر لأن هذه الزين واقعة على مواضع من الحسد لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء وهي الساق والعضد والعنق والرأس والصدر والآذان، فنهى عن إبداء الزين نفسها ليعلم أن النظر لا يحل إليها لملابستها تلك المواقع بدليل النظر إليها غير ملابسة لها، وسومح في الزينة الظاهرة لأن سترها فيه حرج فإن المرأة لا تجد بدًّا من مزاولة الأشياء بيدها ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها خاصة الفقيرات منهنّ وهذا معنى قوله {إلا ما ظهر منها} يعني إلاّ ما جرت العادة والجبلة على ظهوره، والأصل فيه الظهور وسومح في الزينة الخفيفة. أولئك المذكورون لما كانوا مختصين به من الحاجة المضطرة إلى مداخلتهم ومخالطتهم ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم ولما في الطباع من النفر عن مماسة القرائب، وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك. وقال ابن مسعود {ما ظهر منها} هو الثياب، ونص على ذلك أحمد قال: الزينة الظاهرة الثياب، وقال تعالى {خذوا زينتكم عند كل مسجد} وفسرت الزينة بالثياب. وقال ابن عباس: الكحل والخاتم. وقال الحسن في جماعة: الوجه والكفان. وقال ابن جريج: الوجه والكحل والخاتم والخضاب والسوار. وقال الحسن أيضاً: الخاتم والسور. وقال ابن عباس: الكحل والخاتم فقط. وقال المسور بن مخرمة: هما والسوار. وقال الحسن أيضاً: الخاتم والسوار. وقال ابن بحر: الزينة تقع على محاسن الخلق التي فعلها الله وعلى ما يتزين به من فضل لباس، فنهاهنّ الله عن إبداء ذلك لمن ليس بمحرم واستثنى ما لا يمكن اخفاؤه في بعض الأوقات كالوجه والأطراف على غير التلذذ. وأنكر بعضهم إطلاق الزينة على الخلقة والأقرب دخوله في الزينة وأي زينة أحسن من خلق العضو في غاية الاعتدال والحسن. وفي قوله {وليضربن بخمرهنّ على جيوبهنّ} دليل على أن الزينة ما يعم الخلقة وغيرها، منعهنّ من إظهار محاسن خلقهنّ فأوجب سترها بالخمار. وقد يقال لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورها عادة وعبادة في الصلاة والحج حسن أن يكون الاستثناء راجعاً إليهما، وفي السنن لأبي داود أنه عليه السلام قال: «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلاّ هذا: وأشار إلى وجهه وكفيه» وقال ابن خويز منداد: إذا كانت جميلة وخيف من وجهها وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك، وكان النساء يغطين رؤوسهنّ بالأخمرة ويسدلنها من وراء الظهر فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر عليهنّ وضمَّن {وليضربن} معنى وليلقين وليضعن، فلذلك عداه بعلى كما تقول ضربت بيدي على الحائط إذا وضعتها عليه. وقرأ عياش عن أبي عمرو {وليضربن} بكسر اللام وطلحة {بخمرهنّ} بسكون الميم وأبو عمرو ونافع وعاصم وهشام {جيوبهن} بضم الجيم وباقي السبعة بكسر الجيم. وبدأ تعالى بالأزواج لأن اطلاعهم يقع على أعظم من الزينة، ثم ثنى بالمحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة ولكن تختلف مراتبهم في الحرمة بحسب ما في نفوس البشر، فالأب والأخ ليس كابن الزوج فقد يُبدي للأب ما لا يبدى لابن الزوج. ولم يذكر تعالى هنا العم ولا الخال. وقال الحسن: هما كسائر المحارم في جواز النظر قال: لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع وهو كالنسب، وقال في سورة الأحزاب {لا جناح عليهن في آبائهن} ولم يذكر فيها البعولة وذكرهم هنا، والإضافة في {نسائهن} إلى المؤمنات تقتضي تعميم ما أضيف إليهن من النساء من مسلمة وكافرة