الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر الرائق شرح كنز الدقائق ***
(قوله: ومن لم يدخل مكة ووقف بعرفة سقط عنه طواف القدوم) مجاز عن عدم سنيته في حقه فإن حقيقة السقوط لا تكون إلا في اللازم إما لأنه ما شرع إلا في ابتداء الأفعال فلا يكون سنة عند التأخر ولا شيء عليه بتركه؛ لأنه سنة، وإما لأن طواف الزيارة أغنى عنه كالفرض يغني عن تحية المسجد ولذا لم يكن للعمرة طواف قدوم؛ لأن طوافها أغنى عنه قيد بطواف القدوم؛ لأن القارن إذا لم يدخل مكة ووقف بعرفة فإنه صار رافضا لعمرته فيلزمه دم لرفضها، وقضاؤها كما سيأتي في آخر القران. (قوله: ومن وقف بعرفة ساعة من الزوال إلى فجر النحر فقد تم حجه ولو جاهلا أو نائما أو مغمى عليه)؛ لأنه عليه السلام وقف بعد الزوال، وقال من أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج فكان فعله بيانا لأول وقته، وقوله بيانا لآخره والمراد بالساعة الساعة العرفية وهو اليسير من الزمان وهو المحمل عند إطلاق الفقهاء لا الساعة عند المنجمين كما بيناه في الحيض والمراد بتمام الحج بالوقوف في الحديث وعبارتهم الأمن من البطلان لا حقيقته إذ بقي الركن الثاني وهو الطواف، وأفاد أن النية ليست بشرط لصحة الوقوف وقيد به؛ لأن الطواف لا بد له من النية حتى لو طاف هاربا من عدو، ولا يصح والفرق بينهما أن الطواف عبادة مقصودة ولهذا يتنفل به فلا بد من اشتراط أصل النية وإن كان غير محتاج إلى تعيينه حتى إن المحرم لو طاف يوم النحر ونوى به النذر يجزيه عن طواف الزيارة لا عما وجب عليه، وأما الوقوف فليس بعبادة مقصودة، ولهذا لا يتنفل به فوجود النية في أصل العبادة وهو الإحرام يغني عن اشتراطه في الوقوف مع أن الوقوف أعظم الركنين لكن باعتبار الأمن على البطلان عند فعله لا من كل وجه. (قوله: ولو أهل عنه رفيقه بإغمائه جاز) أي أحرم أطلقه فشمل ما إذا كان أمره بأن يحرم عنه عند عجزه أولا، والأول متفق عليه وفي الثاني خلاف أبي يوسف ومحمد بناء على أن المرافقة أمر به دلالة عند العجز عند أبي حنيفة، وعندهما إنما تراد المرافقة لأمر السفر لا غير، ويتفرع على ثبوت الإذن دلالة مسائل ذكرها في جامع الفصولين منها مسألة الحج ومنها ذبح شاة قصاب شدها للذبح لا ضمان عليه لا لو لم يشدها، ومنها ذبح أضحية غيره من أيامها بلا إذنه ذكرها في أكثر الكتب مطلقة وقيدت في بعضها بما إذا أضجعها للذبح ومنها وضع القدر على كانون وفيه اللحم ووضع الحطب تحتها فوقد النار رجل وطبخ لا ضمان عليه، ومنها جعل بره في دورق وربط الحمار فساقه رجل حتى طحنه، ومنها سقط حمل في الطريق فحمل بلا إذن ربه فتلفت الدابة ومنها رفع جرة نفسه فأعانه آخر على الرفع فانكسرت. ومنها مزارع زرع الأرض ببذر ربها ولم ينبت حتى سقاها ربها بلا أمره فالخارج بينهما؛ لأنه لما هيئت للسقي والتربية صار مستعينا بكل من قام به دلالة، وكذا لو سقاها أجنبي والمسألة بحالها ومنها من أحضر فعلة لهدم دار فهدم آخر بلا إذن لا يضمن استحسانا، والأصل في جنسها أن كل عمل لا يتفاوت فيه الناس تثبت الاستعانة فيه بكل أحد دلالة وكل عمل يتفاوت فيه الناس لا تثبت الاستعانة فيه بكل أحد كما لو ذبح شاة وعلقها للسلخ فسلخها رجل بلا إذنه ضمن ا هـ. وقد قدمنا أن الإحرام هو النية مع التلبية فإذا نوى الرفيق ولبى صار المغمى عليه محرما لا الرفيق ولذا يجوز للرفيق بعده أن يحرم عن نفسه، ويصح منه عن المغمى عليه ولو كان محرما لنفسه ولا يلزم النائب التجرد عن المخيط لأجل إحرامه عن المغمى عليه، ولو أحرم عن نفسه وعن رفيقه وارتكب محظور إحرامه لزمه جزاء واحد بخلاف القارن يلزمه جزاءان؛ لأنه محرم بإحرامين. وشمل ما إذا أحرم عنه بحجة أو عمرة أو بهما من الميقات أو بمكة، ولم أره صريحا والمراد بالرفيق واحد من أهل القافلة سواء كان مخالطا له أو لا كما قالوا فيما إذا خاف