كتابية ومشركة من اللواتي يكن في صحبة المؤمنات وخدمتهن، وأكثر السلف على أن قوله {أو نسائهن} مخصوص بمن كان على دينهن. قال ابن عباس: ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة ولا تبدي للكافرة إلاّ ما تبدي للأجانب إلاّ أن تكون أَمة لقوله {أو ما ملكت أيمانهن} وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن امنع نساء أهل الذمة من دخول الحمام مع المؤمنات. والظاهر العموم في قوله {أو ما ملكت أيمانهن} فيشمل الذكور والإناث، فيجوز للعبد أن ينظر من سيدته ما ينظر أولئك المستثنون وهو مذهب عائشة وأم سلمة. وعن مجاهد: كان أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم، وروي أن عائشة كانت تمتشط وعبدها ينظر إليها. وعن سعيد بن المسيب مثله ثم رجع عنه. وقال ابن مسعود والحسن وابن المسيب وابن سيرين: لا ينظر العبد إلى شعر مولاته وهو قول أبي حنيفة. وفي الحديث: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً فوق ثلاث إلاّ مع ذي محرم» والعبد ليس بذي محرم. وقال سعيد بن المسيب: لا يغرنكم آية النور فإن المراد بها الإماء. قال الزمخشري: وهذا هو الصحيح لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي منها خصياً كان أو فحلاً. وعن ميسون بنت بحدل الكلابية: إن معاوية دخل عليها ومعه خصي فتقنعت منه، فقال: هو خصي فقالت: يا معاوية أترى المثلة تحلل ما حرم الله. وعند أبي حنيفة لا يحل إمساك الخصيان واستخدامهم وبيعهم وشراؤهم، ولم ينقل عن أحد من السلف إمساكهم انتهى. والإربة الحاجة إلى الوطء لأنهم بله لا يعرفون شيئاً من أمر النساء، ويتبعون لأنهم يصيبون من فضل الطعام. قال ابن عطية: ويدخل في هذه الصفة المجنون والمعتوه والمخنث والشيخ الفاني والزمِن الموقوذ بزمانته. وقرأ ابن عامر وأبو بكر بالنصب على الحال أو الاستثناء وباقي السبعة بالجر على النعت وعطف {أو الطفل} على {من الرجال} قسم التابعين غير أولي الحاجة للوطء إلى قسمين رجال وأطفال، والمفرد المحكي بأل يكون للجنس فيعم، ولذلك وصف بالجمع في قوله {الذين لم يظهروا} ومن ذلك قول العرب: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض يريد الدنانير والدراهم فكأنه قال: أو الأطفال. و {الطفل} ما لم يبلغ الحلم وفي مصحف حفصة أو الأطفال جمعاً. وقال الزمخشري: وضع الواحد موضع الجمع لأنه يفيد الجنس ويبين ما بعده أنه يراد به الجمع ونحوه {يخرجكم طفلاً} انتهى. ووضع المفرد موضع الجمع لا ينقاس عند سيبويه وإنما قوله {الطفل} من باب المفرد المعرف بلام الجنس فيعم كقوله {إن الإنسان لفي خسر} ولذلك صح الاستثناء منه والتلاوة ثم يخرجكم بثم لا بالواو. وقوله ونحوه ليس نحوه لأن هذا معرف بلام الجنس وطفلاً نكره، ولا يتعين حمل طفلاً هنا على الجمع الذي لا يقيسه سيبويه لأنه يجوز أن يكون المعنى ثم يخرج كل واحد منكم كما قيل في قوله تعالى {واعتدت لهن متكأ} أي لكل واحدة منهن. وكما تقول: بنو فلان يشبعهم رغيف أي يشبع كل واحد منهم رغيف. وقوله {لم يظهروا} إما من قولهم ظهر على الشيء إذا اطّلع عليه أي لا يعرفون ما العورة ولا يميزون بينها وبين غيرها، وإما من ظهر على فلان إذا قوي عليه وظهر على القرن أخذه. ومنه {فأصبحوا ظاهرين} أي غالبين قادرين عليه، فالمعنى لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء. وقرأ الجمهور {عورات} بسكون الواو وهي لغة أكثر العرب لا يحركون الواو والياء في نحو هذا الجمع. وروي عن ابن عباس تحريك واو {عورات} بالفتح. والمشهور