عطش رفيقه في التيمم أنه الواحد من القافلة، كما صرح به الحدادي في السراج الوهاج فحينئذ ذكر الرفيق في عبارتهم هنا لبيان الواقع، لكن ذكر في المحيط أنه لو أحرم عنه غير رفيقه على قول أبي حنيفة قيل يجوز وقيل لا يجوز، ولم يرجح ورجح في فتح القدير الجواز؛ لأن هذا من باب الإعانة لا الولاية ودلالة الإعانة قائمة عند كل من علم قصده رفيقا كان أو لا، وأصله أن الإحرام شرط عندنا اتفاقا كالوضوء وستر العورة، وإن كان له شبه بالركن فجازت النيابة فيه بعد وجود نية العبادة منه عند خروجه من بلده. وإنما اختلفوا في هذه المسألة بناء على أن المرافقة تكون أمرا به دلالة عند العجز أو لا ا هـ. ويرجحه أيضا أن المسائل التي ذكرنا أن الإذن ثابت فيها دلالة لم تختص بواحد معين بل الناس كلهم فيها على السواء. وأشار إلى أنه لو استمر مغمى عليه إلى وقت أداء الأفعال فأدى عنه رفيقه فإنه يجوز، وإن لم يشهد به المشاهد ولم يطف به، وصححه صاحب المبسوط؛ لأن هذه العبادة مما تجزئ فيها النيابة عند العجز كما في استنابة الزمن غير أنه إن أفاق قبل الأفعال تبين أن عجزه كان في الإحرام فقط فصحت النيابة فيه، ثم يجري هو على موجبه، وإن لم يفق تحقق عجزه عن الكل غير أنه لا يلزم الرفيق بفعل المحظور شيء بخلاف النائب في الحج عن الميت؛ لأنه يتوقع إفاقته في كل ساعة فنقلنا الإحرام إليه بخلاف الميت وقيد بكونه أغمي عليه قبل الإحرام إذ لو أغمي عليه بعد الإحرام فلا بد من أن يشهد به الرفيق المناسك عند أصحابنا جميعا على ما ذكره فخر الإسلام؛ لأنه هو الفاعل. وقد سبقت النية منه، ويشترط نيتهم الطواف إذا حملوه كما يشترط نيته، وقيدنا بالإغماء؛ لأن المريض الذي لا يستطيع الطواف إذا طاف به رفيقه وهو نائم إن كان بأمره جاز؛ لأن فعل المأمور كفعل الآمر وإلا فلا كذا في المحيط فظهر أن النائم يشترط صريح الإذن منه بخلاف المغمى عليه، وأنه يشترط نية الحامل للطواف إن كان المحمول مغمى عليه حتى لو حمله وطاف به طالبا الغريم لم يجزه بخلاف النائم لا تشترط نية الحامل له للطواف؛ لأن نية الإحرام منه كافية كما صرح به في المحيط وفيه بحث فإن الطواف لا بد له من أصل النية ولا يكفي نية الإحرام له كما قدمناه فينبغي أنه لا بد من نية الحامل في المسألتين اللهم إلا أن يقال أن نية الإحرام لا تكفي للطواف عند القدرة عليها. وأما النائم فلا قدرة له عليها وذكر في المحيط أن استئجار المريض من يحمله ويطوف به صحيح وله الأجرة إذا طاف به، وأن المريض الذي لا يستطيع الرمي توضع الحصاة في كفه ليرمي به أو يرمي عنه غيره بأمره، ودل كلامه أن للأب أن يحرم عن ولده الصغير والمجنون ويقضي المناسك كلها بالأولى، ولو ترك رمي الجمار أو الوقوف بالمزدلفة لا يلزمه شيء كذا في المحيط، وذكر الإسبيجابي ومن طيف به محمولا أجزأه ذلك الطواف عن الحامل والمحمول جميعا، وسواء نوى الحامل الطواف عن نفسه وعن المحمول أو لم ينو، أو كان للحامل طواف العمرة وللمحمول طواف الحج أو للحامل طواف الحج وللمحمول طواف العمرة أو يكون الحامل ليس بمجرد والمحمول عما أوجبه إحرامه وإن طيف به لغير علة طواف العمرة أو الزيارة وجب عليه الإعادة أو الدم ا هـ. (قوله: والمرأة كالرجل غير أنها تكشف وجهها لا رأسها ولا تلبي جهرا ولا ترمل ولا تسعى بين الميلين ولا تحلق رأسها ولكن تقصر وتلبس المخيط)؛ لأن أوامر الشرع عامة جميع المكلفين ما لم يقم دليل على الخصوص، وإنما لا تكشف رأسها لأنه عورة بخلاف وجهها فاشتركا في كشف الوجه وانفردت بتغطية الرأس، ولما كان كشف وجهها خفيا؛ لأن المتبادر إلى الفهم أنها لا تكشفه لما أنه محل الفتنة نص عليه وإن كانا سواء فيه ولما قدم في باب الإحرام أن الرجل يكشف وجهه ورأسه لم يتوهم هنا من عبارته اختصاصها بكشف الوجه، والمراد بكشف الوجه عدم مماسة شيء له فلذا يكره لها أن تلبس البرقع لأن ذلك يماس وجهها كذا في المبسوط ولو أرخت شيئا على وجهها وجافته لا بأس به كذا ذكر الإسبيجابي لكن في فتح القدير أنه يستحب، وقد جعلوا لذلك أعوادا كالقبة توضع على الوجه وتستدل من فوقها الثوب وفي فتاوى قاضي خان ودلت المسألة على أنها لا تكشف وجهها للأجانب من غير ضرورة ا هـ. وهو يدل على أن هذا الإرخاء عند الإمكان ووجود الأجانب واجب عليها إن كان المراد لا يحل أن تكشف فمحمل الاستحباب عند عدمهم وعلى أنه عند عدم الإمكان فالواجب من الأجانب غض البصر، لكن قال النووي في شرح مسلم قبيل كتاب السلام في قوله: {سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري}. قال العلماء وفي هذا حجة أنه لا يجب على المرأة أن تستر وجهها في طريقها، وإنما ذلك سنة مستحبة لها، ويجب على الرجال غض البصر عنها إلا لغرض شرعي ا هـ. وظاهره نقل الإجماع فيكون معنى ما في الفتاوى لا ينبغي كشفها، وإنما لا تجهر بالتلبية لما أن صوتها يؤدي إلى الفتنة على الصحيح أو عورة على ما قيل كما حققناه في شروط الصلاة، وإنما لا رمل ولا سعي لها لما أنه يخل بالستر أو لأن أصل المشروعية لإظهار الجلد وهو للرجال وأشار إلى أنها لا تضطبع؛ لأنه سنة الرمل، وإنما لا تحلق لكونه مثلة كحلق اللحية وأطلق في التقصير فأفاد أنها كالرجل فيه خلافا لما قيل أنه لا يتقدر في حقها بالربع بخلاف الرجل، وإنما تلبس المخيط لما أنها عورة. وأشار بعدم الرمل إلا أنها لا تستلم الحجر إذا كان هناك جمع؛ لأنها ممنوعة عن مماسة الرجال بخلاف ما إذا لم يكن لعدم المانع. وأشار بلبس المخيط إلى لبس الخفين والقفازين، وما ذكره الشارح من أنها لا تحج إلا بمحرم بخلاف الرجل ليس مما نحن فيه؛ لأن هذا لا يختص بالحج بل هو حكم كل سفر، ومن أنها تترك طواف الصدر بعذر الحيض فليس منه أيضا؛ لأن الحيض غير ممكن من الرجل حتى تخالفه في أحكامه، وكذا ما ذكره الإسبيجابي من أنه لا يجب فيها بتأخير طواف الزيارة عن أيام النحر لأجل الحيض والنفاس شيء. قالوا: والخنثى المشكل في جميع ما ذكرنا كالمرأة احتياطا ولا يخلو بامرأة ولا برجل لأنه يحتمل أن يكون ذكرا ويحتمل أن يكون أنثى. (قوله: ومن قلد بدنة تطوع أو نذر أو جزاء صيد أو نحوه فتوجه معها يريد الحج فقد أحرم) بيان لما يقوم مقام التلبية لأن المقصود من التلبية إظهار الإجابة للدعوة وهو حاصل بتقليد الهدي قيد بكونه محرما بثلاثة التقليد والتوجه وإرادة النسك فأفاد أن التقليد وحده لا يكفي، وكذا أخواه وكذا لو تقلد وساق ولم ينو لا يكون محرما فما ذكره الإسبيجابي من أنه لو قلدها وساقها قاصدا إلى مكة صار محرما بالسوق نوى الإحرام أو لم ينو مخالف لما عليه العامة فلا يعول عليه كذا في فتح القدير، وقد يقال إن قصد مكة منه نية فلا يحتاج معه إلى نية أخرى فلا مخالفة منه لما عليه العامة، وأراد بجزاء الصيد جزاء صيد عليه في حجة سابقة فقلده في السنة الثانية أو جزاء صيد الحرم، وأفاد بقوله أو نحوه إلى أن هذا الحكم لا يختص بشيء بل المراد أنه قلد بدنة مطلقة، والتقليد أن يعلق على عنق بدنته قطعة نعل أو شراك نعل أو عروة مزادة أو لحاء شجر أو نحو ذلك مما يكون علامة على أنه هدي، والمعنى بالتقليد إفادة أنه عن قريب يصير جلده كذا اللحاء والنعل في اليبوسة لإراقة دمه، وكان في الأصل يفعل ذلك كي لا تهاج عن الورود والكلإ ولترد إذا ضلت للعلم بأنه هدي، وذكر الشارح أنه لو اشترك جماعة في بدنة فقلدها أحدهم صاروا محرمين إن كان ذلك بأمر البقية وساروا معها. (قوله: فإن بعث بها ثم توجه إليها لا يصير محرما حتى يلحقها إلا في بدنة المتعة) لفقد أحد الشروط الثلاثة، وهو السوق في الابتداء فإذا أدركها اقترنت نيته بفعل ما هو من خصائصها إلا في هدي هو من خصائص الحج وضعا، وهو هدي المتعة والقران فإنه لا يحتاج فيه إلى الإدراك، والمتعة تشمل التمتع العرفي والقران؛ لأن