في كتب النحو أن تحريك الواو والياء في مثل هذا الجمع هو لغة هذيل بن مدركة. ونقل ابن خالويه في كتاب شواذ القراءات أن ابن أبي إسحاق والأعمش قرأ {عورات} بالفتح. قال: وسمعنا ابن مجاهد يقول: هو لحن وإنما جعله لحناً وخطأ من قبل الرواية وإلاّ فله مذهب في العربية بنو تميم يقولون: روضات وجورات وعورات، وسائر العرب بالإسكان. وقال الفراء: العرب على تخفيف ذلك إلاّ هذيلاً فتثقل ما كان من هذا النوع من ذوات الياء والواو. وأنشدني بعضهم: أبو بيضات رائح متأوب *** رفيق بمسح المنكبين سبوح {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن} كانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال. وقال ابن عباس: هو قرع الخلخال بالإجراء وتحريك الخلاخل عند الرجال. وزعم حضرمي أن امرأة اتخذت خلخالاً من فضة واتخذت جزعاً فجعلته في ساقها، فمرت على القوم فضربت برجلها الأرض فوقع الخلخال على الجزع فصوت فنزلت هذه الآية. وقال الزجاج: وسماع صوت ذي الزينة أشد تحريكاً للشهوة من إبدائها انتهى. وقال أبو محمد بن حزم ما معناه أنه تعالى نهاهن عن ذلك لأن المرأة إذا مرت على الرجال قد لا يلتفت إليها ولا يشعر بها: وهي تكره أن لا ينظر إليها، فإذا فعلن ذلك نبهن على أنفسهن وذلك بحبهن في تعلق الرجال بهن، وهذا من خفايا الإعلام بحالهن. وقال مكي: ليس في كتاب الله آية أكثر ضمائر من هذه، جمعت خمسة وعشرين ضميراً للمؤمنات من مخفوض ومرفوع. وقال الزمخشري: وإنما نهى عن إظهار صوت الحلّي بعد ما نهى عن إظهار الحلّي علم بذلك أن النهي عن إظهار مواقع الحلّي أبلغ. {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون} لما سبقت أوامر منه تعالى ومناه، وكان الإنسان لا يكاد يقدر على مراعاتها دائماً وإن ضبط نفسه واجتهد فلا بد من تقصير أمر بالتوبة وبترجي الفلاح إذا تابوا. وعن ابن عباس {توبوا} مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة. وقرأ ابن عامر {أيه المؤمنون} ويا أية الساحر يا أيه الثقلان بضم الهاء، ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف، فلما سقطت الألف بالتقاء الساكنين اتبعت حركتها حركة ما قبلها وضمها التي للتنبيه بعد أي لغة لبني مالك رهط شقيق ابن سلمة، ووقف بعضهم بسكون الهاء لأنها كتبت في المصحف بلا ألف بعدها ووقف بعضهم بالألف.
{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)} لما تقدمت أوامر ونواةٍ في غض البصر وحفظ الفرج وإخفاء الزينة وغير ذلك وكان الموجب للطموح من الرجال إلى النساء ومن النساء إلى الرجال هو عدم التزوج غالباً لأن في تكاليف النكاح وما يجب لكل واحد من الزوجين ما يشغل أمر تعالى بإنكاح الأيامى، وهم الذين لا أزواج لهم من الصنفين حتى يشتغل كل منهما بما يلزمه، فلا يلتفت إلى غيره. والظاهر أن الأمر في قوله {وانكحوا} للوجوب، وبه قال أهل الظاهر، وأكثر العلماء على أنه هنا للندب ولم يخل عصر من الأعصار من وجود {الأيامى} ولم ينكر ذلك ولا أمر الأولياء بالنكاح. وقال الزمخشري: {الأيامى} واليتامى أصلهما أيائم ويتائم فقلبا انتهى. وفي التحرير قال أبو عمر: وأيامى مقلوب أيائم، وغيره من النحويين ذكر أن أيماً ويتيماً جمعاً على أيامي ويتامى شذوذاً يحفظ ووزنه فعالى، وهو ظاهر كلام سيبويه. قال سيبويه في أواخر هذا باب تكسيرك ما كان من الصفات. وقالوا: وج ووجياً كما قالوا: زمن وزمنى فأجروه على المعنى كما قالوا: يتيم ويتامى وأيم وأيامى فأجروه مجرى رجاعي انتهى. وتقدم في المفردات