المذكور في الآية إنما هو التمتع بقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} إلى آخره فهو دليلهما فلذا اقتصر المصنف على المتعة، ولما كان التمتع لا يكون قبل أشهر الحج لم يقيد البعث بأشهر الحج فاستغنى عن تقييد النهاية ثم المصنف تبعا للجامع الصغير شرط اللحوق فقط، ولم يشترط السوق معه وشرطهما في المبسوط، والظاهر الأول؛ لأن فعل الوكيل بحضرة الموكل كفعل الموكل كذا علل به في فتح القدير، وقد يقال لا يحتاج إليه؛ لأنه يصير محرما باللحوق، وإن لم يسقها أحد وهذا التعليل إنما هو على قول من يشترط السوق مع اللحوق، وأفاد المصنف أنه لا بد من التوجه إلى بدنة المتعة ولا يكفي البعث. (قوله: وإن جللها أو أشعرها أو قلد شاة لم يكن محرما) يعني وإن ساقها لأنه ليس من خصائص الحج فلم يقم مقام التلبية شيء؛ لأن التجليل لدفع الأذى عنها، والإشعار مكروه عند أبي حنيفة وهو أن يطعن من الجانب الأيسر في السنام فيسيل الدم فلا يكون من النسك، وعندهما وإن كان حسنا فقد يفعل للمعالجة بخلاف التقليد فإنه يختص بالهدي ولذا كان التقليد أحب من التجليل؛ لأنه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتجليل حسن للاتباع، ويستحب التصدق به، وأما تقليد الشاة فغير متعارف وليس بسنة أيضا فلا يقوم مقامها، وقد علم مما قرره المصنف أنه لا يكون محرما بمجرد النية من غير تلبية أو ما يقوم مقامها وهو المذهب وعن أبي يوسف أنه يكتفى بالنية ولا خلاف أن التلبية وحدها لا تكفي بلا نية. (قوله: والبدن من الإبل والبقر) يعني لغة وشرعا قال الجوهري البدنة ناقة أو بقرة، وقال النووي أنه قول أكثر أهل اللغة فإذا طلب من المكلف بدنة خرج عن العهدة بالبقرة كالناقة، وأما حديث الرواح يوم الجمعة وعطفه البقرة على البدنة فمحمول على أنه أراد بالأعم بعض الأفراد وهو الجزور لا كل ما يصدق عليه لأنه لو كانت البدنة اسما للجزور فقط للزم النقل عن المعنى اللغوي، وهو خلاف الأصل فالحاصل أن العطف في الحديث يقتضي المغايرة بينهما ظاهرا، ولزوم النقل عن المعنى اللغوي على تقديره خلاف الأصل، فالظاهر عدمه فتعارضا فرجحنا ما ذهبنا إليه لما ثبت في حديث جابر كنا ننحر البدنة عن سبعة فقيل والبقرة فقال وهل هي إلا من البدن، ذكره مسلم في صحيحه، وثمرة الاختلاف تظهر فيما إذا التزم بدنة فإن نوى شيئا فهو على ما نوى؛ لأن المنوي إذا كان من محتملات كلامه فهو كالمصرح به، وإن لم يكن له نية فعليه بقرة أو جزور فينحرها حيث شاء في قولهما خلافا لأبي يوسف فإنه يقيسه على الهدي، وهو يختص بمكة اتفاقا وهما قاساه على ما إذا التزم جزورا فإنه لا يختص بمكة اتفاقا كذا في المبسوط والله أعلم. هو مصدر قرن من باب نصر وفعال يجيء مصدرا من الثلاثي كلباس وهو الجمع بين شيئين يقال قرنت البعيرين إذا جمعت بينهما بحبل، وسيأتي معناه شرعا ثم اعلم أن المحرمين أربعة مفرد بالحج إن أحرم به مفردا أو مفرد بالعمرة إن أحرم بها في غير أشهر الحج وطاف لها كذلك حج من عامه أو لا أو طاف فيها ولم يحج من عامه أو أحرم بها في أشهر الحج وطاف كذلك ولم يحج من عامه أو حج وألم بينهما بأهله إلماما صحيحا، ومتمتع إن أتى بأكثر أشواط العمرة في أشهر الحج بعدما أحرم بها فقط مطلقا، ثم حج من عامه من غير أن يلم بأهله إلماما صحيحا وقارن إن أحرم بهما معا، أو أدخل إحرام الحج على إحرام العمرة قبل أن يطوف لها أكثر الأشواط أو أدخل إحرام العمرة إلى إحرام الحج قبل أن يطوف للقدوم ولو شوطا ولا إساءة في القسمين الأولين وهو قارن مسيء في الثالث، وأما الإحرام المبهم كأن يحرم بنسك مبهم ثم يصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة أو لهما الإحرام المعلق كأن يحرم بإحرام كإحرام زيد فليس خارجا عن الأربعة كما لا يخفى. (قوله: هو أفضل ثم التمتع ثم الإفراد) بيان لأمرين الأول جواز الثلاثة وهو مجمع عليه إلا ما ثبت في الصحيحين عن عمرو وعن عثمان رضي الله عنهما أنهما كان ينهيان عن التمتع، وحمله العلماء على نهي التنزيه حملا للناس على ما هو الأفضل لا أنهما يعتقدان بطلانه مع علمهما بالآية الشريفة، وحمله على أن المراد به فسخ الحج إلى العمرة ضعيف؛ لأن سياق الحديث في الصحيح يقتضي خلافه، وهو ثابت بالكتاب والسنة أيضا، أما الأول فقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} دليل الإفراد. وقوله: {وأتموا الحج والعمرة لله} دليل القران، وقوله: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} دليل التمتع، وأما الثاني فما في الصحيحين من حديث عائشة قالت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بالحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج» وفي رواية لمسلم: «منا من أهل بالحج مفردا ومنا من قرن ومنا من تمتع} الثاني تفضيل القران ثم التمتع ثم الإفراد، وفضل مالك والشافعي الإفراد، وفضل أحمد التمتع وأصله الاختلاف في حجته صلى الله عليه وسلم وقد أكثر الناس الكلام فيها، وأوسعهم نفسا في ذلك الإمام الطحاوي فإنه تكلم في ذلك زيادة على ألف ورقة، وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ليس علي شيء من الاختلاف أيسر من هذا وإن كان الغلط فيه قبيحا من جهة أنه مباح يعني لما كانت الثلاثة مباحة لم يكن في الاختلاف تغيير حكم لكن لما كانت حجة واحدة ولم يتفقوا على نقلها كان اختلافهم قبيحا منهم فما يرجح أنه عليه السلام كان قارنا ما رواه علي في الصحيحين وأنس في الصحيحين بروايات كثيرة وعمران بن الحصين في صحيح مسلم وعمر بن الخطاب في صحيح البخاري وأبي داود والنسائي وحفصة في الصحيحين وأبو موسى الأشعري في الصحيحين. ومما يرجح أنه عليه السلام كان مفردا ما ثبت في الصحيح من رواية جابر وابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم ومما يرجح أنه كان متمتعا ما ثبت عن ابن عمر وعائشة في الصحيحين وعن ابن عباس فيما رواه الترمذي وحسنه وعن عمران بن الحصين في الصحيحين، وجمع أئمتنا بين الروايات بأن سبب رواية الإفراد سماع من رأى تلبيته بالحج وحده، ورواية التمتع سماع من سمعه يلبي بالعمرة، ورواية القران سماع من سمعه يلبي بهما، وهذا لأنه لا مانع من إفراد ذكر نسك في التلبية وعدم ذكر شيء أصلا وجهة أخرى مع نية القران فهو نظير سبب الاختلاف في تلبيته عليه السلام أكانت دبر الصلاة أو عند استواء ناقته أو حين علا على البيداء فروى كل بحسب ما سمع، وما يرجح القران أن من روى الإفراد روى التمتع فتناقض بخلاف من روى التمتع وهو بلغة القرآن الكريم وعرف الصحابة أعم من القران، وترجح الفرد المسمى بالقران في الاصطلاح بما في الصحيح عن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول {أتاني الليلة آت من ربي عز وجل فقال صل في هذا الوادي المبارك ركعتين} وقل عمرة في حجة ولا بد له من امتثال ما أمر به في مقامه الذي هو وحي ولأئمتنا ترجيحات كثيرة. وقال النووي في شرح المهذب والصواب الذي نعتقده أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج أولا مفردا ثم أدخل عليه العمرة فصار قارنا وإدخال العمرة على الحج جائز على أحد القولين عندنا وعلى الأصح لا يجوز لنا، وجاز للنبي صلى الله عليه وسلم تلك السنة للحاجة وأمر به في قوله لبيك عمرة وحجة فمن روى أنه كان مفردا اعتمد أول الإحرام، ومن روى أنه كان قارنا اعتمد آخره، ومن روى أنه كان متمتعا أراد التمتع اللغوي وهو الانتفاع بأن كفاه عن النسكين فعل واحد ويؤيده أنه عليه السلام لم يعتمر تلك السنة عمرة مفردة لا قبل الحج ولا بعده، وقد قدمنا أن القران أفضل من إفراد الحج من غير عمرة بلا خلاف ولو جعلت حجته عليه السلام مفردة لزم أن لا يكون اعتمر تلك السنة، ولم يقل أحد أن الحج وحده أفضل من