الأيم من لا زوج له من ذكر أو أنثى. وفي شرح كتاب سيبويه لأبي بكر الخفاف: الأيم التي لا زوج لها، وأصله في التي كانت متزوجة ففقدت زوجها برزءٍ طرأ عليها فهو من البلايا، ثم قيل في البكر مجازاً لأنها لا زوج لها انتهى. {منكم} خطاب للمؤمنين، أمر تعالى بإنكاح من تأيم من الأحرار والحرائر ومن فيه صلاح من العبيد والإماء، واندرج المؤنث في المذكر في قوله {والصالحين} وخص الصالحين ليحصن لهم دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم، ولأن {الصالحين} من الأرقاء هم الذين يشفق مواليهم عليهم وينزلونهم منزلة الأولاد في الأثرة والمودة، فكانوا مظنة للاهتمام بشأنهم وتقبل الوصية فيهم، والمفسدون منهم حالهم عند مواليهم على عكس ذلك. وقيل: معنى {والصالحين} أي للنكاح والقيام بحقوقه. وقرأ مجاهد والحسن من عبيدكم بالياء مكان الألف وفتح العين وأكثر استعماله في المماليك. و {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} هذا مشروط بالمشيئة المذكورة في قوله: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله} {والله واسع} أي ذو غنى وسعة، يبسط الله لمن يشاء {عليم} بحاجات الناس، فيجري عليهم ما قدر من الرزق. {وليستعفف} أي ليجتهد في العفة وصون النفس وهو استفعل بمعنى طلب العفة من نفسه وحملها عليها، وجاء الفك على لغة الحجاز ولا يعلم أحد قرأ وليستعف بالإدغام {الذين لا يجدون نكاحاً}. قيل النكاح هنا اسم ما يمهر وينفق في الزواج كاللحاف واللباس لما يلتحف به ويلبس، ويؤيده قوله {حتى يغنيهم الله من فضله} فالمأمور بالاستعفاف هو من عدم المال الذي يتزوج به ويقوم بمصالح الزوجية. والظاهر أنه أمر ندب لقوله قبل {أن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}. ومعنى {لا يجدون نكاحاً} أي لا يتمكنون من الوصول إليه، فالمعنى أنه أمر بالاستعفاف كل من تعذر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر، ثم أغلب الموانع عن النكاح عدم المال و{حتى يغنيهم} ترجئة للمستعففين وتقدمة للوعد بالتفضل عليهم، فالمعنى ليكون انتظار ذلك وتأميله لطفاً في استعفافهم وربطاً على قلوبهم، وما أحسن ما ترتبت هذه الأوامر حيث أمر أولاً بما يعصم عن الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية وهو غض البصر، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام، ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه انتهى. وهو من كلام الزمخشري وهو حسن، ولما بعث السيد على تزويج الصالحين من العبيد والإماء رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ليصيروا أحراراً فيتصرفون في أنفسهم. {والذين يبتغون الكتاب} أي المكاتبة كالعتاب والمعاتبة. {مما ملكت} يعم المماليك الذكور والإناث. و{الذين} يحتمل أن يكون مبتدأ وخبره الجملة، والفاء دخلت في الخبر لما تضمن الموصول من معنى اسم الشرط، ويحتمل أن يكون منصوباً كما تقول: زيداً فاضربه لأنه يجوز أن تقول زيداً فاضرب، وزيداً اضرب، فإذا دخلت الفاء كان التقدير بنية فاضرب زيداً فالفاء في جواب أمر محذوف، وهذا يوضح في النحو بأكثر من هذا. قال الأزهري: وسمي هذا العقد مكاتبة لما يكتب للعبد على السيد من العتق إذا أدى ما تراضيا عليه من المال، وما يكتب للسيد على العبد من النجوم التي يؤديها، والظاهر وجوب المكاتبة لقوله {فكاتبوهم} وهذا مذهب عطاء وعمرو بن دينار والضحاك وابن سيرين وداود، وظاهر قول عمر لأنه قال لأنس حين سأل سيرين الكتابة فتلكأ أنس كاتبه، أو لأضربنك