القران ا هـ. وبهذا تبين صحة ما في النهاية من أن محل الاختلاف بيننا وبين الشافعي إنما هو أن إفراد كل نسك بإحرام في سنة واحدة أفضل أو الجمع بينهما بإحرام واحد أفضل، وأنه لم يقل أحد بتفضيل الحج وحده على القران وتبين به بطلان ما ذكره الشارح هنا ردا على صاحب النهاية. وما روي عن محمد أنه قال حجة كوفية وعمرة كوفية أفضل عندي من القران فليس بموافق لمذهب الشافعي في تفضيل الإفراد فإنه يفضل الإفراد سواء أتى بنسكين في سفرة واحدة أو في سفرتين ومحمد إنما فضل الإفراد إذا اشتمل على سفرين، وبهذا اندفع ما ذكره الشارح من لزوم موافقة محمد للشافعي. (قوله: وهو أن يهل بالعمرة والحج من الميقات ويقول اللهم إني أريد العمرة والحج فيسرهما لي وتقبلهما مني) أي القران أن يلبي بالنسكين مع النية حقيقة أو حكما من غير مكة وما كان في حكمها وإنما عبر بالإهلال للإشارة إلى أن رفع الصوت بها مستحب، وأراد بالميقات ما ذكرنا، وإنما ذكره للإشارة إلى أن القارن لا يكون إلا آفاقيا، وهو أحسن مما ذكره الشارح من أنه قيد اتفاقي فإنه لو أحرم بهما من دويرة أهله أو بعد الخروج قبل الميقات أو داخله فإنه يكون قارنا وقلنا حقيقة أو حكما ليدخل ما إذا أحرم بالعمرة ثم أحرم بالحج قبل أن يطوف لها الأكثر أو أحرم بالحج ثم أحرم بالعمرة قبل أن يطوف له، وإن كان مسيئا في الثاني كما قدمناه لوجود الجمع بينهما في الإحرام حكما، والمراد من قوله ويقول النية لا التلفظ إن عطفه على يهل فيكون منصوبا من تمام الحد، وإن رفع كان ابتداء كلام بيانا للسنة فإن السنة للقارن التلفظ بها وتقديم العمرة في الذكر مستحب؛ لأن الواو للترتيب ولم يشترط المصنف وقوع الإحرام في أشهر الحج أو طواف العمرة فيها كما هو شرط في التمتع لما روي عن محمد أنه لو طاف لعمرته في رمضان فهو قارن ولا دم عليه إن لم يطف لعمرته في أشهر الحج فتوهم بعضهم من هذه الرواية الفرق بين القران والتمتع فيه، وليس كما توهموا فإن القران في هذه الرواية بمعنى الجمع لا القران الشرعي المصطلح عليه بدليل أنه نفى لازم القران بالمعنى الشرعي، وهو لزوم الدم شكرا ونفي اللازم الشرعي نفي للملزوم الشرعي. والحاصل أن النسك المستعقب للدم شكرا هو ما تحقق فيه فعل المشروع المرتفق به الناسخ لما كان في الجاهلية، وذلك بفعل العمرة في أشهر الحج فإن كان مع الجمع في الإحرام قبل أكثر طواف العمرة فهو المسمى بالقران، وإلا فهو التمتع بالمعنى العرفي وكلاهما التمتع بالإطلاق القرآني وعرف الصحابة، وهو في الحقيقة إطلاق اللغة لحصول الرفق به هذا كله على أصول المذهب كذا في فتح القدير. (قوله: ويطوف ويسعى لها ثم يحج كما مر) يعني يأتي بأفعال العمرة أولا من الطواف والسعي بين الصفا والمروة والرمل في الأشواط الثلاثة والسعي بين الميلين الأخضرين وصلاة ركعتي الطواف ثم يأتي بأفعال الحج كلها ثانيا فيبدأ بطواف القدوم ويسعى بعده إن شاء، وهذا الترتيب أعني تقديم العمرة في أفعال الحج واجب لقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} جعل الحج غاية وهو شامل للقران والتمتع كما قدمناه فأفاد أنه لو طاف أولا لحجته وسعى لها ثم طاف لعمرته وسعى لها فطوافه الأول وسعيه يكون للعمرة ونيته لغو، ولم يذكر الحلق للعمرة؛ لأنه لا يتحلل بينهما بالحلق فلو حلق كان جناية على الإحرامين أما على إحرام الحج فظاهر؛ لأن أوان التحلل فيه يوم النحر، وأما على إحرام العمرة فكذلك؛ لأن أوان تحلل القارن يوم النحر كما صرح به الإمام محمد قال الشارح ويؤيده أن المتمتع إذا ساق الهدي وفرغ من أفعال العمرة وحلق يجب عليه الدم ولا يتحلل بذلك من عمرته بل يكون جناية على إحرامها مع أنه ليس محرما بالحج فهذا أولى. (قوله: فإن طاف لهما طوافين وسعى سعيين جاز وأساء) بأن طاف للعمرة والحج أربعة عشر شوطا وسعى كذلك، وأراد بالواو معنى ثم أو الفاء؛ لأن المسألة مفروضة فيما إذا أتى بالسعي بعد الطوافين ولا يفهم هذا من الواو لأنها لمطلق الجمع، ولهذا أتى في الجامع الصغير بثم واختلفوا في ثاني الطوافين في قولهم طاف طوافين فذهب صاحب الهداية والشارحون تبعا للمبسوط إلى أنه طواف القدوم، ولهذا قال في الهداية وقد أساء بتأخير سعي العمرة وتقديم طواف التحية عليه ولا يلزمه شيء أما عندهما فظاهر؛ لأن التقديم والتأخير في المناسك لا يوجب الدم عندهما وعنده طواف التحية سنة وتركه لا يوجب الدم فتقديمه أولى، والسعي بتأخيره بالاشتغال بعمل آخر لا يوجب الدم فكذا بالاشتغال بالطواف ا هـ. وذهب صاحب غاية البيان إلى أن المراد بأحدهما طواف العمرة وبالآخر طواف الزيارة بأن أتى بطواف العمرة ثم اشتغل بالوقوف ثم طاف للزيارة يوم النحر، ثم سعى أربعة عشر شوطا بدليل قولهم في جواب المسألة يجزئه والمجزئ عبارة عما يكون كافيا في الخروج عن عهدة الفرض ولا يحصل الإجزاء بترك الفرض والإتيان بالسنة وبدليل قولهم إن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين عندنا ليس المراد بهما إلا طواف العمرة وطواف الزيارة. (قوله: وإذا رمى يوم النحر ذبح شاة أو بدنة أو سبعها) لقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} والتمتع يشمل القران العرفي والتمتع العرفي كما قدمناه قيد بالذبح بعد الرمي لأن الذبح قبله لا يجوز لوجوب الترتيب، ولم يقيد الذبح بالمحبة كما قيده بها في ذبح المفرد لما أنه واجب على القارن والمتمتع، وأطلق البدنة فشملت البعير والبقرة والسبع جزء من سبعة أجزاء، وإنما كان مجزئا لحديث الصحيحين عن جابر حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحرنا البعير عن سبعة والبقرة عن سبعة. وأشار بالتخيير بين البدنة وسبعها إلى أنه دم عبادة لا دم جناية فيأكل منه كما سيأتي وسيأتي في الأضحية أنه لا بد أن يكون الكل مريدا للقربة، وإن اختلفت جهة القربة فلو أراد أحد السبعة لحما لأهله لا يجزئهم. واستدل له بعض شارحي المصابيح بقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه} وما في المبتغى ولو بعث القارن بثمن هديين فلم يوجد بذلك بمكة إلا هدي واحد فبذبحه لا يتحلل عن الإحرامين ولا عن أحدهما ا هـ. محمول على هدي الإحصار؛ لأن التحلل موقوف عليه لا على ذبح دم الشكر وفي الظهيرية والخانية: والاشتراك في البقرة أفضل من الشاة والجزور أفضل من البقرة كما في الأضحية فإن كان القارن ساق الهدي مع نفسه كان أفضل. (قوله: وصام العاجز عنه ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة وسبعة إذا فرغ ولو بمكة) أي صام العاجز عن الهدي لقوله تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} والعبرة لأيام النحر في العجز والقدرة وكذا لو قدر على الهدي قبل أن يكمل صوم الثلاثة أيام أو بعدما أكمل قبل أن يحلق ويحل وهو في أيام الذبح بطل صومه، ولا يحل إلا بالهدي ولو وجد الهدي بعدما حلق وحل قبل أن يصوم السبعة صح صومه، ولا يجب عليه ذبح الهدي ولو صام ثلاثة أيام ولم يحلق ولم يحل حتى مضت أيام الذبح ثم وجد الهدي فصومه ماض ولا شيء عليه كذا ذكر الإسبيجابي، ويدل على أنه لو صام في وقته مع وجود الهدي ينظر فإن بقي إلى يوم النحر لم يجزه للقدرة على الأصل وإن هلك قبل الذبح جاز للعجز عن الأصل فكان المعتبر وقت التحلل كذا في فتح القدير، وقوله آخرها يوم عرفة بيان للأفضل وإلا فوقته وقت الحج بعد الإحرام بالعمرة؛ لأن المراد بالحج في الآية وقته؛ لأن نفسه لا يصلح ظرفا، وإنما كان الأفضل التأخير؛ لأن الصوم بدل عن الهدي فيستحب تأخيره إلى آخر وقته رجاء أن يقدر على الأصل كذا في الهداية. وأشار بقوله إذا فرغ إلى أن المراد بالرجوع في الآية الفراغ من أعمال الحج مجازا إذ الفراغ سبب للرجوع إلى أهله، وقد عمل الشافعي بالحقيقة فلم يجوز صومها بمكة، ويشهد