بالدرة، وذهب مالك وجماعة إلى أنه أمر ندب وصيغتها كاتبتك على كذا، ويعين ما كاتبه عليه، وظاهر الأمر يقتضي أنه لا يشترط تنجيم ولا حلول بل يكون حالاً ومؤجلاً ومنجماً وغير منجم، وهذا مذهب أبي حنيفة. وقال الشافعي: لا يجوز على أقل من ثلاثة أنجم. وقال أكثر العلماء: يجوز على نجم واحد. وقال ابن خويز منداد: إذا كاتب على مال معجل كان عتقاً على مال ولم تكن كتابة، وأجاز بعض المالكية الكتابة الحالية وسماها قطاعة. والخير المال قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء والضحاك، أو الحيلة التي تقتضي الكسب قاله ابن عباس أيضاً أو الدين قاله الحسن، أو إقامة الصلاة قاله عبيدة السلماني، أو الصدق والوفاء والأمانة قاله الحسن وإبراهيم أو إرادة خير بالكتابة قاله سعيد بن جبير. وقال الشافعي: الأمانة والقوة على الكسب والذي يظهر من الاستعمال أنه الدين يقول: فلان فيه خير فلا يتبادر إلى الذهن إلاّ الصلاح، والأمر بالكتابة مقيد بهذا الشرط، فلو لم يعلم فيه خيراً لم تكن الكتابة مطلوبة بقوله {فكاتبوهم} والظاهر في {وآتوهم} أنه أمر للمكاتبين وكذا قال المفسرون وجمهور العلماء، واختلفوا هل هو على الوجوب أو على الندب؟ واستحسن ابن مسعود والحسن أن يكون ثلث الكتابة وَعلى ربعها، وقتادة عشرها. وقال عمر: من أول نجومه مبادرة إلى الخير. وقال مالك: من آخر نجم. وقال بريدة والحسن والنخعي وعكرمة والكلبي والمقاتلان: أمر الناس جميعاً بمواساة المكاتب وإعانته. وقال زيد بن أسلم: الخطاب لولاة الأمور أن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حقهم وهو الذي تضمنه قوله {وفي الرقاب}. وقال صاحب النظم: لو كان المراد بالإيتاء الحط لوجب أن تكون العبارة العربية ضعوا عنهم أو قاصوهم، فلما قال {وآتوهم} دل على أنه من الزكاة إذ هي مناولة وإعطاء، ويؤكده أنه أمر بإعطاء وما أطلق عليه الإعطاء كان سبيله الصدقة. وقوله {من مال الله الذي آتاكم} هو ما ثبت ملكه للمالك أمر بإخراج بعضه، ومال الكتابة ليس بدين صحيح لأنه على عبده، والمولى لا يثبت له على عبده دين صحيح، وأيضاً ما آتاه الله هو الذي يحصل في يده ويملكه وما يسقطه عقيب العقد لا يحصل له عليه ملك فلا يستحق الصفة بأنه من مال الله الذي آتاه. {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} في صحيح مسلم عن جابر إن جارية لعبد الله بن أُبَيّ يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة كان يكرههما على الزنا، فشكيا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وقيل: كانت له ست معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة جاءته إحداهن ذات يوم بدينار وأخرى ببرد، فقال لهما ارجعا فازنيا، فقالتا: والله لا نفعل ذلك وقد جاءنا الله بالإسلام وحرم الزنا، فأتتا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكتا فنزلت والفتاة المملوكة وهذا خطاب للجميع، ويؤكد أن يكون {وآتوهم} خطاباً للجميع والنهي عن الإكراه على الزنا مشروط بإرادة التعفف منهن، لأنه لا يمكن الإكراه إلاّ مع إرادة التحصن، أما إذا كانت مريدة للزنا فإنه لا يتصور الإكراه. وكلمه {إن} وايثارها على إذا إيذان بأن المسافحات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن، وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من خبر الشاذ النادر. وقد ذهب هذا النظر على كثير من المفسرين فقال بعضهم {إن أردن} راجع إلى قوله {وأنكحوا الأيامى منكم} وهذا فيه بعد وفصل كثير، وأيضاً فالأيامى يشمل الذكور والإناث، فكان لو أريد هذا المعنى لكان التركيب: إن أرادوا تحصناً فيغلب المذكر على المؤنث. وقال بعضهم: هذا الشرط ملغى. وقال الكرماني: هذا شرط في الظاهر وليس بشرط كقوله {إن علمتم فيهم خيراً} ومع أنه وإن كان لم يعلم خيراً صحت الكتابة. وقال ابن عيسى: جاء بصيغة الشرط لتفحيش الإكراه على ذلك، وقال: لأنها نزلت على سبب فوقع النهي على تلك الصفة انتهى. و{عرض الحياة الدنيا} هو ما يكسبنه بالزنا. وقوله {فإن الله} جواب للشرط. والصحيح أن التقدير {غفور رحيم} لهم ليكون جواب الشرط فيه ضمير يعود على من الذين هو اسم الشرط، ويكون ذلك مشروطاً بالتوبة. ولما غفل الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء عن هذا الحكم قدروا {فإن الله} {غفور رحيم} لهن أي للمكرهات، فعريت جملة جواب الشرط من ضمير يعود على اسم الشرط. وقد ضعف ما قلناه أبو عبد الله الرازي فقال: فيه وجهان أحدهما: فإن الله غفور رحيم لهنّ لأن الإكراه يزيل الإثم والعقوبة من المكره فيما فعل، والثاني: فإن الله غفور رحيم للمكره بشرط التوبة، وهذا ضعيف لأنه على التفسير الأول لا حاجة لهذا الإضمار. وعلى الثاني يحتاج إليه انتهى. وكلامهم كلام من لم يمعن في لسان العرب. فإن قلت: قوله {إكراههن} مصدر أضيف إلى المفعول والفاعل مع المصدر محذوف، والمحذوف كالملفوظ والتقدير من بعد إكراههم إياهنّ والربط يحصل بهذا المحذوف المقدر فلتجز المسألة قلت: لم يعدوا في الروابط الفاعل المحذوف، تقول: هند عجبت من ضربها زيداً فتجوز المسألة، ولو قلت هند عجبت من ضرب زيداً لم تجز. ولما قدر الزمخشري في أحد تقدير أنه لهن أورد سؤالاً فإن قلت: لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن لأن المكرهة على الزنا بخلاف المكره عليه في أنها غير آثمة قلت: لعل الإكراه كان دون ما اعتبرته الشريعة من إكراه بقتل أو بما يخاف منه التلف أو ذهاب العضو من ضرب عنيف وغيره حتى يسلم من الإثم، وربما قصرت عن الحد الذي تعذر فيه فتكون آثمة انتهى. وهذا السؤال والجواب مبنيان على تقدير لهنّ. وقرأ {مبينات} بفتح الياء الحرميان وأبو عمرو وأبو بكر أي بيَّن الله في هذه السورة وأوضح آيات تضمنت أحكاماً وحدوداً وفرائض، فتلك الآيات هي المبينة، ويجوز أن يكون المراد مبيناً فيها ثم اتسع فيكون المبين في الحقيقة غيرها. وهي ظرف للمبين. وقرأ باقي السبعة والحسن وطلحة والأعمش بكسر الياء، فإما أن تكون متعدية أي {مبينات} غيرها من الأحكام والحدود، فأسند ذلك إليها مجازاً، وإما أن تكون لا تتعدى أي بينات في نفسها لا تحتاج إلى موضح بل هي واضحة لقولهم في المثل. قد بيَّن الصبح لذي عينين. أي قد ظهر ووضح. وقوله {ومثلاً} معطوف على آيات، فيحتمل أن يكون المعنى {ومثلاً} من أمثال الذين من قبلكم، أي قصة غريبة من قصصهم كقصة يوسف ومريم في براءتهما لبراءة من رميت بحديث الإفك لينظروا قدرة الله في خلقه وصنعه فيه فيعتبروا. وقال الضحاك: والمراد بالمثل ما في التوراة والإنجيل من إقامة الحدود، فأنزل في القرآن مثله. وقال مقاتل: أي شبهاً من حالهم في تكذيب الرسل أي بينا لكم ما أحللنا بهم من العذاب لتمردهم، فجعلنا ذلك مثلاً لكم لتعلموا أنكم إذا شاركتموهم في المعصية كنتم مثلهم في استحقاق العقاب. {وموعظة للمتقين} أي ما وعظ في الآيات والمثل من نحو قوله {ولا تأخذكم بهما رأفة} {ولولا إذ سمعتموه. *** *** يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً} وخص المتقين لأنهم المنتفعون بالموعظة.
|