له حديث البخاري مرفوعا: «وسبعة إذا رجعتم إلى أهليكم} وإنما عدل أئمتنا عن الحقيقة إلى المجاز لفرع مجمع عليه وهو أنه لو لم يكن له وطن أصلا ليرجع إليه بل مستمر على السياحة وجب عليه صومها بهذا النص ولا يتحقق في حقه سوى الرجوع عن الأعمال، وكذا لو رجع إلى مكة غير قاصد للإقامة بها حتى تحقق رجوعه إلى غير أهله ووطنه ثم بدا له أن يتخذها وطنا كان له أن يصوم بها مع أنه لم يتحقق منه الرجوع إلى وطنه كذا في فتح القدير وأراد بالفراغ الفراغ من أعمال الحج فرضا وواجبا وهو بمضي أيام التشريق؛ لأن اليوم الثالث منها يوم للرمي الواجب على من أقام به حتى طلع الفجر فيفيد أنه لو صام السبعة وبعضها من أيام التشريق فإنه لا يجوز، ولما قدمه في بحث الصوم من النهي عن الصوم فيها مطلقا فلذا لم يقيد هاهنا. (قوله: فإن لم يصم إلى يوم النحر تعين الدم) أي إن لم يصم الثلاثة حتى دخل يوم النحر لم يجزه الصوم أصلا، وصار الدم متعينا؛ لأن الصوم بدل والأبدال لا تنصب إلا شرعا، والنص خصه بوقت الحج وجواز الدم على الأصل وعن ابن عمر أنه أمر في مثله بذبح الشاة فلو لم يقدر على الهدي تحلل وعليه دمان دم التمتع ودم التحلل قبل الهدي كذا في الهداية هنا، وقال فيما يأتي في آخر الجنايات فإن حلق القارن قبل أن يذبح فعليه دمان عند أبي حنيفة دم بالحلق في غير أوانه؛ لأن أوانه بعد الذبح، ودم بتأخير الذبح عن الحلق وعندهما يجب عليه دم واحد وهو الأول فنسبه صاحب غاية البيان إلى التخليط لكونه جعل أحد الدمين هنا دم الشكر والآخر دم الجناية وهو صواب وفيما يأتي أثبت عند أبي حنيفة دمين آخرين سوى دم الشكر، ونسبه في فتح القدير أيضا في باب الجنايات إلى السهو، وليس كما قالا بل كلامه صواب في الموضعين فهنا لما لم يكن جانيا بالتأخير لأنه لعجزه لم يلزمه لأجله دم ولزمه دم للحلق في غير أوانه وفي باب الجنايات لما كان جانيا بحلقه قبل الذبح لزمه دمان كما قرره، ولم يذكر دم الشكر؛ لأنه قدمه في باب القران وليس الكلام إلا في الجناية، وسيأتي تمامه هناك بأزيد من هذا إن شاء الله تعالى. (قوله: وإن لم يدخل مكة ووقف بعرفة فعليه دم لرفض العمرة وقضاؤها) يعني إن لم يأت القارن بالعمرة حتى أتى بالوقوف فعليه دم لترك العمرة؛ لأنه تعذر عليه أداؤها؛ لأنه يصير بانيا أفعال العمرة على أفعال الحج، وذلك خلاف المشروع فعدم دخول مكة كناية عن عدم طواف العمرة؛ لأن الدخول وعدمه سواء إذا لم يطف لها، والمراد أكثر أشواطه حتى لو طاف لها أربعة أشواط ثم وقف بعرفة فإنه لا يصير رافضا لها إذ قد أتى بركنها ولم يبق إلا واجباتها من الأقل والسعي، ويأتي بها يوم النحر وهو قارن على حاله بخلاف ما إذا طاف الأقل ثم وقف فإنه كالعدم فيصير رافضا، والمراد بعدم الطواف للعمرة عدم الطواف أصلا فإنه لو طاف طوافا ما ولو قصد به طواف القدوم للحج فإنه ينصرف إلى طواف العمرة، ولم يكن رافضا لها بالوقوف؛ لأن الأصل أن المأتي به من جنس ما هو متلبس به في وقت يصلح له ينصرف إلى ما هو متلبس به وعن هذا قلنا لو طاف وسعى للحج ثم طاف وسعى للعمرة كان الأول لها والثاني له ولا شيء عليه كمن سجد في الصلاة بعد الركوع ينوي سجدة تلاوة انصرف إلى سجدة الصلاة، ولم يقيد الوقوف بعرفة بكونه بعد الزوال كما وقع في كافي الحاكم؛ لأنه لا حاجة إليه؛ لأن الوقوف قبل وقته لا اعتبار به وقيد بالوقوف؛ لأنه لا يكون رافضا لها بمجرد التوجه إلى عرفات هو الصحيح، والفرق بينه وبين مصلي الظهر يوم الجمعة إذا توجه إليها أن الأمر هناك بالتوجه متوجه بعد أداء الظهر والتوجه في القران والتمتع منهي عنه قبل أداء العمرة فافترقا وأطلق في رفضها فشمل ما إذا قصده أو لا، وأشار به إلى سقوط دم القران عنه لعدمه، وإنما وجب دم لرفضها؛ لأن كل من تحلل بغير طواف يجب عليه دم كالمحصر ووجب قضاؤها؛ لأن الشروع ملزم كالنذر والله أعلم.
|